أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-4-2020
7056
التاريخ: 21-4-2020
4900
التاريخ: 21-4-2020
3271
التاريخ: 21-4-2020
15942
|
قال تعالى : { يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } [ص : 26 - 29] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ذكر سبحانه إتمام نعمته على داود (عليه السلام) بقوله {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي صيرناك خليفة تدبر أمور العباد من قبلنا بأمرنا وقيل معناه جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدعاء إلى توحيد الله تعالى وعدله وبيان شرائعه عن أبي مسلم {فاحكم بين الناس بالحق} أي أفصل أمورهم بالحق وضع كل شيء موضعه {ولا تتبع الهوى} أي ما يميل طبعك إليه ويدعو هواك إليه إذا كان مخالفا للحق {فيضلك عن سبيل الله} معناه إنك إذا اتبعت الهوى عدل الهوى بك عن سبيل الحق الذي هو سبيل الله {إن الذين يضلون عن سبيل الله} أي يعدلون عن العمل بما أمرهم الله .
{لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} أي لهم عذاب شديد يوم الحساب بتركهم طاعات الله في الدنيا عن عكرمة والسدي ويكون على هذا يتعلق يوم الحساب بعذاب شديد وقيل معناه لهم عذاب شديد بإعراضهم عن ذكر يوم القيامة فيكون يوم متعلقا بنسوا {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا} لا غرض فيه حكمي بل خلقناهما لغرض حكمي وهوما في ذلك من إظهار الحكمة وتعريض أنواع الحيوان للمنافع الجليلة وتعريض العقلاء منهم للثواب العظيم وهذا ينافي قول أهل الجبر أن كل باطل وضلال فهومن فعل الله .
{ذلك ظن الذين كفروا} بالله وجحدوا حكمته {فويل للذين كفروا من النار} ظاهر المعنى ثم قال سبحانه على وجه التوبيخ للكفار على وجه الاستفهام {أم نجعل الذين آمنوا} معناه بل أ نجعل الذين صدقوا الله ورسله {وعملوا الصالحات} والطاعات {كالمفسدين في الأرض} العاملين بالمعاصي {أم نجعل المتقين كالفجار} أي بل أ نجعل المتقين الذين اتقوا المعاصي لله خوفا من عقابه كالفجار الذين عملوا بالمعاصي وتركوا الطاعات أي أن هذا لا يكون أبدا .
ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال {كتاب أنزلناه إليك مبارك} أي هذا القرآن كتاب منزل إليك مبارك أي كثير نفعه وخيره فإن في التدين به يستبين الناس ما أنعم الله عليهم {ليدبروا آياته} أي ليتفكر الناس ويتعظوا بمواعظه {وليتذكر أولو الألباب} أي أولو العقول فهم المخاطبون به .
____________________
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} . كل إنسان وجد أو يوجد فهو خليفة اللَّه في أرضه بمعنى انه مسؤول أمام اللَّه عن العمل في هذه الحياة لخير الدنيا والآخرة . هذا معنى خلافة الإنسان في الأرض أيا كان ، والفرق بين الأفراد إنما هو في نوع العمل المسؤول عنه ، حيث يطلب من كل حسب طاقته ومهنته ، وبما ان وظيفة الأنبياء هي التبشير والتحذير كيلا يكون للناس على اللَّه الحجة - وجب عليهم الحكم بين الناس بالحق ، وعلى غيرهم السمع والطاعة .
{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى} لأن منصب النبوة يستدعي ذلك بطبعه ، وبكلام آخر ان اللَّه سبحانه يختار لوحيه من يؤمن بالحق ويعمل به ، ويستحيل في حقه الخطأ والخطيئة {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ} . أشقى الناس من خالف مولاه واتبع هواه . . وفي الحديث : ان أخوف ما أخافه عليكم الهوى وطول الأمل ، أما الهوى فإنه يصد عن الحق ، واما طول الأمل فينسي الآخرة . ومن نسي هذا اليوم فهومن المعذبين بناره وجحيمه .
{وما خَلَقْنَا السَّماءَ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا} . ولوكان في خلق الكون شائبة للعبث والباطل لما ثبت واستمر على نظامه المحكم ملايين السنين . وتقدم مثله في الآية 191 من سورة آل عمران ج 2 ص 231 {ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} . ويومئ هذا إلى أنه لا فرق بين من أنكر وجود اللَّه من الأساس ، ومن اعترف به وأنكر الحكمة في خلقه . . لأن دلائلها ظاهرة ، وأعلامها واضحة . قال الإمام علي (عليه السلام) : قدر ما خلق فأحكم تقديره ، ودبره فألطف تدبيره ، ووجهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته .
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} . الفرق بين الصالح والمفسد وبين التقي والفاجر تماما كالفرق بين الطيب والخبيث وبين الأعمى والبصير . وتقدم مثله في الآية 100 من سورة المائدة ج 3 ص 131 والآية 50 من سورة الأنعام ص 193 من المجلد المذكور . وفي (أحكام القرآن) للقاضي أبي بكر المعروف بابن العربي : ان هذه الآية نزلت في بني هاشم ، وان الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمتقين هم علي بن أبي طالب وأخوه جعفر وعبيدة بن الحرث والطفيل بن الحارث وزيد بن حارثة وأم أيمن وغيرهم ، وان المفسدين والفجار هم من بني عبد شمس . {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ} . الخطاب لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، والكتاب القرآن ، وهو بركة على من آمن به ، وشفاء له من الكفر ومساوئ الأخلاق ، ونجاة من الشرك والهلاك . وفي نهج البلاغة : استنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، استغشوا فيه أهواءكم .
______________
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} إلى آخر الآية الظاهر أن الكلام بتقدير القول والتقدير فغفرنا له ذلك وقلنا يا داود {إلخ} .
وظاهر الخلافة أنها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة : 30] ومن شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة من استخلفه في صفاته وأعماله فعلى خليفة الله في الأرض أن يتخلق بأخلاق الله ويريد ويفعل ما يريده الله ويحكم ويقضي بما يقضي به الله - والله يقضي بالحق - ويسلك سبيل الله ولا يتعداها .
ولذلك فرع على جعل خلافته قوله : {فاحكم بين الناس بالحق} وهذا يؤيد أن المراد بجعل خلافته إخراجها من القوة إلى الفعل في حقه لا مجرد الخلافة الشأنية لأن الله أكمله في صفاته وآتاه الملك يحكم بين الناس .
وقول بعضهم : إن المراد بخلافته المجعولة خلافته ممن قبله من الأنبياء وتفريع قوله : {فاحكم بين الناس بالحق} لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أن المترتب هو مطلق الحكم بين الناس الذي هومن آثار الخلافة وتقييده بالحق لأن سداده به ، تصرف في اللفظ من غير شاهد .
وقوله : {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} العطف والمقابلة بينه وبين ما قبله يعطيان أن المعنى ولا تتبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلك عن الحق الذي هو سبيل الله فتفيد الآية أن سبيل الله هو الحق .
قال بعضهم : إن في أمره (عليه السلام) بالحكم بالحق ونهيه عن اتباع الهوى تنبيها لغيره ممن يلي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق ولا يتبع الباطل وإلا فهو(عليه السلام) من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق ولا يتبع الباطل .
وفيه أن أمر تنبيه غيره بما وجه إليه من التكليف في محله لكن عصمة المعصوم وعدم حكمه إلا بالحق لا يمنع توجه التكليف بالأمر والنهي إليه فإن العصمة لا توجب سلب اختياره وما دام اختياره باقيا جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجه إلى غيره من الناس ، ولولا توجه التكليف إلى المعصوم لم يتحقق بالنسبة إليه واجب ومحرم ولم تتميز طاعة من معصية فلغا معنى العصمة التي هي المصونية عن المعصية .
وقوله : {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} تعليل للنهي عن اتباع الهوى بأنه يلازم نسيان يوم الحساب وفي نسيانه عذاب شديد والمراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره .
وفي الآية دلالة على أن كل ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا ينفك عن نسيان يوم الحساب .
قوله تعالى : {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا} إلى آخر الآية ، لما انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتج عليه بحجتين إحداهما ما ساقه في هذه الآية بقوله : {وما خلقنا السماء} إلخ وهو احتجاج من طريق الغايات إذ لولم يكن خلق السماء والأرض وما بينهما - وهي أمور مخلوقة مؤجلة توجد وتفنى - مؤديا إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجلة كان باطلا والباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقق في الأعيان .
على أنه مستحيل من الحكيم ولا ريب في حكمته تعالى .
وربما أطلق الباطل وأريد به اللعب ولوكان المراد ذلك كانت الآية في معنى قوله : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان : 38 ، 39] .
وقيل : الآية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل : ولا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل اتباع الهوى وهو الباطل بل خلقه للتوحيد ومتابعة الشرع .
وفيه أن الآية التالية : {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض} إلخ لا تلائم هذا المعنى .
وقوله : {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} أي خلق العالم باطلا لا غاية له وانتفاء يوم الحساب الذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الأمور ظن الذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار .
قوله تعالى : {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} هذه هي الحجة الثانية على المعاد وتقريرها أن للإنسان كسائر الأنواع كمالا بالضرورة وكمال الإنسان هو خروجه في جانبي العلم والعمل من القوة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقة ويعمل الأعمال الصالحة اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة وهما الإيمان بالحق والعمل الصالح اللذين بهما يصلح المجتمع الإنساني الذي في الأرض .
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم المتقون هم الكاملون من الإنسان والمفسدون في الأرض بفساد اعتقادهم وعملهم وهم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم حقيقة ، ومقتضى هذا الكمال والنقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة وعيش طيب وبإزاء خلافه خلاف ذلك .
ومن المعلوم أن هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الأسباب والعوامل المادية ونسبتها إلى الكامل والناقص والمؤمن والكافر على السواء فمن أجاد العمل ووافقته الأسباب المادية فاز بطيب العيش ومن كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء وضنك المعيشة .
فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء ولم تكن هناك حياة تختص بكل منهما وتناسب حاله كان ذلك منافيا للعناية الإلهية بإيصال كل ذي حق حقه وإعطاء المقتضيات ما تقتضيه .
وإن شئت فقل : تسوية (2) بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك خلاف عدله تعالى .
والآية - كما ترى - لا تنفي استواء حال المؤمن والكافر وإنما قررت المقابلة بين من آمن وعمل صالحا وبين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمنا غير صالح ولذا أتت بالمقابلة ثانيا بين المتقين والفجار .
قوله تعالى : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} أي هذا كتاب من وصفه كذا وكذا ، وتوصيفه بالإنزال المشعر بالدفعة دون التنزيل الدال على التدريج لأن ما ذكر من التدبر والتذكر يناسب اعتباره مجموعا لا نجوما مفرقة .
والمقابلة بين {ليدبروا} و{ليتذكر أولوا الألباب} تفيد أن المراد بضمير الجمع الناس عامة .
والمعنى : هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات والبركات للعامة والخاصة ليتدبره الناس فيهتدوا به أو تتم لهم الحجة وليتذكر به أولو الألباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجته وتلقيها من بيانه .
_______________
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
اُحكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس :
نواصل استعراض قصّة داود ، ونقف هنا على أعتابها النهائية ، حيث إن آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود ، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني ، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد أن وضحت مقامه الرفيع ، إذ تقول : {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه إن الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم القيامة} .
محتوى هذه الآية التي تتحدّث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها ، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحّة .
فهل يمكن أن ينتخب الباري عزّ وجلّ شخصاً ينظر إلى شرف المؤمنين والمقرّبين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء ـ خليفة له في الأرض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق ؟!
هذه الآية تضمّ خمس جمل كلّ واحدة منها تتحدّث عن حقيقة معيّنة :
الاُولى : خلافة داود في الأرض ، فهل المقصود منها خلافته للأنبياء السابقين ، أمّ أنّها تعني خلافة الله؟ المعنى الثاني أنسب ويتطابق مع ما جاء في الآية (30) من سورة البقرة : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30] .
بالطبع فإنّ المعنى الواقعي للخلافة لا يتعلّق بالله ، لأنّه يأتي في مورد وفاة شخص أو غيابه ، والمراد من الخلافة هنا هو أن يكون نائباً لله بين العباد ، والمنفّذ لأوامر الله سبحانه وتعالى في الأرض . هذه الجملة تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهيّة ، وأي حكومة لا تستلهم شرعيتها من الحكومة الإلهيّة فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة .
الجملة الثانية : تأمر داود قائلة : بعد أن منحك الله سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة ، أي الخلافة ، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ {فاحكم بين الناس بالحقّ} .
وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة الله هي ظهور حكومة تحكّم بالحقّ ، ومن هذه الجملة يمكن القول أنّ حكومة الحقّ تنشأ ـ فقط ـ عن خلافة الله ، وأنّها النتيجة المباشرة لها .
أمّا الجملة الثالثة : فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل ، ألا وهو اتّباع هوى النفس {ولا تتبع الهوى} .
نعم ، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان ، ويباعد بينه وبين العدالة .
لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول : {فيضلّك عن سبيل الله} .
فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك ، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال .
فالحاكم الذي يتّبع هوى النفس ، إنّما يفرّط بمصالح وحقوق الناس لأجل مطامعه ، ولهذا السبب فإنّ حكومته تكون مضطربة ومصيرها الإنهيار والزوال .
ومن الممكن أن يكون لـ (هوى النفس) معاني واسعة ، تضمّ في نفس الوقت هوى نفس الإنسان ، وهوى النفس عند كلّ الناس ، وهكذا فإنّ القرآن يحكم ببطلان المناهج الوضعيّة التي تستند على أفكار عامّة الناس في الحكم ، لأنّ نتيجة الإثنين هو الضلال والإنحراف عن سبيل الله وصراط الحقّ .
واليوم نشاهد الآثار السيّئة لهذا النوع من التفكير في عالم يسمّى بالعالم المتطور والحديث ، فأحياناً نرى أشنع وأقبح الأعمال تأخذ شكلا قانونياً نتيجة الأخذ بآراء الناس ، ورائحة الفضيحة في هذا العالم قد أزكمت الاُنوف ، والقلم يجلّ عن ذكرها .
صحيح أنّ اُسس الحكومة مستندة على الجماهير ، وأنّ مشاركة الجميع فيها يحفظ اُسسها ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ رأي الأكثرية هو معيار الحقّ والباطل في كلّ شيء وفي كلّ مكان .
فالحكومة يجب أن يكون إطارها الحقّ ، ولتطبيق الحقّ لا بأس بالإستعانة بطاقات أفراد المجتمع ، وعبارة (الجمهورية الإسلامية) المتكوّنة من كلمتي (الجمهورية) و(الإسلامية) تعطي المعنى السابق ، وبعبارة اُخرى فإنّ اُصولها مستمدّة من نهج الإسلام ، وتنفيذ تلك الاُصول يتمّ بمشاركة الجماهير .
وأخيراً فإنّ الجملة الخامسة تشير إلى أنّ كلّ ضلال عن سبيل الله لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب ، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب الله الشديد ينتظره {إنّ الذين يضلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} .
ومن الطبيعي أنّ نسيان يوم القيامة هو مصدر الضلال ، وكلّ ضلال مرتبط بالنسيان ، وهذا المبدأ يوضّح التأثير التربوي في الإهتمام بالمعاد في حياة البشر .
ولقد وردت روايات بهذا الشأن في المصادر الإسلامية ، ومنها حديث مشهور عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) جاء فيه : «أيّها الناس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل; فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة» (2) .
أليس من الأفضل كتابة هذا الحديث بماء الذهب ، ووضعه أمام الجميع خاصّة الحكّام والقضاة والمسؤولين .
وفي رواية اُخرى وردت عن الإمام الباقر (عليه السلام) ، جاء فيها : «ثلاث موبقات : شحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه» (3) .
وتتمّة للبحث الذي إستعرض حال داود وخلافته في الأرض ، تتطرّق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود ، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم ، وجاء في قوله تعالى : {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} .
هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدراً لكلّ الحقوق ، وهي : ما الهدف من وجود الخلق؟ فعندما ننظر إلى هذا العالم الوسيع ، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه الله عبثاً ، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق ، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة ، وهي (التكامل) و(التعليم) و(التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ ، فعليها أن تثبت اُسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان .
وبعبارة اُخرى : إنّ الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود ، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة .
الجملة الأخيرة من الآية السابقة التي تطرّقت إلى نسيان يوم الجزاء ، متطابقة بصورة كاملة مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ هدف خلق العالم يوجب عدم نسيان يوم الجزاء والحساب ، وكما قلنا في بحث المعاد (في آخر سورة يس) لولم يكن هناك يوم للحساب ، فإنّ خلق العالم يعدّ عبثاً .
ونهاية هذه الآية تشير إلى خطوط واضحة تفصّل بين الإيمان والكفر ، وإعتقاد المذهب الإلحادي بعدم جدوى خلق العالم هو مثال للإبتلاءات التي إبتلينا بها اليوم ، إذ أنّ اتّباع ذلك المذهب يعلنون بصراحة أنّ خلق العالم لا فائدة فيه ، ولا هدف يرتجى من ورائه ، فمن يفكّر هكذا كيف يتمكّن من تطبيق الحقّ والعدالة في حكومته ؟!
الحكومة الوحيدة التي تستطيع تطبيق الحقّ والعدالة ، هي الحكومة التي تستلهم أفكارها ومعتقداتها من المبادئ الإلهيّة ، والتي تقول إنّ الباري عزّ وجلّ لم يخلق العالم عبثاً وإنّما خلقه لأهداف وأغراض معيّنة ، كي تسير الحكومات وفق تلك الأهداف ، وإذا كان العالم الإلحادي قد وصل اليوم إلى طريق مسدود في شؤون الحكم والحرب والسلام وفي الإقتصاد والثقافة ، فالسبب الرئيسي يكمن في إبتعادهم عن هذا الأمر ، ولهذا فإنّ اُسس حكوماتهم تقوم على الظلم والتسلّط ، فكم تكون الدنيا موحشة ورهيبة إذا أصبحت تدار وفق هذا النوع من التفكير العشوائي!
على أيّة حال ، فإنّ الباري عزّوجلّ حكيم ، ومن غير الممكن أن يخلق هذا العالم من دون هدف ، فالعالم هذا مقدّمة لعالم آخر أكبر وأوسع من عالمنا هذا ، وهو أبدي وخالد يوضّح الأهداف الحقيقيّة وراء خلق عالم الدنيا .
الآية التالية تضيف : {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار} (4) .
كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمراً مستحيلا ، فمن المستحيل أيضاً المساواة بين الصالحين والطالحين ، لأنّ المجموعة الاُولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية ، بينما كانت المجموعة الثانية تسير بإتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاُولى .
الواقع أنّ بحث المعاد بكافّة أبعاده قد تمّ تناوله في هذه الآية والآية التي سبقتها بشكل مستدلّ .
فمن جهة تقول : إنّ حكمة الخالق تقتضي أن يكون لخلق العالم هدف ، وهذا الهدف لا يتحقّق بعدم وجود عالم آخر ، لأنّ الأيّام القلائل التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا لا قيمة لها بالنسبة للهدف الرئيسي الكامن وراء خلق هذا العالم الواسع .
ومن جهة اُخرى ، فإنّ حكمة وعدالة الباري عزّ وجلّ تفرض أن لا يتساوى المحسن والمسيء والعادل والظالم ، ولهذا كان البعث والثواب والعقاب والجنّة والنار .
وبغضّ النظر عن هذا ، فعندما ننظر إلى ساحة المجتمع الإنساني في هذه الدنيا نشاهد الفاجر في مرتبة المؤمن ، والمسيء إلى جانب المحسن ، ولربّما في أكثر الأحيان نرى المفسدين المذنبين يعيشون في حالة من الرفاه والتنعّم أكثر من غيرهم ، فإذا لم يكن هناك عالم آخر بعد عالمنا هذا لتطبيق العدالة هناك ، فإن وضع العالم هذا مخالف «للحكمة» و(للعدالة) ، وهذا هو دليل آخر على مسألة المعاد .
وبعبارة اُخرى ، فلإثبات مسألة المعاد ـ أحياناً ـ يمكن الإستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحياناً اُخرى عن طريق برهان (العدالة) ، فالآية السابقة إستدلال بالحكمة ، والآية التي بعدها إستدلال بالعدالة .
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح ـ في حقيقة الأمر ـ الهدف من الخلق ، إذ جاء في الآية الكريمة : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكّر اُولوا الألباب} .
فتعليماته خالدة ، وأوامره عميقة وأصيلة ، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى الطريق المؤدّي إلى إكتشاف هدف الخلق .
فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر ـ فقط ـ على تلاوته وتلفّظ اللسان به ، بل لكي تكون آياته منبعاً للفكر والتفكّر وسبباً ليقظة الوجدان ، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل .
كلمة (مبارك) تعني شيئاً ذا خير دائم ومستمر ، أمّا في هذه الآية فإنّها تشير إلى دوام إستفادة المجتمع الإنساني من تعليماته ، ولكونها إستعملت هنا بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل كلّ خير وسعادة في الدنيا والآخرة .
وخلاصة الأمر ، فإنّ كلّ الخير والبركة في القرآن ، بشرط أن نتدبّر في آياته ونستلهم منها ونعمل بها .
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص388-393 .
2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة (42) .
3 ـ كتاب «الخصال» نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد 4 ، الصفحة 453 .
4 ـ بعض المفسّرين قالوا : إنّ (أمّ) هنا تعطي معنى (بل) للاضراب ، وهنا إحتمال آخر يقول : إنّ (أم) جاءت للعطف على إستفهام محذوف ، وتقدير الآية هو(أخلقنا السموات والأرض باطلا أم نجعل المتّقين كالفجّار؟) .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكريّة يطلق دورة في البرمجيات لتعزيز الكفاءات التقنية للناشئة
|
|
|