أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-7-2020
6590
التاريخ: 12-7-2020
4290
التاريخ: 2-7-2020
6983
التاريخ: 12-7-2020
4377
|
قال تعالى:{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [يوسف: 50-53]
أخبر سبحانه عن إخراج يوسف من السجن فقال { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} وفي الكلام حذف يدل ظاهره عليه وهو فلما رجع صاحب الشراب وهو رسول الملك إلى الملك بجواب يوسف وتعبيره رؤياه { قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } أي: بيوسف الذي عبر رؤياي { فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} أي: لما جاء يوسف رسول الملك فقال له أجب الملك أبى يوسف أن يخرج مع الرسول حتى تبين براءته مما قذف به و{ قال } للرسول { ارجع إلى ربك } أي: سيدك وهو الملك { فسأله ما بال النسوة } أي: ما حالهن وما شأنهن والمعنى فاسأل الملك أن يتعرف حال النسوة.
{ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ليعلم صحة براءتي ولم يفرد امرأة العزيز بالذكر حسن عشرة منه ورعاية أدب لكونها زوجة الملك أوزوجة خليفة الملك فخلطها بالنسوة وقيل أنه أرادهن دونها لأنهن الشاهدات له عليها أ لا ترى أنها قالت الآن حصحص الحق وهذا يدل على أن النسوة كن ادعين عليه نحوما ادعته امرأة العزيز قال ابن عباس لوخرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حالة يقول هذا الذي راود امرأتي وقيل: أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره متهم بفاحشة فأحب أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولوكنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني من السجن ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولوكنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب وما ابتغيت العذر إنه كان لحليما ذا أناة.
{ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي: إن الله عالم بكيدهن قادر على إظهار براءتي وقال: إن سيدي الذي هو العزيز عليم بكيدهن استشهده فيما علم من حاله عن أبي مسلم والأول هو الوجه { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} معناه: أن الرسول رجع إلى الملك وأخبره بما قاله يوسف (عليه السلام) فأرسل إلى النسوة ودعاهن وقال لهن: ما شأنكن وما أمركن إذا طلبتن يوسف عن نفسه ودعوتنه إلى أنفسكن { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } هذه كلمة تنزيه أي نزهن يوسف مما اتهم به فقلن معاذ الله وعياذا بالله من هذا الأمر وما علمنا عليه من سوء وخيانة وما فعل شيئا مما نسب إليه واعترفن ببراءته وبأنه حبس مظلوما.
{ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي: ظهر وتبين وحصل على أمكن وجوهه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وكان معناه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله هي راودتني عن نفسي اعترفت بالكذب على نفسها فيما اتهم يوسف به وإنما حملها على الصدق انقطاع طمعها منه فجمع الله ليوسف في إظهار براءته ونزاهته عما قذف به بين الشهادة والإقرار حتى لا يبقى موضع شك { ذلك ليعلم } هذا من كلام يوسف أي ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه في شأن النسوة ليعلم الملك أوالعزيز { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} في زوجته أي في حال غيبته عني عن الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وأبي مسلم واتصل كلام يوسف بكلام امرأة العزيز لظهور الدلالة على المعنى ونظيره قوله تعالى وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وقوله يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره وهو من كلام الملأ ثم قال فما ذا تأمرون وهو حكاية عن قول فرعون قال الفراء وهذا من أغمض ما يأتي في الكلام أن يحكي عن واحد ثم يعدل إلى شيء آخر من قول آخر لم يجر له ذكر وقيل بل هومن كلام امرأة العزيز أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته بتوريك الذنب عليه وإن خنته بحضرته وعند مشاهدته عن الجبائي.
{ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي: لا يهديهم في كيدهم ومكرهم { وما أبرىء نفسي } هذا من كلام يوسف عند أكثر المفسرين وقيل بل هو من كلام امرأة العزيز عن الجبائي أي ما أبرىء نفسي عن السوء والخيانة في أمر يوسف { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} أي: كثيرة الأمر بالسوء والشهوة قد تدعوالإنسان إلى المعصية والألف واللام للجنس فيكون المعنى أن كل النفوس كذلك ويجوز أن يكون للعهد فيكون المعنى أن نفسي بهذه الصفة { إلا ما رحم ربي } أي: إلا من رحمه الله تعالى فعصمه بأن لطف له فيكون ما بمعنى من كقوله ما طاب لكم ويجوز أن يكون معناه إلا مدة ما عصم ربي ومن قال إنه من كلام يوسف قال إنه أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية أي لا أبرىء نفسي مما لا تعرى منه طباع البشر وإنما امتنعت عن الفاحشة بحول الله ولطفه وهدايته لا بنفسي قال الحسن إنما قال وما أبرىء نفسي لأنه كره أن يكون قد زكى نفسه { إن ربي غفور } بعباده { رحيم } بهم .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص412-415.
{ وقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } أي بيوسف . . بعد أن عبّر يوسف الصديق للرسول رؤيا الملك ، ونصح كيف يستعدون لمواجهة السنين الشداد ، بعد هذا رجع الرسول إلى سيده بالتعبير والنصح ، واكتشف الملك ان وراء قول يوسف علما جما ، وإخلاصا صادقا ، فأحب ان يقربه إليه لينتفع بعلمه وإخلاصه ، وقال : ائتوني به ، واكتفى القرآن الكريم من هذه الحادثة بقول الملك لأن القارئ يستحضر منه سائر اللوازم التي لا تنفك عنه .
{ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ } ودعاه إلى حضرة الملك { قالَ » - يوسف - « ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } . المراد بالرب هنا السيد . . رفض يوسف الخروج من السجن ، ولم يتهالك على الاستجابة لدعوة الملك - كما يفعل الكثير من المتّسمين بسمة الدين - بل لم يقم لها وزنا لأمور :
1 - ان المؤمن حقا لا يرى عظيما سوى اللَّه : ولا يبالي بشيء في سبيل اظهار الحق وإعلانه ، ومن أجل هذا رفض الصدّيق أن يخرج من السجن بالعفو والتفضل ، وأصر على إعلان الحق قبل كل شيء ، وصمم ان يصبر على السجن وألمه مدى الحياة ، أو يخرج منه مرفوع الرأس مبرأ من كل بهمة .
2 - أحب يوسف أن يجري التحقيق ويتم في غيبته ودون أن يتدخل هو فيه لأن ذلك أبلغ في نزاهته وبراءته ، وأدل على عظمته وحلمه وأناته .
3 - ان يوسف واثق من براءته ، ومطمئن بأن التحقيق سيكون في مصلحته ، وان عدم الاسراع إلى الخروج من السجن أدعى إلى ثقة الناس واستجابتهم لرسالته . .
بالإضافة إلى أنه يقطع الطريق على من يتوسل بالتهمة إلى الطعن فيه عند الملك حين يقربه منه ، وعند غير الملك حين يدعوه إلى اللَّه والحق .
ورجع الرسول إلى الملك وأخبره بأن يوسف لا يخرج من السجن الا بعد التحقيق في شأن التهمة التي سجن من أجلها ، فاهتم الملك ، وأحضر النسوة و{ قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } . . هذا اعتراف جازم قاطع لكل شبهة ، لأنه من الخصم بالذات . . حاشاه من السوء . .
انه لمن الصادقين . . وهكذا تتجلى الحقائق - وان طال بها الزمن - ويستسلم لها أهل الضلالة مرغمين ، حيث لا مجال للفرار والإنكار .
{ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } . اختلف المفسرون في هذه الآية ، فمن قائل انها من كلام يوسف ( ع ) ، وان المعنى اني طلبت التحقيق مع النسوة ليعلم العزيز اني لم أخنه في زوجته حال غيابه . ومن قائل : ان الآية من كلام امرأة العزيز ، ونحن مع هذا القائل عملا بظاهر السياق من اتصال بعض الكلام ببعض ، وعليه يكون الضمير في لم أخنه ليوسف ، ومرادها بعدم خيانته انها لم تذكره بسوء مدة غيابه في السجن حتى هذه الساعة ، أما إحالتها الذنب عليه حين قالت لزوجها ما قالت فقد كان ذلك بحضور يوسف ، لا بغيابه { وأَنَّ اللَّهً لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ } بل يفضحهم ويهتك سترهم ، وينصر المؤمنين عليهم ، تماما كما فضح النسوة ، ونصر يوسف : « وأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الأَخْسَرِينَ - 70 الأنبياء » .
{ وما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } . الإنسان حيوان عاقل ومتدين ، فهو بحيوانيته أو بنفسه الأمارة يميل إلى الشهوات والملذات ، لا يبالي بعقل ولا بدين ، وهو بدينه وعقله يرغم نفسه على الوقوف عند حدود الشرع والعقل إذا حاولت تجاوزها والانحراف عنها . . ومن أطلق العنان لنفسه تعمل ما تشتهي وتريد فهو حيوان في صورة إنسان ، بل الحيوان خير منه لأنه غير مسؤول عن شيء ، ولذا قال تعالى : « إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا - 44 - الفرقان » .
أجل ، قد يضعف الإنسان بعض الأحيان أمام نفسه وشهوته ، ولكن المؤمن العاقل يعود بعدها إلى رشده ، ويتوب من هفوته ، فيغفر له ، ويصفح عنه لأن اللَّه غفور رحيم .
وقوله تعالى : { إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي } معناه ان النفس ، آية نفس لا تسلم من العيوب الا نفسا عصمها اللَّه من الخطايا والذنوب كنفوس الأنبياء والأئمة الأطهار . . والمهم ان لا يصر المذنب على ذنبه ويعرض أبدا عن ربه . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه . أي أصر عليه ، ولم يستغفر اللَّه منه .
__________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 324-325.
قوله تعالى:{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} في الكلام حذف وإضمار إيجازا، والتقدير - على ما يدل عليه السياق والاعتبار بطبيعة الأحوال - وجاء الرسول وهو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا وقال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.
وظاهر أن الذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما، والذي أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه وأغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني بشئون مملكته، وقد أفزعه ما سمع وأدهشه، ولذلك أمر بإحضاره ليكلمه ويتبصر بما يقوله مزيد تبصر، ويشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إياه بقوله:{فلما جاءه وكلمه} إلخ.
ولم يكن أمره بإتيانه به إشخاصا له بل إطلاقا من السجن وإشخاصا للتكليم و، لوكان إشخاصا وإحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه إجبارا بل كان إحضارا عن عفو وإطلاق فوسعه أن يأتي الحضور ويسأله أن يقضي فيه بالحق، وكانت نتيجة هذا الإباء والسؤال أن يقول الملك ثانيا: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أولا: ائتوني به.
وقد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول:{ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه وليس يريد إلا أن يقضي بينه وبينها، وإنما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، ولم يذكرهن أيضا بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته ولا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة وفحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما.
ولم يذكرهن بشيء من المكروه إلا ما في قوله:{إن ربي بكيدهن عليم} وليس إلا نوعا من بث الشكوى لربه.
وما ألطف قوله في صدر الآية وذيلها حيث يقول للرسول:{ارجع إلى ربك فاسأله} ثم يقول:{إن ربي بكيدهن عليم} وفيه نوع من تبليغ الحق، وليكن فيه تنبه لمن يزعم أن مراده من{ربي} فيما قال لامرأة العزيز:{إنه ربي أحسن مثواي} هو زوجها، وأنه يسميه ربا لنفسه.
وما ألطف قوله:{ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} والبال هو الأمر الذي يهتم به يقول: ما هو الأمر العظيم والشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه، وليس إلا هواهن فيه وولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه أن الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا، والكف عن معاشقتهن والامتناع من إجابتهن بما يردنه وهن يفدينه بالأنفس والأموال أعظم، ولم يكن المراودة بالمرة والمرتين ولا الإلحاح والإصرار يوما أويومين ولن تتيسر المقاومة والاستقامة تجاه ذلك إلا لمن صرف الله عنه السوء والفحشاء ببرهان من عنده.
قوله تعالى:{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى:{فما خطبك يا سامري}{فما خطبكم أيها المرسلون}. انتهى.
وقال أيضا: حصحص الحق أي وضح وذلك بانكشاف ما يظهره، وحص وحصحص نحو كف وكفكف وكب وكبكب، وحصة قطع منه إما بالمباشرة وإما بالحكم - إلى أن قال - والحصة القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب. انتهى.
وقوله:{قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟} جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف وإضمار إيجازا - كل ذلك يدل عليه السياق - والتقدير: كان سائلا يسأل فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ وما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك وبلغه ما قاله يوسف وسأله من القضاء فأحضر النسوة وسألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن:{حاش لله ما علمنا عليه من سوء} فنزهنه عن كل سوء، وشهدن أنهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.
وذكرهن كلمة التنزيه:{حاش لله} نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة:{حاش لله ما هذا بشرا} يدل على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة والعفة فيما علمنه كما أنه كان بالغا في الحسن.
والكلام في فصل قوله:{قالت امرأة العزيز} نظير الكلام في قوله{قال ما خطبكن} وقوله:{قلن حاش لله} فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز وهي الأصل في هذه الفتنة واعترفت بذنبها وصدقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن حصحص ووضح الحق وهو أنه: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها وكذبت نفسها في اتهامه بالمراودة، ولم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة أنه لم يراود ولا أجابها في مراودتها بالطاعة.
واتضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كل وجه، وفي قول النسوة وقول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من:{ما علمنا عليه من سوء} مع كلمة التنزيه:{حاش لله} في قولهن، واعترافها بالذنب في سياق الحصر:{أنا راودته عن نفسه} وشهادتها بصدقه مؤكدة بأن واللام والجملة الاسمية:{وإنه لمن الصادقين} وغير ذلك في قولها.
وهذا ينفي عنه (عليه السلام) كل سوء أعم من الفحشاء والمراودة لها وأي ميل ونزعة إليها وكذب وافتراء، بنزاهه من حسن اختياره.
قوله تعالى:{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدل عليه السياق، وكأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء واعتراف امرأة العزيز بالذنب وشهادتها بصدقه وقضاء الملك ببراءته.
وحكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}: البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق{إلخ}، وقوله:{وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون}: الصافات: 166.
وعلى هذا فالإشارة بقوله:{ذلك} إلى إرجاع الرسول إلى الملك وسؤاله القضاء، والضمير في{ليعلم} و{لم أخنه} عائد إلى العزيز والمعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك وسألته أن يحقق الأمر ويقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.
يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع والسؤال غايتين: أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه وتطيب نفسه منه ويزول عنها وعن أمره أي شبهة وريبة.
والثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته وأنه سيفتضح لا محالة سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، والباطل لا يدوم وسيظهر الحق عليه ظهورا، ولو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن وأخذن بالمراودة ولا امرأة العزيز فيما فعلت وأصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.
وكان الغرض من الغاية الثانية:{وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} وتذكيره وتعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر وهو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب ولا يخون في شيء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شيء نفسا كان أوعرضا أومالا.
وبهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه وهو قوله بعد أن أشخص عند الملك:{اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.
والآية ظاهرة في أن هذا الملك هوغير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله:{وألفيا سيدها لدى الباب} وقوله:{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه}.
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية والتي بعدها تتمة قول امرأة العزيز:{ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} وسيأتي الكلام عليه.
قوله تعالى:{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} تتمة كلام يوسف (عليه السلام) وذلك أن قوله:{أني لم أخنه بالغيب} كان لا يخلومن شائبة دعوى الحول والقوة وهو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا ولا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول والقوة عن نفسه ونسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، وتسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال:{وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام):{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}: هود: 88.
فقوله:{وما أبرىء نفسي} إشارة إلى قوله:{أني لم أخنه بالغيب} وأنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه وتزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، وعلل ذلك بقوله{إن النفس لأمارة بالسوء} أي إن النفس بطبعها تدعوإلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، وإنما تكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل.
ومن هنا يظهر أن قوله:{إلا ما رحم ربي} يفيد فائدتين؟.
إحداهما: تقييد إطلاق قوله:{إن النفس لأمارة بالسوء} فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس وليس يقع عن إلجاء وإجبار من جانبه تعالى.
وثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.
وقد علل الحكم بقوله:{إن ربي غفور رحيم} فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع والرحمة يظهر بها الأمر الجميل، ومغفرته تعالى كما تمحوالذنوب وآثارها كذلك تستر النقائض وتبعاتها وتتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى.
{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: الأنعام: 145 وقد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.
ومن لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ{ربي} فقد كرره ثلاثا حيث قال:{إن ربي بكيدهن عليم}{إلا ما رحم ربي}{إن ربي غفور رحيم} لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه وهو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، وأما قوله:{وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} فهو خال عن هذه النسبة ولذلك عبر بلفظ الجلالة.
وقد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله:{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}{إلخ} من تمام كلام امرأة العزيز، والمعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها وشهدت بصدقه قالت:{ذلك} أي اعترافي بأني راودته عن نفسه وشهادتي بأنه من الصادقين{ليعلم} إذا بلغه عني هذا الكلام{أني لم أخنه بالغيب} بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا وأنه كان صادقا{وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة وبالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله وطهارة ذيله وبراءة نفسه وفضحني أمام الملك والملأ ولم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن{وما أبرىء نفسي} من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره{ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وهذا وجه رديء جدا أما أولا: فلأن قوله:{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} لوكان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: وليعلم أني أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإن قوله{ذلك} على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب وشهادتها بصدقه فقوله:{لم أخنه بالغيب} إن كان عنوانا لاعترافها وشهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت وشهدت ليعلم أني اعترفت وشهدت له بالغيب.
مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف والشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت وشهدت ليسمع يوسف ذلك ويعلم به، لا لإظهار الحق وبيان حقيقة الأمر.
وإن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت وشهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن ولبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها وشهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه وهو ظاهر.
وأما ثانيا: فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، وقد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال:{إنه لا يفلح الظالمون}.
وأما ثالثا: فلأن قولها:{وما أبرىء نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن} يناقض قولها:{لم أخنه بالغيب} كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله:{ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء وهي تعبد الأصنام.
وذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير{ليعلم} و{لم أخنه} إلى العزيز وهو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، وأن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع فبقي عرض زوجي مصونا وشرفه محفوظا، ولئن برئت يوسف من الإثم فما أبرىء منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
وفيه: أن الكلام لوكان من كلامها وهي تريد أن تطيب به نفس زوجها وتزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها.
{ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، وأما شهادتها أنه امتنع ولم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، وكان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها وتزيل ما عنده من الشك والريب فاعترافها وشهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب.
مضافا إلى أن قوله:{وما أبرىء نفسي} إلخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها:{أنا راودته عن نفسه} وظاهر السياق خلافه.
على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.
_____________________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج11،ص162-168.
تبرئة يوسف من كلّ إتّهام!
لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك ـ كما قُلنا ـ دقيقاً ومدروساً ومنطقياً إلى درجة أنّه جذب الملك وحاشيته إليه، إذ كان يرى أنّ سجيناً مجهولا عبّر رؤياه بأحسن تعبير وتحليل، دون أن ينتظر أيّ أجر أو يتوقّع أمراً ما .. كما أنّه أعطى للمستقبل خطّة مدروسة أيضاً.
لقد فهم الملك إجمالا أنّ يوسف لم يكن رجلا يستحقّ السجن، بل هو شخص أسمى مقاماً من الإنسان العادي، دخل السجن نتيجة حادث خفيّ، لذلك تشوّق لرؤيته، ولكن لا ينبغي للملك أن ينسى غروره ويسرع إلى زيارته، بل أمر أن يُؤتى به إليه كما يقول القرآن: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ} لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون أن يثبت براءته، فالتفت إلى رسول الملك و { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} إذن .. فيوسف لم يرغب أن يكون كأي مجرم، أو على الأقل كأي متّهم يعيش مشمولا بـ«عفو الملك» .. لقد كان يرغب أوّلا أن يُحقّق في سبب حبسه، وأن تثبت براءته وطهارة ذيله، ويخرج من السجن مرفوع الرأس، كما يُثبت ضمناً تلوّث النظام الحكومي وما يجري في قصر وزيره!.
أجل لقد اهتمّ بكرامة شخصيته وشرفه قبل خروجه من السجن، وهذا هو نهج الأحرار.
الطريف هنا أنّ يوسف في عبارته هذه أبدى سمواً في شخصيته إلى درجة أنّه لم يكن مستعدّاً لأنّ يصرّح باسم امرأة العزيز التي كانت السبب المباشر في إتّهامه وحبسه، بل إكتفى بالإشارة إلى جماعة النسوة اللاتي لهنّ علاقة بهذا الموضوع فحسب.
ثمّ يضيف يوسف: إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي وبأي سبب وصلت السجن، فالله مطّلع على ذلك {إنّ ربّي بكيدهن عليم}.
عاد المبعوث من قبل الملك إلى يوسف مرّة ثانية إلى الملك، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعاً إلى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة، والتفت إليهنّ { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} يجب أن تقلنَ الحقّ .. هل إرتكب يوسف خطيئة أو ذنباً؟
فتيقّظ فجأةً الوجدان النائم في نفوسهنّ، وأجبنه جميعاً بكلام واحد ـ متّفق على طهارته و { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}.
أمّا امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضاً، وكانت تصغي بدقّة إلى حديث الملك ونسوة مصر، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت، ودون أن تُسأل أحسّت بأنّ الوقت قد حان لأنّ تنزّه يوسف وأن تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه، وخاصّة أنّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته إلى الملك، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّاً ومغلقاً تحت عنوان «نسوة مصر».
فكأنّما حدث إنفجار في داخلها فجأةً وصرخت و { قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.
ثمّ واصلت امرأة العزيز كلامها {ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب} لأنّي عرفت بعد هذه المدّة الطويلة وما عندي من التجارب { أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}.
في الحقيقة (بناءً على أنّ الجملة المتقدّمة لإمرأة العزيز كما يقتضيه ظاهر العبارة) فانّها ومن أجل إعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما أخطأته في حقّه، تقيم دليلين:
الأوّل: إنّ وجدانها، ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف، لا تسمح لها أن تستر الحقّ أكثر من هذا، وأن تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه.
الثّاني: إنّ من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة، وهي أنّ الله يرعى الصالحين ولا يوفّق الخائنين في مرادهم أبداً.
وبهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها قليلا قليلا .. وتلمس حقيقة الحياة ولا سيّما في هزيمة عشقها الذي صنع غرورها وشخصيتها الخياليّة، وإنفتحت عيناها على الواقع أكثر، فلا عجب أن تعترف هذا الإعتراف الصريح.
وتواصل امرأة العزيز القول: { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} وبحفظه وإعانته نبقى مصونين، وأنا أرجو أن يغفر لي ربّي هذا الذنب {إنّ ربّي غفور رحيم}.
قال بعض المفسّرين: إنّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف، وقالوا: إنّهما في الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك ومعنى الكلام يكون هكذا.
«إذا قلت حقّقوا عن شأن النسوة اللائي قطّعن أيديهن، فمن أجل أن يعلم الملك أو عزيز مصر الذي هو وزيره، أنّي لم أخنه في غيابه والله لا يهدي كيد الخائنين كما لا اُبريءُ نفسي لأنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم».
الظاهر أنّ الهدف من هذا التّفسير المخالف لظاهر الآية أنّهم صعب عليهم قبول هذا المقدار من العلم والمعرفة لإمرأة العزيز التي تقول بلحن مخلص وحاك عن التنبّه والتيقّظ.
والحال أنّه لا يبعد أنّ الإنسان حين يرتطم في حياته بصخرة صمّاء، تظهر في نفسه حالة من التيقّظ المقرون بالإحساس بالذنب والخجل، خاصّة أنّه لوحظ أنّ الهزيمة في العشق المجازي يجرّ الإنسان إلى طريق العشق الحقيقي «عشق الله».
وبالتعبير علم النفس المعاصر: إنّ تلك الميول النفسية المكبوتة يحصل فيها حالة الـ«تصعيد» وبدلا من تلاشيها وزوالها فانّها تتجلّى بشكل عال.
ثمّ إنّ قسماً من الرّوايات التي تشرح حال امرأة العزيز ـ في السنين الأخيرة(2) من حياتها ـ دليل على هذا التيقّظ والإنتباه أيضاً.
وبعد هذا كلّه فربط هاتين الآيتين بيوسف ـ إلى درجة ما ـ بعيدٌ، وهو خلاف الظاهر بحيث لا ينسجم مع أي من المعايير الأدبية للأسباب الآتية:
أوّلا: كلمة «ذلك» التي ذكرت في بداية الآية هي بعنوان ذكر العلّة، أي علّة الكلام المتقدّم الذي لم يكن سوى كلام امرأة العزيز فحسب، وربط هذا التذييل بكلام يوسف الوارد في الآيات السابقة أمر عجيب.
ثانياً: إذا كانت هاتان الآيتان بياناً لكلام يوسف فسيبدو بينهما نوع من التناقض والتضادّ، فمن جهة يقول: إنّي لم أخنه بالغيب، ومرّة يقول: وما اُبرىء نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء. وهذا الكلام لا يقوله إلاّ من يعثر أو يزل ولو يسيراً، في حين أنّ يوسف لم يصدر منه أي زلل.
وثالثاً: إذا كان مقصوده أن يعرف عزيز مصر أنّه بريء فهو من البداية «بعد شهادة الشاهد» عرف الواقع، ولذلك قال لامرأته: {استغفري لذنبك} وإذا كان مقصوده أنّه لم يخن الملك، فلا علاقة للملك بهذا الأمر، والتوسّل إلى تفسيرهم هذا بحجّة أنّ الخيانة لامرأة العزيز خيانة للملك الجبّار، فهو حجّة واهية ـ كما يبدو ـ خاصّة أنّ حاشية القصر لا يكترثون بمثل هذه المسائل.
وخلاصة القول: إنّ هذا الإرتباط في الآيات يدلّ على أنّ جميع ما ورد في السياق من كلام امرأة العزيز التي إنتبهت وتيقّظت وإعترفت بهذه الحقائق.
_____________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي ،ج6،ص304-307.
2- بحار الانوار ،ج12،ص281،ح60.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|