المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17757 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24

التحديات و الأعمال الحديثة
2-5-2016
زامل بن طلحة الأسدي
19-8-2017
حكم المحرم لو حلق راسه لأذى.
27-4-2016
مرجع الضمير في «مثله» الآية 23 من سورة البقرة
2023-08-30
تفسير الاية (190-193) من سورة البقرة
20-2-2017
دليل الحسابات Chart of Accounts
4-2-2022


تفسير الآية (24-29) من سورة يوسف  
  
14983   05:50 مساءً   التاريخ: 4-7-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الياء / سورة يوسف /

 

قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوعَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُومِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُومِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 24 - 29]

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} اختلف العلماء فيه على قولين أحدهما : أنه لم يوجد من يوسف ذنب كبير ولا صغير والآخر : أنه وجد منه العزم على القبيح ثم انصرف عنه فأما الأولون فإنهم اختلفوا في تأويل الآية على وجوه:  أحدها : أن الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال { ولقد همت به وهم بها } فعلق الهم بهما وذاتاهما لا يجوز أن يرادا ويعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به وقد أمكن أن نعلق عزمه (عليه السلام) بغير القبيح ونجعله متناولا لضربها أودفعها عن نفسه فكأنه قال: ولقد همت بالفاحشة منه وأرادت ذلك وهم يوسف (عليه السلام) بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال: هممت بفلان أي: بضربه وإيقاع مكروه بهز. وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان: أن الله سبحانه أراه برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به أهلكه أهلها أوقتلوه أوادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظن اقتراف الفاحشة به ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ويكون جواب لولا محذوف كما حذف فيه قوله تعالى { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وقوله: { كلا لوتعلمون علم اليقين } أي: لولا فضل الله لهلكتم ولو تعلمون علم اليقين لم يلهكم التكاثر ومثله قول امرىء القيس :

ولو أنها نفس تموت سوية                  ولكنها نفس تساقط أنفسا(2)

 يريد: فلوأنها نفس تموت سوية لنقضت وفنيت فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه وعلى هذا يكون جواب لولا محذوف يدل عليه قوله { وهم بها } ولا يجوز أن يكون قوله { وهم بها } جوابا للولا لأن جواب لولا لا يتقدم عليه  وثانيها: أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير ويكون التقدير: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ولما رأى برهان ربه لم يهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك وقد كنت قلت لولا أني خلصتك والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي إياك لقتلت وإن كأن لم يقع هلاك وقتل ومثله قول الشاعر :

فلا يدعني قومي ليوم كريهة                لئن لم أعجل ضربة أوأعجل

 وقال آخر :

فلا يدعني قومي صريحا لحرة                لئن كنت مقتولا ويسلم عامر(3)

 وفي القرآن إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها وهذا الوجه اختاره أبومسلم وهوقريب من الأول وثالثها : أن معنى قوله { هم بها } اشتهاها ومال طبعه إلى ما دعته إليه وقد يجوز أن تسمى الشهوة هما على سبيل التوسع والمجاز ولا قبح في الشهوة لأنها من فعل الله تعالى وإنما يتعلق القبح بالمشتهي وقد روي هذا التأويل عن الحسن قال أما همها فكان أخبث الهم وأما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال همها القصد وهمه أنه تمناها أن تكون زوجة له وعلى هذا الوجه فيجب أن يكون قوله { لولا أن رءا برهان ربه } متعلقا بمحذوف أيضا كأنه قال لولا أن رأى برهان ربه لعزم أوفعل.

 ( سؤال ) قالوا: إن قوله { ولقد همت به وهم بها } خرجا مخرجا واحدا فلم جعلتهم همها به متعلقا بالقبيح وهمه بها متعلقا بغير القبيح ؟وجوابه: أن الظاهر لا يدل على ما تعلق به الهم ففيهما جميعا وإنما أثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة القرآن والآثار به ولأنها ممن يجوز عليه فعل القبيح والشاهد لذلك من الكتاب قوله{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ}وقوله: { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقوله حكاية عنها: { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }{ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} والشاهد من الآثار: إجماع المفسرين على أنها همت بالمعصية والفاحشة.

 وأما يوسف (عليه السلام): فقد دلت الأدلة العقلية التي لا يتطرق إليها الاحتمال والمجاز على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح ولا يعزم عليه فأما الشاهد من القرآن على أنه ما هم بالفاحشة فقوله سبحانه { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} وقوله { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} وغير ذلك من قوله: { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} والعزم على الفاحشة من أكبر السوء وأما الفرقة الأخرى فإنهم قالوا فيه ما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء فقال بعضهم إنه قعد بين رجليها: وحل تكة سراويله وقال بعضهم حل السراويل حتى بلغ الثنن وجلس منها مجلس الرجل من امرأته وقد نزهه الله سبحانه عن ذلك كله بقوله { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} وأمثال ذلك مما عددناه .

فأما البرهان الذي رآه فقد اختلف فيه على وجوه أحدها: أنه حجة الله سبحانه في تحريم الزنا والعلم بالعذاب الذي يستحقه الزاني عن محمد بن كعب والجبائي وثانيها : أنه ما آتاه الله سبحانه من آداب الأنبياء وأخلاق الأصفياء في العفاف وصيانة النفس عن الأدناس عن أبي مسلم  وثالثها: أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش والحكمة الصارفة عن القبائح روي ذلك عن الصادق (عليه السلام)  ورابعها : أنه كان في البيت صنم فألقت المرأة عليه ثوبا فقال (عليه السلام) أن كنت تستحين من الصنم فأنا أحق أن أستحي من الواحد القهار عن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)  وخامسها : أنه اللطف الذي لطف الله تعالى به في تلك الحال أوقبلها فاختار عنده الامتناع عن المعاصي وهو ما يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي اللطف الذي يختار عنده التنزه عن القبائح والامتناع من فعلها ويجوز أن يكون الرؤية هاهنا بمعنى العلم كما يجوز أن يكون بمعنى الإدراك.

 فأما ما ذكر في البرهان من الأشياء البعيدة بأن قيل: إنه سمع قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنا ذهب ريشه! وقيل: أنه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله وقيل: أنه رأى كفا بدت فيما بينهما مكتوبا عليها النهي عن ذلك فلم ينته فأرسل الله سبحانه جبرئيل (عليه السلام) وقال: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فرآه عاضا على إصبعه فكل هذا سوء ثناء على الأنبياء مع أن ذلك ينافي التكليف ويقتضي أن لا يستحق على الامتناع من القبيح مدحا ولا ثوابا وهذا من أقبح القول فيه (عليه السلام).

 { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} أي: كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه السوء أي: الخيانة { والفحشاء } أي: ركوب الفاحشة وقيل: السوء الإثم والفحشاء الزنا { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } أي: المصطفين المختارين للنبوة وبكسر اللام المخلصين في العبادة والتوحيد أي: من عبادنا الذين أخلصوا الطاعة لله وأخلصوا أنفسهم له وهذا يدل على تنزيه يوسف وجلالة قدره عن ركوب القبيح والعزم عليه .

{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} يعني تبادرا الباب أي: طلب كل واحد من يوسف وامرأة العزيز السبق إلى الباب أما يوسف فإنه كان يقصد أن يهرب منها ومن ركوب الفاحشة وأما هي: فإنما كانت تطلب يوسف لتقضي حاجتها منه وتقصد أن تغلق الباب وتمنعه من الخروج وتراوده ثانيا عن نفسه { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي: لحقت يوسف فجذبت قميصه وشقته طولا من خلفه لأن يوسف كان هاربا وهي تعدومن خلفه وقيل: إن يوسف رأى الأبواب قد انفتحت فعلم أن الصواب هو الخروج فخرج هاربا وقيل: بل أخذ بفتح الأبواب وأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه فشقته { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} أي: فلما خرجا وجدا زوجها عند الباب وسماه سيدها لأنه مالك أمرها { قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني أن المرأة سبقت بالكلام لتورك الذنب على يوسف فقالت لزوجها ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلا أن يسجن أوأن يضرب بالسياط ضربا وجيعا عن ابن عباس قالوا: ولوصدق حبها لم تقل ذلك ولآثرته على نفسها ولكن حبها إياه كان شهوة { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} لما ذكرت المرأة ذلك لم يجد يوسف بدا من تنزيه نفسه بالصدق ولوكفت عن الكذب عليه لكف (عليه السلام) عن الصدق عليها فقال: هي التي طالبتني بالسوء الذي نسبتني إليه .

{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قال ابن عباس وسعيد بن جبير أنه: صبي في المهد وقيل: كان الصبي ابن أخت زليخا وهو ابن ثلاثة أشهر وروي عن ابن عباس أيضا في رواية أخرى وعن الحسن وقتادة وعكرمة: أنه شهد رجل حكيم من أهلها بتبرئة يوسف واختاره الجبائي قال: لو كان طفلا لكان قوله معجزا لا يحتاج معه إلى البيان وقيل: كان الرجل ابن عم زليخا وكان جالسا مع زوجها عند الباب عن السدي { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} أي: شق { من قبل فصدقت } المرأة { وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فيما قال: يعني يوسف لأنه كان هو القاصد وهي الدافعة { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي: من خلف { فكذبت } المرأة { وهو} أي: يوسف { من الصادقين } لأنه الهارب وهي الطالبة وهذا أمر ظاهر واستدلال صحيح { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي: فلما رأى زوجها قميص شق من خلف عرف خيانة المرأة.

 فـ { قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وقيل: هومن قول الشاهد وإنما وصف كيدهن بالعظم لأنها حين فاجأت زوجها عند الباب لم يدخلها دهش ولم تتحير في أمرها ووركت الذنب على يوسف (عليه السلام) ولأن قليل حيل النساء أسبق إلى قلوب الرجال من كثير حيل الرجال { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا }يعني : أن الشاهد قال ليوسف يا يوسف أمسك عن هذا الحديث أي: عن ذكرها حتى لا يفشوفي البلد عن ابن عباس وقيل: إنما قاله زوجها وقيل: معناه لا تلتفت يا يوسف إلى هذا الحديث ولا تذكره على سبيل طلب البراءة فقد ظهرت براءتك عن أبي مسلم والجبائي ثم أقبل على زليخا فقال :{ واستغفري لذنبك } أي: سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك { إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} أي من المذنبين: وقيل: إنه لم يكن غيورا سلبه الله الغيرة لطفا منه بيوسف حتى كفى شره ولذلك قال: ليوسف :{أعرض عن هذا }واقتصر على هذا القدر وقيل: معناه استغفري الله من ذنبك وتوبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادتهم الأصنام .

____________________

1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص385-391.

2- هذا بيت من سينيته التي قالها عند موته، ومعناه – على ماقيل -: تموت بموتي نفوس كثيرة .

3- قوله صريحاً أي :خالص النسب.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَولا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ }. في المجلد الأول من هذا التفسير ص 86 و196 والمجلد الثاني ص 359 تكلمنا عن العصمة ، وان الأنبياء كلهم معصومون . وعلى هذا تفرع السؤال الآتي : ان يوسف معصوم

لأنه نبي ، وقوله تعالى : { وهَمَّ بِها }يومئ إلى عزمه على القبيح ، والاستجابة لمراودة التي هوفي بيتها ؟ .

وأجاب المفسرون عن ذلك بأجوبة بعضها فيه وقاحة ، وبعضها بعيد عن ظاهر الكلام . . وأقرب الأجوبة إلى الظاهر ومقام الأنبياء ان في الآية تقديما وتأخيرا ، والأصل هكذا { ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَولا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ }. ومعنى هذا انه ما همّ بها إطلاقا ، تماما كقول القائل : لولا فلان لهلكت .

وببيان ثان : ان جميع المقتضيات كانت متوافرة للفعل ، فالمرأة باذلة بل متهالكة ، وهوقوي وقادر من حيث الرجولة ، والخلوة تامة بأكمل معانيها ، فلا سامع ولا ناظر . . ولكن هناك مانع ليوسف أقوى من كل زاجر ، وأعظم من كل سامع وناظر ، وهوعلمه بحلال اللَّه وحرامه ، وحياؤه منه ، ويقينه بأن اللَّه أقرب إليه من حبل الوريد ، وانه يعلم ما توسوس به نفسه ، بل وما هوأخفى من ذلك . . هذا هوالبرهان الذي منع يوسف عن التفكير بالحرام ، ويمنع كل من آمن حقا وصدقا باللَّه واليوم الآخر ، نبيا كان أوغير نبي ، وقال قائل :

ان يوسف ما تجلى له برهان ربه هذا الا حين همّت به ، وهمّ بها . . حاشا للأنبياء والصديقين . . ان برهان اللَّه لازم لا ينفك بحال عن المؤمنين الصادقين منفردين ومجتمعين بالحسان وبغير الحسان .

{ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ }. السوء كيد امرأة العزيز ، والفحشاء الزنا ، والمعنى ان اللَّه مع المتقين الذين يلتجئون إليه مخلصين ، فيحرسهم ويصونهم ممن أراد بهم سوءا ، أوحاول ان يوقعهم في الضلالة والغواية ، تماما كما فعل بيوسف ، التجأ إلى ربه ، وخاطبه مخلصا بقوله :

« والا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم » .

{ واسْتَبَقَا الْبابَ وقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ }. حاول يوسف التخلص منها بالفرار من بيتها ، فعدت خلفه كالجمل الهائج ، وأدركته قبل أن يهرب من الباب ، وجذبت قميصه من الخلف فشقته طولا . . وهنا وقعت المفاجأة بمجيء الزوج صدفة { وأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ }. قال صاحب تفسير المنار : « كان النساء في مصر يلقبن الزوج بالسيد ، واستمر هذا إلى زماننا » . دخل سيدها البيت فرأى يوسف واقفا ، وقميصه ممزقا ، وقبل أن يسأل عن الخبر { قالَتْ } - له – { ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوعَذابٌ أَلِيمٌ }. قالت هذا بكل هدوء ، ودون أن يظهر عليها أي أثر للمفاجأة ، قالت لزوجها : ما جزاء من أراد بي السوء - وهي نفسها السوء - ومع هذا تتهم الطهر والقداسة بالسوء ، وتطلب معاقبته عليه .

ويذكرنا هذا بالذين يثيرون الآن الحروب في فيتنام والشرق الأوسط والكونغووغيرها ، ويسلحون الجلادين للفتك بالمستضعفين في أنغولا وجنوب إفريقيا وروديسيا ، وأمريكا اللاتينية وغيرها ، ويقيمون ضد من يخرج عن طاعتهم أكثر من ألف قاعدة عسكرية في شرق الأرض وغربها مجهزة بأنواع المبيدات البشرية ، ومع هذا يدعون انهم قتلوا الفيتناميين ، وسلحوا إسرائيل ، ودفعوها إلى العدوان والتقتيل والتخريب والتشريد للمحافظة على السلم ، وأمن الشعوب ، وصيانة حقوق الضعفاء .

- إذن - أية غرابة بعد هذا إذا انقادت « امرأة » لنزوتها ، وكذبت على زوجها لتستر خطيئتها ؟ .

{ قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي }. وأنا امتنعت عليها ، وفررت منها ، فلحقت بي ، وفعلت بثوبي ما ترى { وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها }. تكلم المفسرون ، وأطالوا هذا الكلام حول هذا الشاهد ، فمن قائل : انه ابن عمها ، وقائل : انه من أصحاب زوجها ، وذهب آخرون إلى أنه كان صبيا في المهد . . أما نحن فنقف عند ظاهر الوحي الذي دل على أن الشاهد كان من أسرتها ، وانه كان بالغا راشدا لقوله : { إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُومِنَ الْكاذِبِينَ وإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وهُومِنَ الصَّادِقِينَ }. هذا ما نطق به الوحي ، أما أين كان هذا الشاهد ؟ . ومتى أدلى بشهادته ؟ . وهل جاء صدفة ، أوبدعوة منها أومن زوجها ، اما هذا أوغير هذا فقد سكت اللَّه عنه ، وفي الحديث : ان اللَّه سكت عن أشياء فلا تتكلفوها .

{ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }.

اقتنع الزوج وأيقن بصدق يوسف ( عليه السلام ) وكذبها ، ولكنه رأى الستر والكتمان

أولى من التشهير والفضيحة ، فاكتفى بقوله لها : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }. . وهذا الوصف يعجب النساء لأنه شهادة بذكائهن وان الرجال لا يفطنون لمكرهن وحيلهن.

وتسأل : جاء في هذه الآية : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }. وجاء في الآية 75 من سورة النساء : { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً }. فهل معنى هذا ان كيد النساء أقوى وأعظم من كيد الشيطان ؟ .

الجواب : ان كيد النساء من كيد الشيطان ، فكيده أصل ، وكيدهن فرع .

والمراد بضعف الشيطان في كيده انه لا سلطان له على عباد اللَّه الا من اتبعه من الغاوين ، والمراد بعظمة النساء في كيدهن انهن أقوى جنود الشيطان وأتباعه ، فقد روي عن إبليس أنه قال : النساء فخوخي ومصائدي ، فإذا اجتمعت عليّ لعنات الصالحين ذهبت إلى النساء فطابت نفسي بهن . .

ثم قال العزيز { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا }. اكتمه يا يوسف ، ولا تخبر أحدا بما حدث ، وقال لزوجته : { واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ }.

وهذا دليل قاطع على أن الزوج أيقن ببراءة يوسف ، وخطيئة زوجته . وقال أبوحيان الأندلسي في تفسيره « البحر المحيط » : « كان العزيز قليل الغيرة ، وهذا مقتضى طبيعة تربة مصر وبيئتها » . ورد عليه صاحب « تفسير المنار » بقوله :

« هذا كلام غير مبني على علم صحيح » ونضيف إليه ان مبعثه الهوى والغرض .

وانما قال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات ، لأن الخطيئة تصدر من الرجال والنساء ، ولفظ خاطئين يصح إطلاقه على الجميع من باب التغليب ، أما لفظ خاطئات فيختص بالإناث فقط .القضاء بشاهد الحال :

ليس المراد بالشاهد في قوله : { وشَهِدَ شاهِدٌ }من نص الشارع على الأخذ بشهادته في فصل الخصومات ، وانما المراد به الخبير الذي يستنتج بذكائه من واقعة معلومة لديه معرفة واقعة مجهولة ، فشق القميص معلوم وثابت بالعيان ، وقد جرت

العادة إذا أخذ الإنسان من خلفه أن يتمزق ثوبه من هذه الجهة ، وإذا أخذ من أمامه أن يتمزق من الأمام ، وبهذا توصل قريب امرأة العزيز إلى التمييز بين الصادق والكاذب .

وبهذه المناسبة نشير إلى أن ما يمكن الاعتماد عليه لمعرفة الحق المتنازع فيه ينحصر في ثلاثة أنواع :

النوع الأول : كل ما من شأنه أن يفيد العلم بالضرورة واللزوم العقلي ، مثل أن يدعي من بلغ الأربعين انه ابن أوأب لمن هو في هذه السن أوما دونها بقليل ، أويدعي بأنه ورث عن أبيه هذه البناية مع العلم بأن أباه عاش ومات فقيرا ، ولم يترك شيئا لوراثه . . وهذه الدعوى وأمثالها ترفض ابتداء ، ولا يفتقر ردها إلى نص من الشارع ، لأنها مردودة بطبعها ، وبالاحساس الغريزي عند كل إنسان ، ويحكم على مدعيها بكل ما يستدعيه الرد ويلزمه من الآثار .

النوع الثاني : ما نص الشارع صراحة على العمل به ، والاعتماد عليه في الحكم كالاقرار واليد وشهادة العدلين ، ويسمى هذا النوع في اصطلاح فقهاء الشريعة الاسلامية ، بالبينة الشرعية ، وعند أهل الشرائع الوضعية بالقرينة القانونية ، واتفق الجميع على أن القاضي يجب عليه أن يتعبد ويحكم بما نص عليه الشارع ، سواء أحصل له العلم منه ، أم لم يحصل .

النوع الثالث : ما يستخرجه القاضي باجتهاده وذكائه من القرائن التي ترافق موضوع الدعوى وظروفها ، وهي لا تدخل تحت حصر ، لأنها قرائن خاصة تستنتج من دعوى خاصة . وبديهة ان لكل دعوى موضوعها وظروفها ، ولكل قاض فهمه واجتهاده . . ومن هذه القرائن ان كان قميصه قدّ من قبل الخ ، ومنها أيضا ما نسب لسليمان بن داود ، أوالإمام علي ( عليه السلام ) من الحكم بين المرأتين اللتين ادعتا الولد ، وقوله : ائتوني بسكين أشقه بينهما ، فسمحت إحداهما دون الأخرى ، فقضى به لهذه .

وأغرب ما قرأته في هذا الباب ما نقله « الشاطبي » في « الموافقات » ج 2 ص 267 المسألة الحادية عشرة : « ان أبا بكر أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا

رؤيت » . أي ان رجلا مات ولم يوص في حياته ، ثم أوصى بعد موته ، وأبلغ وصيته لمن أراد في المنام ، فنفذ أبوبكر هذه الوصية .

___________________

1-التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4, صفحه 302-307.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى:{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} التدبر البالغ في أطراف القصة وإمعان النظر فيما محتف به الجهات والأسباب والشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا للعادة وواقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.

فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء، وكان شابا بالغا أشده وذلك أوان غليان الشهوة وثوران الشبق، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب والجمال والملاحة يدعو إلى الهوى والترح، وكان مستغرقا في النعمة وهنيء العيش محبورا بمثوى كريم وذلك من أقوى أسباب التهوس والإتراف، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال وكذلك تكون حرم الملوك والعظماء.

وكانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب، وهي عزيزة مصر وهي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس وتتوق نفسها إليه، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان، وقد تعرضت له ودعته إلى نفسها والصبر مع التعرض أصعب، وقد راودته هذه الفتانة وأتت فيها بما في مقدرتها من الغنج والدلال، وقد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه والصبر معها أصعب وأشق، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها، وهي ربته خصه بها العزيز، وكانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون وتدعوإلى كل عيش هنيء.

وكانا في خلوة وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور، وكان لا يأمن الشر مع الامتناع، وكان في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنيء طويل، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزة والمال.

فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أوأقبلت على صخرة صماء لأذابتها ولم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر أومناعة نسب يوسف أوقبح الخيانة للعزيز.

أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن منه.

ولوكان بدأ من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشيء وقلبت العقوبة ليوسف حتى سجن.

وأما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا وأشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم.

شرافة النسب من أن يهموا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيارة بيع العبيد ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي (عليه السلام) فبكى حتى ابيضت عيناه.

وأما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية والقوانين الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، وذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة، وأما لو أغفلت القوة المجرية أوفسقت فأهملت أوخفي الجرم عن نظرها أوخرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب.

فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد وهو الإيمان بالله.

وإن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا ولا موضع إصبع فهذا هوما يفيده التدبر في القصة.

ولنرجع إلى متن الآية.

فقوله تعالى:{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} لا ريب أن الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، والسياق يعطي أن المراد بصرف السوء والفحشاء عنه إنجاؤه مما أريد منه وسئل بالمراودة والخلوة، وأن المشار إليه بقوله:{كذلك} هوما يشتمل عليه قوله:{أن رءا برهان ربه}.

فيئول معنى قوله:{كذلك لنصرف} إلى آخر الآية إلى أنه (عليه السلام) لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء والفحشاء عن يوسف (عليه السلام).

ولازم ذلك أن يكون الجزاء المقدر لقوله:{لولا أن رءا برهان ربه} هوارتكاب السوء والفحشاء، ولازم ذلك أن يكون{لولا أن رءا} إلخ قيدا لقوله:{وهم بها} وذلك يقتضي أن يكون المراد بهمه بها نظير همها به هوالقصد إلى المعصية ويكون حينئذ همه بها داخلا تحت الشرط، والمعنى أنه لولا أن رءا برهان ربه لهم بها وأوشك أن يرتكب فإن{لولا} وإن كانت ملحقة بأدوات الشرط وقد منع النحاة تقدم جزائها عليها قياسا على إن الشرطية إلا أن قوله:{وهم بها} ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله:{ولقد همت به} وهو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهوكقولنا: والله لأضربنه إن يضربني والمعنى: والله إن يضربني أضربه.

ومعنى الآية: والله لقد همت به والله لولا أن رءا برهان ربه لهم بها وأوشك أن يقع في المعصية، وإنما قلنا: أوشك أن يقع، ولم نقل: وقع لأن الهم - كما قيل - لا يستعمل إلا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى:{وهموا بما لم ينالوا}: التوبة: 74، وقوله:{ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا}: آل عمران: 122، وقول صخر:

أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.                  وقد حيل بين العير والنزوان.

فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هوالهم والاقتراب دون الارتكاب والاقتراف، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله:{لنصرف عنه السوء والفحشاء} ولم يقل: لنصرفه من السوء والفحشاء فتدبر فيه.

ومن هنا يظهر أن الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها كما أن المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا فهو(عليه السلام) لم يفعل ولم يكد، ولولا ما أراه الله من البرهان لهم وكاد أن يفعل، وهذا المعنى هوالذي يؤيده ما قدمناه من الاعتبار والتأمل في الأسباب والعوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.

فقوله تعالى:{ولقد همت به} اللام فيه للقسم، والمعنى وأقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه ولا يكون الهم إلا بأن تشفع الإرادة بشيء من العمل.

وقوله:{ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، والمعنى أقسم لولا رؤيته برهان ربه لهم بها وكاد أن يجيبها لما تريده منه.

والبرهان هو السلطان ويراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى:{ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}: القصص: 32، وقال:{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}: النساء: 174، وقال:{ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: النمل: 64 وهو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريبا لمرتاب.

والذي رآه يوسف (عليه السلام) من برهان ربه وإن لم يوضحه كلامه تعالى كل الإيضاح لكنه - على أي حال - كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل والضلال بتاتا، ويدل على أنه كان من قبيل العلم قول يوسف (عليه السلام) فيما يناجي ربه كما سيأتي:{وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}: الآية 33 من السورة، ويدل على أنه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال وقبحها ومصلحتها ومفسدتها إن هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال والمعصية وهو ظاهر قال تعالى:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}: الجاثية: 23 وقال:{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ }: النمل: 14.

فالبرهان الذي أراه به وهو الذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا، وسنورد فيه بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

وقوله:{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} اللام في{لنصرف} للغاية أوالتعليل والمآل واحد و{كذلك} متعلق بقوله{لنصرف} والإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربه، والسوء هو الذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد وهو مطلق المعصية أوالهم بها، والفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا، وقد تقدم أن ظاهر السياق انطباق السوء والفحشاء على الزنا والهم به.

والمعنى: الغاية - أوالسبب - في أن رءا برهان ربه هي أن نصرف عنه الفحشاء والهم بها.

ومن لطيف الإشارة في الآية ما في قوله:{لنصرف عنه السوء والفحشاء} حيث أخذ السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، وهو ينافي شهادته تعالى بأنه من عباده المخلصين وهم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شيء فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أوتزيين نفس أوأي داع يدعومن دون الله سبحانه.

وقوله:{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} في مقام التعليل لقوله:{كذلك لنصرف}{إلخ} والمعنى: عاملنا يوسف كذلك لأنه من عبادنا المخلصين، وهم يعاملون هذه المعاملة.

ويظهر من الآية أن من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربهم، وإن الله سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصية ولا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، وهذه هي العصمة الإلهية.

ويظهر أيضا أن هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.

وللمفسرين من العامة والخاصة في تفسير الآية أقوال مختلفة:

1 منها: ما ذكره بعضهم ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والحسن وغيرهم: أن المعنى أنها همت بالفاحشة وأنه هم بمثله لولا أن رءا برهان ربه لفعل.

وقد وصفوا همه (عليه السلام) بما يجل عنه مقام النبوة ويتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا أنه قصدها بالفاحشة ودنا منها حتى حل السراويل وجلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربه أبطل الشهوة ونجاة من الهلكة، وذكروا في وصف هذا البرهان أمورا كثيرة مختلفة.

قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة: اختلفوا فيه - يعني في البرهان - ما هو؟ قال بعضهم: إن طائرا وقع على كتفه فقال في أذنه: لا تفعله فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء.

وقيل: إنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه، وهو يقول: يا يوسف أ ما تراني: وقال الحسن البصري: رآها وهي تغطي شيئا فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أغطي وجه صنمي لئلا يراني فقال يوسف: أنت تستحيين الجماد الذي لا يعقل ولا يرى فأنا أولى أن أستحيي ممن يراني ويعلم سري وعلانيتي.

قال أرباب اللسان: إنه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء، وتريد أن تفعل فعل السفهاء.

وقيل: رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا.

وقيل: انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة تقول: يا رسول العصمة لا تفعل فإنك معصوم.

وقيل: نكس رأسه فرأى على الأرض مكتوبا: ومن يعمل سوءا يجز به.

وقيل: أتاه ملك ومسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من أصابع رجليه.

وقيل: رأى الملك في البيت وهو يقول: أ لست هاهنا؟ وقيل: وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه.

وقيل: رأى جارية من جواري الجنة فتحير من حسنها فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يزني.

وقيل: جاز عليه طائر فناداه: يا يوسف لا تعجل فإنها لك حلال ولك خلقت.

وقيل: رأى ذلك الجب الذي كان بحذائه وعليه ملك قائم يقول يا يوسف أ نسيت هذا الجب.

وقيل: رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها.

وقيل رأى شخصا فقال: يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال: الزاني في بطني غدا فهرب منه. انتهى.

ومما قيل فيه أنه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من أطراف أنامله رواه في الدر المنثور، عن مجاهد وعكرمة وابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة التي أوردها في التفسير بالمأثور.

والجواب عنه مضافا إلى أنه (عليه السلام) كان نبيا ذا عصمة إلهية تحفظه من المعصية، وقد تقدم إثبات ذلك، أن الذي أورده الله تعالى من كرائم صفاته وإخلاص عبوديته لا يبقى شكا في أنه أطهر ساحة وأرفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث فقد ذكر تعالى أنه من عباده الذين أخلصهم لنفسه واجتباهم لعبوديته وآتاهم حكما وعلما، وعلمه من تأويل الأحاديث، وأنه كان عبدا متقيا صبورا في الله غير خائن ولا ظالم ولا جاهل، وكان من المحسنين وقد ألحقه بآبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

وكيف يستقيم هذه المقامات العالية والدرجات الرفيعة إلا لإنسان طاهر في وجدانه منزه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله.

وأما من ذهب لوجهه في معصية الله وهم بما هو من أفحش الإثم في دين الله وهو زنا ذات البعل وخيانة من أحسن إليه أبلغ الإحسان في عرضه وأصر عليه حتى حل التكة وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف، وازدجر بنداء بعد نداء من كل جانب فلم يستحي ولم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رءوس أصابعه، وشاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه وهرب من هول ما رأى، فمثله أحرى به أن لا يسمى إنسانا فضلا أن يتكىء على أريكة النبوة والرسالة، ويأتمنه الله على وحيه، ويسلم إليه مفاتيح دينه، ويؤتيه حكمه وعلمه ويلحقه بمثل إبراهيم الخليل.

لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الأقاويل المختلفة والإسرائيليات والآثار الموضوعة إذ يتهمون جده إبراهيم (عليه السلام) في زوجته سارة لا يبالون أن يتهموا نجله (عليه السلام) في زوجة غيره.

قال في الكشاف،: وقد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها وفسر البرهان بأنه سمع صوتا إياك وإياها فلم يكترث له فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته، وقيل ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله.

وقيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين هم، وقيل.

صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له، وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها:{وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين} فلم ينصرف ثم رأى فيها:{ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } فلم ينته ثم رأى فيها:{واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟.

وقيل: رأى تمثال العزيز، وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحيي منه أن يرانا فقال يوسف: استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر ولا أستحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور؟.

وهذا ونحوه مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل.

ولو وجدت من يوسف (عليه السلام) أدنى زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما نعيت على آدم زلته، وعلى داود وعلى نوح وعلى أيوب وعلى ذي النون وذكرت توبتهم واستغفارهم كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصا؟.

فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض وأنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة والعزم ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصدق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته، وضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجده الخليل إبراهيم (عليه السلام).

وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقع العثار.

فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه ثلاث مرات، ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن وبالتوبيخ العظيم وبالوعيد الشديد وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا يتنبه حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره، ولوأن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة أجلحهم وجها لقي بأدنى ما لقي به مما ذكروا لما بقي له عرق ينبض ولا عضويتحرك فيا له من مذهب ما أفحشه ومن ضلال ما أبينه. انتهى.

وما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذم أصحاب هذا القول إنهم يتهمونه (عليه السلام) في هذه الواقعة وقد شهد ببراءته وطهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول:{إنه من عبادنا المخلصين} والشاهد الذي شهد له من أهلها إذ قال:{إن كان قميصه قد من قبل} إلى آخر الآيتين، والعزيز إذ قال لامرأته.{إنه من كيدكن} وامرأة العزيز إذ قالت:{الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} والنسوة إذ قلن:{حاش لله ما علمنا عليه من سوء} ويوسف ينفي ذلك عن نفسه وقد سماه الله صديقا إذ قال:{إني لم أخنه بالغيب}.

وعمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران: أحدهما: إفراطهم في الركون إلى الآثار وقبول الحديث كيفما كان وإن خالف صريح العقل ومحكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليات وما يلحق بها من الأخبار الموضوعة المدسوسة، وأنستهم كل حق وحقيقة وصرفتهم عن المعارف الحقيقية.

ولذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس، ولا للمقامات المعنوية الإنسانية كالنبوة والولاية والعصمة والإخلاص أصلا إلا الوضع والاعتبار نظائر المقامات الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الإنسان الاعتباري التي ليست لها وراء التسمية والمواضعة حقيقة تتكىء عليها وتطمئن إليها.

فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامية التي تنقلب بين الأهواء وبلغت بها الجهالة والخساسة فإن ارتقت فإنما ترتقي إلى منزلة التقوى ورجاء الثواب وخوف العقاب تصيب كثيرا وتخطىء وإن لحقت بها عصمة إلهية في مورد أوموارد فإنما هي قوة حاجزة بين الإنسان والمعصية لا تعمل عملها إلا بإبطال سائر الأسباب والقوى التي جهز بها الإنسان وإلجاء الإنسان واضطراره إلى فعل الجميل واقتراف الحسنة، ولا جمال لفعل ولا حسن لعمل ولا مدح لإنسان مع الإلجاء والاضطرار وللكلام تتمة سنوردها في بحث يختص به.

الثاني: ظاهر قوله تعالى:{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} بناء على ما ذكره النحاة أن جزاء{لولا} لا يتقدم عليها قياسا على إن الشرطية، وعلى هذا يصير قوله{وهم بها} جملة تامة غير متعلقه بالشرط، وجواب لولا قولنا{لفعل} أوما يشبه ذلك والتقدير: ولقد همت امرأة العزيز بيوسف وهم يوسف بها لولا أن رءا برهان ربه لفعل، وهوالمطلوب.

وقد عرفت فساد ذلك وإن الجملتين معا أعني قوله:{ولقد همت به} وقوله:{وهم بها} قسميتان، وإن جزاء لولا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه، والكلام على تقدير: وأقسم لقد همت به وأقسم لولا أن رءا برهان ربه لهم بها نظير قولهم: والله لأضربنه إن ضربني.

على أن الذي قدروه من المعنى كان الأنسب به أن يقال:{ولولا أن رءا برهان ربه} بالوصل، ولا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل.

2 - ومن الأقوال في الآية أن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع وانتزاع الغريزة قال في الكشاف،: فإن قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلا يشبه الهم به والقصد إليه وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهويكسر ما به ويرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم.

ولولم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدته، ولوكان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.

ويجوز أن يريد بقوله:{وهم بها} وشارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لولم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنه شرع فيه.

ثم قال: فإن قلت: لم جعلت جواب لولا محذوفا يدل عليه هم بها، وهلا جعلته هوالجواب مقدما.

قلت: لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، وأما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز.

فإن قلت: فلم جعلت لولا متعلقة بهم بها وحده؟ ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله:{ولقد همت به وهم بها} لأن الهم لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني فلا بد من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا باثنين معا فكأنه قيل: ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما.

قلت: نعم ما قلت ولكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال:{ولقد همت به وهم بها} فكان إغفاله إلغاء له فوجب أن يكون التقدير: ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هوحظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لولا أن رءا برهان ربه فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت{لولا} حقيقة بأن تعلق بهم بها وحده انتهى.

ولخصه البيضاوي في تفسيره، حيث قال: المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أومشارفة الهم كقولك: قتلته لولم أخف الله.انتهى.

ورد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم وهو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أوشروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه وأما مجرد ميل الطبع ومنازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هما البتة والهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، والطبع وإن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما.

أقول: هذا إنما يصلح جوابا لقولهم: إن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع ومنازعة الشهوة، وأما تجويزه أن يكون المراد بالهم الإشراف على الهم فلا، بل هو قول على حدة في معنى الآية وهوأن يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إلى المخالطة وبهمه إشرافه (عليه السلام) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل والقرينة عليه هو وصفه تعالى إياه بما فيه مدح بالغ، ولو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أن المراد بهمه (عليه السلام) إشرافه على الهم لا الهم بالفعل.

والجواب: أنه معنى مجازي لا يصار إليه إلا مع عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقي، وقد تقدم أنه بمكان من الإمكان.

على أن الذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه وأن المراد بها الرجوع إلى الحجة العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية والمحارم الإلهية معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل إلا في الإبصار الحسي أوالمشاهدة القلبية التي هي بمنزلتها أوأظهر منها، وأما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة.

3 - ومن الأقوال في الآية: أن المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته وهمه بها هو قصده أن يضربها للدفاع عن نفسه، والدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على أنه من عباده المخلصين وقيام الحجة عقلا على عصمة الأنبياء (عليهم السلام).

قال في مجمع البيان،: إن الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال:{ولقد همت به وهم بها} فعلق الهم بهما وذاتاهما لا يجوز أن يراد ويعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد ويعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به.

وقد أمكن أن نعلق عزمه بغير القبيح، ونجعله متناولا لضربها أودفعها عن نفسه فكأنه قال: ولقد همت بالفاحشة منه وأرادت ذلك وهم يوسف بضربها ودفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه وإيقاع مكروه به.

وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به أهلكه أهلها أوقتلوه أوادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل وظن اقتراف الفاحشة به، ويكون التقدير: لولا أن رءا برهان ربه لفعل ذلك، ويكون جواب لولا محذوفا كما حذف في قوله تعالى:{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} انتهى موضع الحاجة.

والجواب: أنه قول لا بأس به لكنه مبني على التفرقة بين الهمين وهو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد وقد عرفت إمكان ذلك.

على أن لازمه أن يكون المراد بالبرهان الذي رآه ما يدل على أنه إن ضربها استتبع ذلك هلاكه أومصيبة أخرى تصيبه ويكون المراد بالسوء والفحشاء القتل والتهمة - كما أشار إليه في المجمع، - وهذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا.

وأما ما ذكره في المجمع، من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمين معا، ومحصله أن الهم إنما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده، وإذا فرض تحقق الهم من أحد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلق الإرادة بالمريد والطلب من الطالب وبعث من هو مبعوث بالفعل.

ففيه أنه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون سبق ولحوق أوقارن ذلك عناية زائدة كإنسانين يريدان الاقتراب والاجتماع فربما يثبت أحدهما ويتحرك إليه الآخر، وربما يتحركان ويقتربان ويتدليان معا وجسمين يريدان الانجذاب والاتصال فربما يجذب أحدهما وينجذب إليه الآخر وربما يتجاذبان ويتدانيان.

4 - ومن الأقوال في الآية: أن المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب والدفاع فهي لما راودته وردها بالامتناع والاستنكاف ثارت منها داعية الغضب والانتقام وهاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط والأسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما أمرته به، وهو لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه وضربها إن مستها بسوء غير أن ضربه إياها ومقاومته لدفعها لما كان ربما يتهمه في أنه راودها عن نفسه ودعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك وألهم أن يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه ويخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب.

ولا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة أما في قوله:{ولقد همت به} فلان الهم لا يكون إلا بفعل للهام، والوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به، وإنما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه.

هذا أولا.

على أن يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه منه هما لها فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية وبعدها تبرئة من ذلك بل من وسائله ومقدماته أيضا.

وهذا ثانيا.

على أن ذلك لووقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: ولقد هم بها وهمت به لأن الأول هوالمقدم في الطبع والوضع وهوالهم الحقيقي، والهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.

وهذا ثالثا.

على أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال: إنها همت به مطلقا حتى لوفرض جدلا أنه كان قبولا لطلبه ومواتاة له إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، وأما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير.

وهذا رابعا.

انتهى ملخصا مما أورده صاحب المنار في تفسيره،.

والجواب: أنه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما أوردناه على سابقه، وأما ما يختص به أن المراد بهمها به قصدها إياه بضرب ونحوه فمما لا دليل عليه أصلا، وأما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدل على ذلك.

وأما ما ذكره في استبعاد أن يراد من قوله:{ولقد همت به} الهم على المخالطة أوعدم صحته فوجوه سخيفة جدا فإن من المعلوم أن هذه المخالطة تتألف عادة من حركات وسكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال والعمل دون القبول فلوهمت به بضم أوما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة، وتلجئه إلى إجابتها فيما تريده منه صح أن يقال: إنها همت به أي بمخالطته وليس من الواجب أن يفسر همها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به إطلاق الهم عليه.

وأما ما ذكره أخيرا أنها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح أن يراد بهمها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه أنها إنما كانت جازمة في إرادتها منه وعزيمتها عليه، وأما في تحقق الفعل ووقوعه على ما قدرته فلا كيف؟ وقد شاهدت من يوسف الامتناع والإباء عن مراودتها، وإنما همت به لما قابلها بالاستنكاف ولا جزم لها مع ذلك بإجابته لها ومطاوعته لما أرادته منه وهو ظاهر.

5 - ومن الأقوال في الآية: حمل الكلام على التقديم والتأخير ويكون التقدير: ولقد همت به ولولا أن رءا برهان ربه لهم بها، ولما رءا برهان ربه لم يهم بها، ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك، وقد كنت قتلت لولا أني خلصتك، والمعنى: لولا تداركي لهلكت - ولولا تخليصي لقتلت وإن كان لم يقع هلاك وقتل، ومثله قول الشاعر: فلا تدعني قومي ليوم كريهة.

لئن لم أعجل ضربة أو أعجل.

وفي القرآن الكريم:{إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} نسبه في المجمع، إلى أبي مسلم المفسر.

والجواب: أنه إن كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون: إن في القرآن تقديما وتأخيرا فإنما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم واكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى:{ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}: هود: 71 إنه من التقديم والتأخير، وإن التقدير: فبشرناها فضحكت وأما قوله:{وهم بها لولا أن رءا برهان ربه} فالمعنى يختلف فيه بالتقديم والتأخير فهوإذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للولا مقدما عليها على ما ذكروه، وإذا أخر كان هما مقيدا بالشرط.

وإن كان المراد أنه جواب للولا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على إن الشرطية ويؤولون ما سمع من ذلك اللهم إلا أن يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل على هذا القياس، ولا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك.

6 - ومن الأقوال في الآية: ما ذكروا أنها أول ما همت به في منامها وهم بها لأنه رآها في منامه فعند ذلك علم أنها له فلذلك هم بها.

أورده الغزالي في تفسيره، قال: وهذا وجه حسن لأن الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي. انتهى.

والجواب أنه إن أريد به أن قوله:{وهم بها} حكاية ما رآه يوسف (عليه السلام) في المنام فهوتحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وإن أريد به أنه (عليه السلام) رآها في المنام وهم بها فيه، واعتقد من هناك أنها له وخاصة بناء على أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم هم بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربه يبين له أنه قد أخطأ في زعمه ففيه إثبات خطإ الأنبياء في تلقي الوحي، وليس ذلك بأقل محذورا من تجويز إقدامهم على المعاصي.

على أن الآية السابقة - وقد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه واستعاذ بالله منه - تناقض ذلك فكيف يزعم أنها له وهو يعده ظلما ويستعيذ منه بالله سبحانه؟.

فهذه عمدة الأقوال في الآية وهي مع ما قدمناه أولا ترتقي إلى سبعة أوثمانية، وقد علمت أن معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل إنه سبب يقيني شاهده يوسف (عليه السلام)، ومن قائل إنه الآيات والأمور التي ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة، ومن قائل إنه العلم بحرمة الزنا وعذابه، ومن قائل إنه ملكة العفة، ومن قائل إنه العصمة والطهارة وقد عرفت ما هو الحق منها وسنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى:{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر} الاستباق هو التسابق وقد تقدم، والقد القط هو الشق إلا أن القد هو الشق طولا والقط هو الشق عرضا، والدبر والقبل كالخلف والأمام.

والسياق يعطي أن استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (عليه السلام) يريد أن يفتحه ويتخلص منها بالخروج من البيت، وامرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح والخروج لعلها تفوز بما تريده منه، وإن يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه من الوراء فقدته ولم ينقد إلا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها وإلا لم ينشق طولا.

وقوله:{وألفيا سيدها لدى الباب} الإلفاء الوجدان يقال: ألفيته كذا أي وجدت والمراد بسيدها زوجها.

قيل: إنه جري على عرف مصر وقد كانت النساء بمصر يلقبن زوجهن بالسيد، وهو مستمر إلى هذا الزمان.

قوله تعالى:{ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، وإنما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب وحضورهما والهيئة هذه الهيئة عنده، ويتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله:{وألفيا سيدها لدى الباب} إلى تمام خمس آيات.

فبدأت امرأة العزيز تشكويوسف إليه وتسأله أن يجازيه فذكرت أنه أراد بها سوءا وعليه أن يسجنه أويعذبه عذابا أليما لكنها لم تصرح بذلك ولا بشيء من أطراف الواقعة بل كنت وأتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت:{ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أوعذاب أليم} فلم يصرح باسم يوسف وهوالمريد، ولا باسم نفسها وهي الأهل، ولا باسم السوء وهو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز وتقديسا لساحته.

ولم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن والعذاب الأليم لأن قلبها الواله إليه المليء بحبه ما كان يساعدها على التعيين فإن في الإبهام نوعا من الفرج إلا أن في تعبيرها بقولها:{بأهلك} نوعا من التحريض عليه وتهييجه على مؤاخذته ولم يكن ذلك إلا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد والأسى لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف (عليه السلام) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.

قوله تعالى:{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} لم يبدأ يوسف (عليه السلام) بالقول أدبا مع العزيز وصونا لها أن يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون أن يصرح بالحق فقال:{هي راودتني عن نفسي} وفي الكلام دلالة على القصر وهي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.

وفي كلامه هذا – وهو خال عن أقسام التأكيد كالقسم ونحوه - دلالة على سكون نفسه (عليه السلام) وطمأنينته وأنه لم يحتشم ولم يجزع ولم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ كان لم يأت بسوء ولا يخافها ولا ما اتهمته وقد استعاذ بربه حين قال:{معاذ الله}.

قوله تعالى:{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} إلى آخر الآيتين.

لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله:{إن كان قميصه}{إلخ} بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله:{إن كان قميصه}{إلخ}، وقد قيل: إن هذا القول لما أدى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة.

وقد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة ويتضح طريق القضية فتكلم فقال:{ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فإن من البين أن أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب، وكون القد من قبل يدل على منازعتهما ومصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فإن كون القد من دبر يدل على هربه منها وتعقيبها إياه واجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها. وهو ظاهر.

وأما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم: كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن وقتادة وعكرمة، وقيل: كان رجلا وهو ابن عم المرأة وكان جالسا مع زوجها لدى الباب، وقيل: لم يكن من الإنس ولا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد، ورد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى:{من أهلها}.

ومن طرق أهل البيت (عليهم السلام) وبعض طرق أهل السنة أنه كان صبيا في المهد من أهلها، وسيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

والذي ينبغي أن ينظر فيه أن الذي أتى به هذا الشاهد بيان عقلي ودليل فكري يؤدي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر، ومثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فإنها هي البيان المتعمد على الحس أوما في حكمه وبالجملة القول الذي لا يعتمد على التفكير والتعقل كما في قوله:{ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}: حم السجدة: 20، وقوله:{ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}: المنافقون: 1 فإن الحكم بصدق الرسالة وإن كان في نفسه مستندا إلى التفكر والتعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر وتعقل كما في موارد يعبر عنه فيها بالقول ونحوه.

فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل{وشهد شاهد} إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترووفكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر وتعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتني على ترووتفكر، وبهذا يتأيد ما ورد من الرواية أنه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيد الله سبحانه به قول يوسف (عليه السلام).

قوله تعالى:{ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } أي فلما رأى العزيز قميص يوسف والحال أنه مقدود مشقوق من خلف، قال إن الأمر من كيدكن معاشر النساء إن كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.

ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء، وكيدهن معهود معروف، ولذا استعظمه وقال ثانيا:{إن كيدكن عظيم} وذلك أن الرجال أوتوا من الميل والانجذاب إليهن ما ليس يخفى وأوتين من أسباب الاستمالة والجلب ما في وسعهن أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال ويسخرن أرواحهم بجلوات فتانة وأطوار سحارة تسلب أحلامهم، وتصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون وهوالكيد وإرادة الإنسان بالسوء ومفاد الآية أن العزيز لما شاهد أن قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (عليه السلام) على امرأته.

قوله تعالى:{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} من مقول قول العزيز أي إنه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر وأمر امرأته أن تستغفر لذنبها ومن خطيئتها.

فقوله:{يوسف أعرض عن هذا} يشير إلى ما وقع من الأمر ويعزم على يوسف أن يعرض عنه ويفرضه كأن لم يكن فلا يحدث به ولا يذيعه، ولم يرد في كلامه تعالى ما يدل على أن يوسف (عليه السلام) حدث به أحدا وهو الظن به (عليه السلام) كما نرى أنه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير، وقد استولى عليها الوله وسلب منها الغرام كل حلم وحزم، ولم تكن المراودة مرة أومرتين والدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة:{امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا}.

وقوله:{واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} يقرر لها الذنب ويأمرها أن تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة، ولذلك قيل:{من الخاطئين} ولم يقل من الخاطئات.

وهذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء وحكم والقضاء للعزيز لا للشاهد.

ومن الخطإ قول بعضهم: إن معنى{واستغفري لذنبك} سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى.

بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز وكذا قول آخر: معناه: استغفري الله من ذنبك وتوبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام. انتهى.

وذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون إلا الآلهة والأرباب من دون الله سبحانه - وقد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب - على أن الآية لا تشتمل إلا على قوله:{واستغفري} من دون أن يذكر المتعلق، وهو ربها المعبود لها في مذهبها.

وربما قيل: إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة، والحق أن الذي تدل عليه أنه كان شديد الحب لامرأته.

__________________________

1- تفسير الميزان ، الطباطبائي،ج11،ص107-122.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدقّ مرحلة وأخطرها، حيث يعبّر القرآن عنه تعبيراً ذا مغزى كبير { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}.

وفي معنى هذه الجملة أقوال بين المفسّرين يمكن تصنيفها وإجمالها إلى ثلاثة تفاسير:

1 ـ إنّ امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطراً مع يوسف، وبذلت وسعها في ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشراً شابّاً لم يتزوّج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسيّة وجهاً لوجه ... لولا أن رأى برهان الله ... أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كلّ ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا العمل!

فعلى هذا يكون الفرق بين معاني «همّ» أي القصد من امرأة العزيز، والقصد من قبل يوسف، هو أنّ يوسف كان يتوقّف قصده على شرط لم يتحقّق، أي {عدم وجود برهان ربّه} ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقاً، ولأنّها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفّة، فإنّها صمّمت على هذا القصد حتّى آخر مرحلة، وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصمّاء!

ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربيّة وغيرها كما نقول مثلا: إنّ جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمّة صمّمت على الإغارة على مزرعة فلان ونهب خيراته، ولولا أنّي تربّيت سنين طوالا عند اُستاذي العارف الزاهد فلان، لأقدمت على هذا العمل معهم.

فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطاً بشرط لم يتحقّق، وهذا الأمر لا منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى، بل يؤكّد له هذا المقام العظيم كذلك.

وطبقاً لهذا التّفسير لم يبدُ من يوسف أي شيء يدلّ على التصميم على الذنب، بل لم يكن في قلبه حتّى هذا التصميم.

ومن هنا فيمكن القول أنّ بعض الرّوايات التي تزعم أنّ يوسف كان مهيّئاً لينال وطراً من امرأة العزيز، وخلع ثيابه عن بدنه، وذكرت تعبيرات أُخرى(2) نستحيي من ذكرها، كلّ هذه الأُمور عارية من الصحّة ومختلقة، وهذه أعمال من شأن الأفراد والمنحرفين الملوّثين غير الأنقياء. فكيف يمكن أن يتّهم يوسف مع هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الإتّهام.

الطريف أنّ التّفسير الأوّل نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في عبارة موجزة جدّاً وقصيرة، حيث يسأله المأمون «الخليفة العبّاسي» قائلا: ألا تقولون أنّ الأنبياء معصومون؟ فقال الإمام: «بلى». فقال: فما تفسير هذه الآية { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فقال الإمام (عليه السلام): «لقد همّت به، ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت، لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه» فقال المأمون: لله درُّك ياأبا الحسن(3).

2 ـ إنّ تصميم كلّ من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي، بل كان تصميماً على ضرب أحدهما الآخر ..

فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم إنتصارها في عشقها وبروز روح الإنتقام فيها ثأراً لهذا العشق.

وتصميم يوسف كان دفاعاً عن نفسه، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.

ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع:

أوّلا: إنّ امرأة العزيز كانت قد صمّمت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه الحالة، وكانت قد هيّأت مقدّمات هذا الأمر، فلا مجال ـ إذن ـ لأنّ يقول القرآن: إنّها صمّمت على هذا العمل الآن، لأنّ هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم.

وثانياً: إنّ ظهور حالة الخشونة والإنتقام بعد هذه الهزيمة أمر طبيعي، لأنّها بذلت ما في وسعها لإقناع يوسف، ولمّا لم توفّق إلى ما رغبت فيه توسلّت بطريق آخر، وهو طريق الخشونة والضرب.

وثالثاً: إنّنا نقرأ في ذيل هذه الآية { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}والمراد بالفحشاء هو التلوّث وعدم العفّة .. والمراد بصرف السوء، هو نجاته من مخالف امرأة العزيز(4)، وعلى كلّ حال فحين رأى يوسف برهان ربّه ... تجنّب الصراع مع امرأة العزيز وضربها، لأنّه قد يكون دليلا على تجاوزه وعدوانه عليها، ولذا رجّح أن يبتعد عن ذلك المكان ويفرّ نحو الباب.

3 ـ ممّا لا شكّ فيه أنّ يوسف كان شابّاً يحمل جميع الأحاسيس التي في الشباب، وبالرغم من أنّ غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه .. إلاّ أنّ مثل هذا الإنسان ـ بطبيعة الحال ـ يهيج طوفان في داخله لما يشاهده من مثيرات في هذا المجال، فيصطرع العقل والغريزة، وكلّما كانت أمواج المثيرات أشدّ كانت كفّة الغرائز أرجح، حتّى أنّها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوّة، بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوة لهوى في مزلق مهول، ولكنّ قوّة الإيمان والعقل ثارت في نفسه فجأة وتسلّمت زمام الأُمور في إنقلاب عسكري سريع وكبحت جماح الشهوة.

والقرآن يصوّر هذه اللحظة الخاطفة الحسّاسة والمتأزّمة التي وقعت بين زمانين هادئين ـ في الآية المتقدّمة ـ فيكون المراد من قوله تعالى: { وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} إنّ يوسف إنجرّ إلى حافّة الهاوية في الصراع بين الغريزة العقل، ولكن فجأةً ثارت قوّة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة(5).. لئلاّ يتصوّر أحد أنّ يوسف عندما إستطاع أن يخلّص نفسه من هذه الهاوية فلم يقم بعمل مهمّ، لأنّ أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة .. كلاّ أبداً .. فهو في هذه اللحظة الحسّاسة جاهد نفسه أشدّ الجهاد.

ما المراد من بُرهان ربّه؟

«البرهان» في الأصل مصدر «بَرِهَ» ومعناه «صيرورة الشيء أبيضاً» ثمّ اُطلق هذا اللفظ على كلّ دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود، فعلى هذا يكون برهان الله الذي نجّى يوسف نوعاً من الأدلّة الإلهيّة الواضحة، وقد إحتمل فيه المفسّرون إحتمالات كثيرة، من جملتها:

1 ـ العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة.

2 ـ معرفته بحكم تحريم الزنا.

3 ـ مقام النبوّة وعصمته من الذنب.

4 ـ نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحسّاسة بسبب أعماله الصالحة.

5 ـ هناك رواية يستفاد منها أنّه كان في قصر امرأة عزيز مصر صنم تعبده، وفجأةً وقعت عيناها عليه، فكأنّها أحسّت بأنّ الصنم ينظر إلى حركاتها الخيانيّة بغضب، فنهضت وألقت عليه ستراً، فاهتزّ يوسف لهذا المنظر، وقال: أنت تستحين من صنم لا يملك عقلا ولا شعوراً ولا إحساساً، فكيف لا أستحيي من ربّي الخبير بكلّ شيء، والذي لا تخفى عليه خافية؟.

فهذا الإحساس منح يوسف قوّة جديدة، وأعانه على الصراع الشديد في أعماق نفسه بين الغريزة والعقل، ليتمكّن من التغلّب على أمواج الغريزة في نفسه(6).

وفي الوقت ذاته لا مانع أن تكون جميع هذه المعاني منظورة، لأنّ مفهوم البرهان العام يستوعبها جميعاً، وقد أطلقت آيات القرآن كلمة «البرهان» على كثير من المعاني المتقدّمة.

أمّا الرّوايات التي لا سند لها والتي ينقلها بعض المفسّرين، والتي مؤدّاها أنّ يوسف صمّم على الذنب، ولكنّه لاحظ فجأةً حالة من المكاشفة بين جبرئيل ويعقوب وهو يعضّ على إصبعه، فرأى يوسف هذا المنظر وتخلّف عن إقدامه على هذا الذنب .. فهذه الرّوايات ليس لها أي سند معتبر .. وهي روايات إسرائيلية أنتجتها الذهنيات البشرية الضيّقة التي لم تدرك مقام النبوّة أبداً.

والآن لنتوجّه إلى تفسير بقيّة الآية إذ يقول القرآن المجيد: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. وهي إشارة إلى أنّ هذا الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل الله لم يكن إعتباطاً، فقد كان عبداً عارفاً مؤمناً ورعاً ذا عمل صالح طهّر قلبه من الشرك وظلماته، فكان جديراً بهذا الإمداد الإلهي.

وبيان هذا الأمر يدلّ على أنّ مثل هذه الإمدادات الغيبية، في لحظات الشدّة والأزمة التي تدرك الأنبياء ـ كيوسف مثلا ـ غير مخصوصة بهم، فإنّ كلّ من كان في زمرة عباد الله الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب أيضاً.

فضيحة امرأة العزيز!!

المقاومة الشديدة التي أبداها يوسف جعلت امرأة العزيز آيسة منه تقريباً .. ولكن يوسف الذي إنتصر في هذا الدور على تلك المرأة المعاندة أحسّ أنّ بقاءه في بيتها ـ في هذا المزلق الخطر ـ غير صالح، وينبغي أن يبتعد عنه، ولذلك أسرع نحو باب القصر ليفتحه ويخرج، ولم تقف امرأة العزيز مكتوفة الأيدي، بل أسرعت خلفه لتمنعه من الخروج، وسحبت قميصه من خلفه فقدّته { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}.

(الإستباق) في اللغة هو المسابقة بين شخصين أو أكثر.

و (قدّ) بمعنى مَزّق طولا، كما أنّ «قطّ» بمعنى مَزّق عرضاً، ولذلك نقرأ في الحديث .. «كانت ضربات علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبكاراً، إذا اعتلى قدّ، وإذا إعترض قطّ»(7).

وعلى كلّ حال فقد أوصل يوسف نفسه نحو الباب وفتحه فرأيا «يوسف وامرأة العزيز» عزيز مصر خلف الباب فجأةً. يقول القرآن الكريم: {وألفيا سيّدها لدى الباب}.

«ألفيا» من مادّة «الإلفاء» ومعناها العثور المفاجىء .. والتعبير عن الزوج بـ«السيّد» كما يقول بعض المفسّرين كان طبقاً للعرف السائد في مصر، حيث كانت تخاطب المرأة زوجها بالسيّد.

في هذه اللحظة التي رأت امرأة العزيز نفسها على أبواب الفضيحة من جهة، وشعلة الإنتقام تتأجّج في داخلها من جهة أُخرى، كان أوّل شيء توجّهت إليه أن تخاطب زوجها متظاهرة بمظهر الحقّ متّهمة يوسف إذ { قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

من الطريف هنا أنّ هذه المرأة الخائنة نسيت نفسها أنّها امرأة العزيز حينما كانت لوحدها مع يوسف، ولكن عندما وجدت نفسها مشرفة على الإفتضاح، عبّرت عن نفسها بأنّها أهله لتثير فيه إحساس الغيرة! فهي خاصّة به ولا ينبغي لأحد أن يلقي عليها نظرات الطمع!!

وهذا الكلام قريب الشبه بكلام فرعون مصر في عصر موسى إذ قال: {أليس  لي ملك مصر}،(الزخرف 51) حيث كان جالساً على عرش السلطنة! ولكنّه حين وجد نفسه مشرفاً على السقوط، ووجد ملكه وتاجه في خطر، قال عن موسى وأخيه: { يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ}(طه 63).

والأمر الآخر أنّ امرأة العزيز لم تقل إنّ يوسف كان يريد السوء بي، بل تحدّثت

[عن ما يستحقّه من الجزاء] مع عزيز مصر، فكأنّ أصل المسألة مسلّم به!! والكلام عن كيفية الجزاء.

وهذا التعبير المدروس الذي كان في لحظة إضطراب ومفاجأة للمرأة يدلّ على شدّة إحتيالها(8).

ثمّ إنّ التعبير عن السجن أوّلا، ثمّ عدم قناعتها بالسجن وحده، إذ تتجاوز هذا الحكم إلى العذاب الأليم أو «الإعدام» مثلا.

ولكن يوسف أدرك أنّ السكوت هنا غير جائز .. فأماط اللثام عن عشق امرأة العزيز {وقال هي راودتني عن نفسي}.

وطبيعي أنّ مثل هذا الحادث من العسير تصديقه في البداية، أي إنّ شابّاً يافعاً غير متزوّج لا يُعدّ آثماً، ولكن امرأة متزوّجة ذات مكانة إجتماعية ـ ظاهراً ـ آثمة! فلذلك كانت أصابع الإتّهام تشير إلى يوسف أكثر من امرأة العزيز.

ولكن حيث أنّ الله حامي الصالحين والمخلصين فلا يرضى أن يحترق هذا الشاب المجاهد بشعلة الإتّهام، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. وأي دليل أقوى من هذا الدليل، لأنّ طلب المعصية إن كان من طرف امرأة العزيز فقد ركضت خلف يوسف وقدّت قميصه من دُبر، لأنّه كان يريد الفرار فأمسكت بثوبه فقدّته، وإذا كان يوسف هو الذي هجم عليها وهي تريد الفرار أو وقفت أمامه للمواجهة والدفاع، فمن المسلّم أن يُقدّ قميص يوسف من قُبل! وأيّ شيء أعجب من أن تكون هذه المسألة البسيطة «خرق الثوب» مؤشّراً على تغيير مسير حياة بريء وسنداً على طهارته ودليلا على إفتضاح المجرم!.

أمّا عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق، وتحيّر في قميص يوسف ذاهلا: { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}.

في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من إنتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضيّة، فالتفت إلى يوسف وقال: {يُوسفُ أعرض عن هذا} أي اُكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً .. ثمّ التفت إلى امرأته وقال: { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}(9).

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ القائل لهذه الجملة ليس عزيز مصر، بل الشاهد نفسه، ولكن لا دليل يؤيّد هذا الإحتمال وخاصّة مع وقوع هذه الجملة بعد قول العزيز.

______________________

1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج6,ص266-276.

2- تفسير مجمع البيان ،ذيل الآية مورد البحث، تفسير جامع البيان،ج12،ص241و242.

3- تفسير نور الثقلين ج2 ص421.،بحار الانوار،ج11،ص82.

4- بحار الانوار ،ج11،ص72.

5- مقتبس من تفسير «في ظلال القرآن» لسيّد قطب ذيل الآية ج4 ص711.

6- نور الثقلين، ج2، ص422; وتفسير القرطبي، ص398، ج5.

7- تفسير مجمع البيان،ذيل الاية مورد البحث،شرح نهج البلاغة لابن ابي الحدبد ،ج1،ص50.

8- في المراد من «ما» من قولها «ما جزاء» أهي نافية أم إستفهامية، هناك إختلاف بين المفسّرين، والنتيجة واحدة.

9- ورد التعبير بالخاطئين وهو جمع مذكّر، ولم يرد التعبير بالخاطئات الذي هو جمع مؤنث، لأنّ جمع المذكّر السالم يُغلّب في كثير من الموارد ويطلق على جماعة الذكور والإناث أي «إنّك في زمرة الخاطئين».




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .