هذه الأعداد تعبر تعبيرا صادقا عن هذا العالم الذي يمثل دائرة معارف عصره و الذي كان خاتمة الأئمة في العلوم الإسلامية، مثل: التفسير، و الحديث و الفقه، و النحو، و المعاني، و البيان و البديع، و يقول هو مترجما لنفسه في كتابه «حسن المحاضرة» إنه وصل فيها-ما عدا الفقه-منزلة لم يصل إليها أحد من أشياخه الذين بلغ عددهم مائة و خمسين أستاذا، روى عنهم سماعا، و إجازة.
اشتهر منهم علم الدين البلقيني، وقي الدين الشبلي و شيخ الإسلام المناوي و فرضي زمانه الشرمساحي، و «أستاذ الوجود» محي الدين الكافيجي (1) الذي لزمه و يذكر أنه زاره مرة فسأله الشيخ عن إعراب «زيد قائم» . فقال له السيوطي: هل صرنا في مقام الصغار، فقال له الكافيجي إن فيها مائة و ثلاثة عشر بحثا و قرر السيوطي أن لا يقوم من مقامه حتى يستوفيها، و قد استطردها في كتابه الأشباه و النظائر (2).
و من شيوخ السيوطي تقي الدين الشّمنى الذي أطال في التنويه به و الثناء عليه و روى عنه حديثا مسلسلا بالنحاة. و قرأ أيضا على سيدات اشتهرن بالفضل و العلم. مثل هاجر بنت محمد المصرية، و أم هانئ بنت أبي الحسن الهرويني و نشوان بنت عبد اللّه الكناني.
أما مصنفاته فكانت تعد بالمئات، ذكر منها بروكلمان 415 مؤلفا ما بين مطبوع و مخطوط، و أحصى له أحمد الشرقاوي إقبال سبعمائة و خمسة و عشرين كتابا، خصص منها عشرات للنحو و اللغة و عالج فيها جميع مواضيع معارفه الواسعة، فاشتهرت كتبه في علوم القرآن و علوم الحديث، و علوم اللغة، و ألف في التاريخ، و في طبقات المشاهير في أغلب الفنون، و كتب عن اللباس، كذم الطيلسان، و عن الرياضة كتعليم الرمي و السباحة، و أسماء الحيوانات، و عن فضل الديك و عن فوائد البرغوث. و هذا يبين مدى التفاوت بين مواضيع مؤلفاته.
ص357
و في العهد الذي برز فيه الإمام السيوطي، نحويا و لغويا، كانت مدرسة الإمام ابن مالك ملأت ساحة النشاط النحوي. فلقد انتشرت كتب ابن مالك و نوقشت آراؤه، و اتضحت معالم مذهبه الجديد، تأسست على أيدي علماء أفذاذ، منهم أبو حيان الأندلسي، و ابن هشام و ابن عقيل، و الدماميني، و كان خاتمة هؤلاء الإمامي السيوطي.
ينتمي الإمام السيوطي إذن إلى مدرسة ابن مالك التي استقى معارفه النحوية من أمهات كتبها الخمسة، أعني الخلاصة و التسهيل لابن مالك و التذييل و الارتشاف لأبي حيان و المغني لابن هشام. و اعتنق مبادئها الخمسة و هي:
1. الاجتهاد في جمع المسائل النحوية.
2. مزج النحو باللغويات.
3. التحرر من المسلمات المذهبية.
4. الحرص على الوضوح في العرض و التقديم.
5. محاولة الابتكار في الترتيب و التنظيم.
ففي مجال التقصي، وجد السيوطي ميدانه المفضل، و هو جمع المعلومات من شتى الكتب. و كتابه المسمى همع الهوامع شرح جمع الجوامع، يوحي بنهجه، و يعبر عن ميوله، و ذكر أنه جمعه من مائة مصنف و أنه أحاط فيه بكتابي
التسهيل و الارتشاف (3)، و في كتاب النكت على الألفية يقول:
ص358
أربعون ألف بيت (6). و في بغية الوعاة يقول إنه رجع إلى ثلاثمائة مجلد، منها كتب الطبقات، و مطولات التاريخ، و دواوين الاداب و الأخبار (7).
و قد كان من السهل على الإمام السيوطي أن يمزج في بحوثه بين النحو و اللغة، نظرا لباعه الطويل في علوم اللغة. مما يشهد له كتابه المزهر الذي يعتبر من أهم ما ألف من نوعه. غير أن الذي نلاحظه في هذا الباب كونه لم يتابع ابن مالك في نظرية الاستشهاد بالحديث النبوي، مع العلم أنه من كبار المحدثين.
و لقد تحرر الإمام السيوطي من التعصب لمذهب نحوي خاص، لأنه سلك في ذلك سبيل أئمة مدرسة ابن مالك الذي تناولوا البحث في النحو بصفتهم مجتهدين كما سنبينه فيما بعد.
فانتماؤه لمدرسة ابن مالك لا يعني أنه يقلد أئمتها تقليدا أعمى، بل كان ينظر في آراء كل منهم فيوافقه إذا اعتقد أنه على صواب، و يخالفه إذا رأى أنه على خطأ. و هكذا نهجه مع شيخ المدرسة جمال الدين بن مالك، فقد سايره في مجمل اختياراته، ما عدا قضية الاستشهاد بالحديث. و قد خالفه في بعض الجزئيات منها أن ابن مالك قال إن النداء بالهمزة قليل، و يقول السيوطي إنه وقف على ثلاثمائة شاهد عليه(8)، و إنه أفرد لذلك كتابا مستقلا، و رجح بعض الأقوال التي خالف فيها ابن مالك غيره. من ذاك اختياره لرأي الكوفيين في أن المبتدأ و الخبر ترافعا فقال في الفريدة:
و كانت آراؤه و نقوله واضحة المعاني، و مقدمة في أسلوب ليس فيه تكلف و لا تعقيد. و بعيدة عن التقديرات الافتراضية، و الاصطلاحات الفلسفية. و لقد تبجح بذلك
ص359
حينما قال عن فريدته:
فائقة ألفية ابن مالك لأنها واضحة المسالك
الميل إلى الابتكار:
و يتبين الابتكار في التنظيم و الترتيب في محاولته تطبيق منهج الأصوليين، و سنرى ذلك في بعض مؤلفاته.
كما يتبين في محاولة تطبيق منهج الأصوليين و ميله إلى القواعد النحوية، و سنتعرض لمنهجه بشيء من التفضيل عند الحديث عن مؤلفاته.
و إذا ما أردنا أن نضع الإمام السيوطي في نظام عقده من بين النحاة، ينبغي لنا أن نتحدث عن علاقته بهؤلاء الأئمة أئمة مدرسة ابن مالك بعد أن وضحنا الروابط فيما بينهم و إسهامهم في تكوين مدرسة التصحيح و التثبيت، التي أسسها الإمام جمال الدين بن مالك، ثم نستعرض دور السيوطي في تطورها بعد ما وضح انتماؤه إليها.
و قد كانت مؤلفات هؤلاء الأئمة الثلاثة: ابن مالك، و أبي حيان و ابن هشام الأسس التي انطلق منها الإمام السيوطي في تآليفه النحوية و اللغوية. و مؤلفاته في هذه الفنون زادت على الثلاثين، ما بين متون و شروح، و حواشي و مختصرات. و من أكثرها شهرة و تداولا همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، الذي يمثل مرحلة الجمع عنده، و ألفيته التي تلخص منهجه و اختياره. و كتابه في الأشباه و النظائر عرض لثقافته النحوية، و محاولة للتقريب بين مناهج الفقهاء و مناهج النحويين. هذه الميول توطدت في كتاب الاقتراح في أصول النحو.
و سوف نخصص كلمات مقتصرة عن هؤلاء المصنفات، ثم نحاول استخلاص منهجه في معالجة النحو، و ميله إلى التجديد في التنظيم.
نوجز القول عن كتاب الهمع لما له من شهرة و انتشار، و هو موسوعة ضخمة لآراء النحاة من كل مذهب، مع إيراد الحجج و الأدلة. و قد ذكرنا قوله إنه جمع من مائة مصنف، و إنه ضمنه ما في التسهيل و الارتشاف. و لهذا الكتاب أهمية تاريخية، بحيث أنه جمع نقولا عن كتب لم تكن متداولة مثل الارتشاف الذي لم يبدأ بنشره إلا منذ فترة قصيرة و مثل مسائل الأخفش الكبرى، التي أورد فيها آراء غير معروفة عن أبي الحسن، لأنها لا تتفق مع ما هو موجود في مجاز القرآن لنفس المؤلف.
ص360
و قد أفاد مؤرخو النحو، و بالخصوص الدكتور شوقي ضيف في كتاب المدارس النحوية من نقول الهمع في إبراز خصائص مذاهب النحويين.
و من أهم ميزات هذا الكتاب أنه تم ترتيب متنه على أساس جديد، و هذا يعطينا أول خطوة خطاها السيوطي في نقل منهج الفقهاء و الأصوليين و استيحاء من كتاب ابن السبكي الذي أخذ اسمه، فإنه بوب كتاب جمع الجوامع على مثال كتاب ابن السبكي، فجعل له مقدمات في المسائل العامة و قسم قواعد النحو إلى سبعة كتب، و هي:
أولا: العمد و منصوبات النواسخ.
ثانيا: الفضلات أي المنصوبات.
ثالثا: المجرورات و أدوات التعليق و بعض حروف المعاني.
رابعا: العوامل ما عدا الحروف، و التنازع و الاشتغال.
خامسا: التوابع.
سادسا: الأبنية.
سابعا: التغيرات التي تلحق الكلمة مثل الحذف و الإبدال و الادغام. و التزم بهذا الترتيب في ألفيته.
و سوف نتعرض فيما بعد، لكتاب ابن الأمين الشنقيطى المعروف بالدرر اللوامع على همع الهوامع.
أما كتابه «الفريدة» فهو من «ألفيات» النحو المشهورة، و ليست الفريدة أول ألفية في النحو، لقد سبقتها ألفية ابن مالك و ألفية ابن معطي التي أشار إليها ابن مالك فيقول:
فائقة ألفية السيوطي لأنها محكمة الربوط
ص361
لقد نسج الإمام السيوطي على منوال الخلاصة، و قال إنه لخصها في ستمائة بيت و زاد عليها في أربعمائة بيت. و هو يعني بهذه الزيادات بعض الأبواب التي نظمها، و لم تكن في ألفية ابن مالك مثل: الموصول الحرفي و ضرائر الشعر، و الاشتقاق، و أحكام القسم و التاريخ، و النصب على التوسع، و خاتمة في الخط، مع أنه كان يذيل بعض الأبواب بخواتم تشتمل على نكت مفيدة و أغلب هذه الزيادات مأخوذة من التسهيل.
فمن هذه الزيادات يقول في خاتمة الباب الثاني، عن زيادة «إن«.
وفي خاتمة باب الإضافة نصر رأي من يثبت الجر على المجاورة والنعت والتوكيد وفي باب نون التوكيد، ذكر في خاتمته أنواع التنوين.
وفي خاتمة باب العوامل يقول:
في الرفع الاشتغال يجري أبدا كالنصب إما فاعلا أو مبتدأ
فالابتداء احتمه في زيد غدا واختر خرجت فإذا ذا قد بدا
والفاعل احتمه بإن زيد قرا واختر بنحو أمحمد سرى
واستويا في نحو زيد قعدا وعامر جاء وقس ذا بدا
وفي خاتمة التوابع، تحدث عن تابع مبنى النداء، والعطف على تابع (أل) وعلى اسم (إن).
وفي خاتمة باب الابنية ذكر أحكام همز الوصل.
والخاتمة كانت في أحكام الخط.
ويقول السيوطي عن محتواها إنها:
أتت من التسهيل بالخلاصة فما بها لقارئ خصاصه
ولقد كان في إماكنه أن يقول: أتت من التسهيل والخلاصة؛ لأن مادتها الأساسية من خلاصة ابن مالك، وزوائدها من تسهيله. فإذا كان السيوطي غير الترتيب في الأبواب، فإنه لم يغير في المادة إلا شيئا يسيرا. فمن أدلة ذلك أنه في عدة مواضع يأتي بأبيات الألفية كما هي، وفي بعضها يضمن نصف البيت أو أكثر، مع تعديل لا يمس جوهر الحكم إلا قليلا. فمن الأبيات التي لم يغيرها قول ابن مالك في المصادر:
ص362
وغير ذي ثلاثة مقيس مصدره كقدس التقديس
وزكه تزكية وأجملا إجمال من تجملا تجملا
وفي باب التمييز قوله:
وان تصل فلفظ من لا يختلفو احك بها الإعلام ان لم تنعطف
الكتاب الثالث الذي ألفه السيوطي في الأدبيات النحوية هو كتاب «الأشباه و النظائر» . و لقد تحدث السيوطي عن «الأشباه و النظائر، في ثلاثة كتب، اثنان منها يحملان هذا العنوان، و الثالث هو ما أدرجه في كتاب «المزهر» في باب "النوع الأربعين".
أحد كتابي «الأشباه و النظائر» يعالج القواعد الفقهية، و قال: إن الحامل على إبدائه، الموقع الحسن الذي تلقاه الطلاب بمصنف له سماه: شوارد الفوائد في الضوابط و القواعد. ثم أورد أن فن الأشباه و النظائر فن عظيم، و به يطلع على حقائق الفقه و مداركه، و مآخذه و أسراره، و يتمهر في فهمه و استحضاره، و يقتدر على الالحاق و التخريج. و معرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، و الحوادث و الوقائع التي لا تنقضى على ممر الزمان.
و في هذا الكتاب نبه على إمكانية تطبيق هذا المنهج على القواعد النحوية. ففي شرحه للقاعدة الفقهية المعروفة، و هي: «إن الأمور بمقاصدها» ذكر من فروعها، أحكاما ثلاثة.
ص363
منها أن المنادى المنون للضرورة يجوز تنوينه بالنصب و الضم، فإن نون بالضم جاز ضمّ نعته و نصبه، أو بالنصب تعين نصبه لأنه تابع لمنصوب لفظا و محلا، فإن نون مقصور مثل «يا فتى» بني النعت على ما نوى في المنادى.
و منها أن ما جاز إعرابه بيانا، جاز إعرابه بدلا، و قد استشكل، لأن البدل في نية سقوط الأول. و البيان بخلافه، فكيف تجتمع نية سقوطه و تركها في تركيب واحد، فأجاب رضي الدين الشاطبي بأن المراد، أنه مبني على قصد المتكلم فإن قصد سقوطه و احلال التابع محله أعرب بدلا، و ان لم يقصد فيه «أل» و إلا فلا.
و في كتاب المزهر بسط القول في الأشباه و النظائر في النوع الأربعين و قال:
هذا نوع مهم ينبغي الاعتناء به، فبه تعرف نوادر اللغة و شواردها و لا يقوم به الا مضطلع بالفن، واسع الاطلاع، كثير النظر و المراجعة. ثم ذكر كتاب ابن خالويه المسمى «ليس في كلام العرب. و قال: إنه انتقى منه قديما و لكن لم يحضره و هو يؤلف هذا الفن، ثم وعد أنه سيأتي فيه» ببدائع و غرائب إذا وقف عليه الحافظ المطلع يقول هذا منته الارب (10).
و تحت هذا العنوان «الأشباه و النظائر» أورد مباحث أبنية الأسماء و الأفعال.
و قال: إن أول من استوعبها سيبويه الذي أورد للأسماء ثلاثمائة مثال و ثمانية أمثلة، و زاد عليه أبو بكر بن السراج اثنين و عشرين مثالا. و الجرمى و ابن خالويه أمثلة يسيرة و يقول السيوطي: الذي انته إليه وسعنا، و بلغ جهدنا بعد البحث و الاجتهاد، و جمع ما تفرق في تأليف الأئمة ألف مثال، و مائتا مثال و عشرة أمثلة (11)، ثم شرع في سردها. كما أورد مجموعات من نوادر الأوزان و فرائد الأبنية اللغوية.
و الذي يلاحظ في مقدمة هذا الباب هو أن السيوطي جرى على عادته من الإشادة بسعة اطلاعه، و كثرة مراجعه، و قدرته الفائقة على الجمع و الإحصاء و الانتقاء و البراعة في الترتيب.
أما كتابه الأشباه و النظائر في النحو فقد كان ثاني خطوة له في التقريب بين مناهج الفقهاء و مناهج النحويين فيقول في ذلك: إن السبب الحامل لي على تأليف ذلك الكتاب الزول أني قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه و ألّفوه من كتب الأشباه و النظائر. و قد ذكر بدر الدين الزركشي في أول قواعده أن الفقه أنواع:
أحدها: معرفة أحكام الحوادث نصا و استنباطا و عليه صنف الأصحاب تعاليقهم المبسوطة على مختصر المزني.
ص364
الثاني: معرفة الجمع و الفرق، و من أحسن ما صنف فيه كتاب الشيخ أبي محمد الجويني.
الثالث: بناء المسائل، بعضها على بعض لاجتماعها في مأخذ واحد، و أحسن شيء فيه كتاب السلسلة للجويني.
الرابع: المطارحات و هي مسائل عويصة يقصد بها تنقيح الاذهان.
الخامس: المغالطات.
السادس: الممتحنات.
السابع: الألغاز.
الثامن: الحيل. و قد صنف فيه أبو بكر الصيرفي، و ابن سراقة، و أبو حاتم القزويني و غيرهم.
التاسع: معرفة الأفراد و هو معرفة ما لكل من الأصحاب من الأوجه الغريبة و هذا يعرف من كتب الطبقات.
العاشر: معرفة الضوابط التي تجمع جموعا، و القواعد ترد إليها أصولا و فروعا.
و هذا أنفعها، و أعمها، و أكملها و أتمها، و به يرتقي الفقيه إلى الاستعداد لمرتبة الاجتهاد و هو أصول الفقه على الحقيقة« .
و يذكر إن هذه الأقسام أكثرها اجتمعت في كتاب «الأشباه و النظائر» للقاضي تاج الدين السبكي (12)، و قد ضمن السيوطي كتابه هذا سبعة فنون، نوجزها هنا:
الفن الأول: في القواعد و الأصول التي ترد إليها الجزئيات و الفروع، و سماه بالمصاعد العلية في القواعد النحوية. و هو مرتب على حروف المعجم، و يقول إنه اعتنى فيه بالاستقصاء و التتبع و التحقيق، إلا أنه أشبع القول فيه، و أورد في ضمن كل قاعدة ما لأئمة العربية فيها من مقال و تحرير و تنكيت، و تهذيب و اعتراض و انتقاد، و جواب و إيراد، و إنه طرزها بما عدوه من المشكلات من إعراب الآيات القرآنية، و الأحاديث النبوية، و الأبيات الشعرية، و تركيب العلماء في تصانيفهم المروية، و يزيد قائلا: و حشوتها بالفوائد، و نظمت في سلكها فرائد القلائد (13).
و هذه أمثلة من القواعد التي أوردها في هذا الفن: ففي باب الهمزة تحدث عن الإتباع، و إجراء المتصل مجرى المنفصل، و عن الاشتقاق، و في باب التاء تكلم عن التوابع،
ص365
و التصغير، و التضمين، و في الثاء عن الثقل و الخفة، و في الحاء عن الحركة و عن حمل الشيء على نظيره. و في الراء عن الرابط، و في الزاء عن الزيادة، و تناول قواعد العامل في باب العين و النادر في باب النون.
و لقد اعتمد في هذا الفن، على خصائص ابن جني، و تعليقة ابن النحاس، و أصول ابن السراج، و تذكرة ابن الصائغ.
الفن الثاني: في القواعد الخاصة و الضوابط، و سماه بالتدريب. و نبه فيه على الفرق بين القاعدة التي تجمع فروعا من عدة أبواب، و بين الضابط الذي يجمع فروعا تندرج في باب واحد. و أعطى مثالا في الصرف، فقال: إن القاعدة تقول إن الأصل في الأسماء الصرف. و في نفس الباب ذكر عدة ضوابط منها أن ما لا ينصرف ضربان، ضرب لا ينصرف في نكرة و لا معرفة، و ضرب لا ينصرف في المعرفة فإذا نكر انصرف و في آخر هذا «الفن» سرد مسائل الخلاف الواردة في كتاب الإنصاف(14).
الفن الثالث: عرفه بأنه فن بناء المسائل بعضها على بعض، و سماه سلسلة الذهب في البناء من كلام العرب. و ذكر أنه استوحى هذه التسمية من كتاب الجوينى في الفقه المسمى «السلسلة» و من كتاب الزركشي في الأصول المسمى «سلاسل الذهب» ، و تحدث فيه عن الإعراب و البناء و عن أقسام العلم، و عن الوصل بجملة التعجب، و عن سبب تسمية أفعال النواسخ بنواقص. و كان مختصرا في هذا الفن إذ لم يخصص له إلا عشرين صفحة (15).
الفن الرابع: قال إنه فن الجمع و الفرق، و قسمه على قسمين أحدهما الأبواب المتشابهة المفترقة في كثير من الأحكام، و ثانيهما يتناول المسائل المتشابهة و المتفرقة في الحكم و العلة. و سمى هذا الفن «اللمع و البرق في الجمع و الفرق» و أكثره منقول عن المغني لابن هشام (16).
الفن الخامس: سماه «الطراز في الألغاز» و هو منثور غير مرتب، و قد دون فيه مجموعة من الألغاز و الأحاجي، و المطارحات و المعاياة، و من الألغاز الواردة فيه. ألغاز للزمخشري و الحريري، و ابن الصائغ، و ابن هشام، و المعري، كما ذكر أجوبة لبعض هذه الألغاز لابن الشجري و ابن مكتوم، و قد ذكر لنفسه ألغازا شعرية و نثرية. كما شرح فيه ألغاز ابن لب في أرجوزته التي أولها:
أحمد ربي حمد ذى إذعان معترفا بالقلب و اللسان
ص366
الفن السادس: و قد سماه السيوطي التبر الذائب في الأفراد و الغرائب، و هو لا يتعدى عشر صفحات. و رتبه على أبواب النحو، فذكر في باب الكلام أن أبا حيان قسمه على أربعة اسم و فعل و حرف، و القسم الرابع زاده أبو جعفر بن صابر و سماه الخالفة، و يعني اسم الفعل. و في باب الإعراب أورد قولا لابن الأنباري حاكيا عن الزجاج أن التثنية و الجمع مبنيان، و هو خلاف الاجماع. و في باب الابتداء قال، ناقلا عن ابن أبي الربيع: أن ابن الطراوة أجاز الإخبار بظرف الزمان عن الجثث، و في باب «كان» ذكر أن ابن معطي قال في الفصول بعدم جواز تقديم خبر «دام» على اسمها. و في باب «إن» قال ابن مالك في شرح التسهيل: «إن كان يعني ما بعد «إن» المخففة مضارعا حفظ و لم يقس عليه نحو (وَ إِنْ يَكٰادُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصٰارِهِمْ ) (سورة القلم-الآية 51) و قال أبو حيان هذا ليس بصحيح و لا نعلم له موافقا (18).
الفن السابع: و هو في فن المناظرات، و المجالسات، و المذاكرات، و المراجعات، و المحاورات، و الفتاوي، و الواقعات، و المكاتبات و المراسلات. و في مجموعة من هذه المواضيع استغرقت نحو نصف الكتاب. و قد قسمها على أجزاء مع تداخل المسائل بينها. فمن المناظرات التي أوردها مناظرة سيبويه و الكسائي في المسألة الزنبورية. و مناظرة ابن حاتم و التوّزي في تذكير أو تأنيث الفردوس، و مناظرة ابن الأعرابي و الأصمعي في معنى قول العجاج: فقد أراني أصل القعادا» ، و مناظرة ابن ولاد و ابن النحاس في بناء وزن افعلوت من رمى، و مناظرة ابن خروف و السهيلي في معنى قوله صلّى اللّه عليه و سلّم «كل ذي ناب من السباع حرام» ، و مناظرة المازني و ابن قادم في إعراب «نفقتك دينارا أصلح من درهم«.
و في باب المجالسات، و هي قريبة من المناظرات، استطرد منها مجالس أبي عثمان المازني مع يعقوب ابن السكيت حول وزن «نكتل» في قوله تعالى: (فَأَرْسِلْ مَعَنٰا أَخٰانٰا نَكْتَلْ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ ) (يوسف- الآية 63) . و مناظرة لأبي عثمان المازني مع أبي
ص367
الحسن الأخفش، في حكم تثنية كساء و في حمل «ما» على «ليس» و حمل ليس على «ما» و مجلس الكسائي و الأصمعي في بيان قول الراعي:
و من الغرائب التي أوردها في هذا الفن مسألة ابن العريف.
و القصيدة الحرباوية، نسبة إلى الحرباء لأن رويها يجوز فيه الفتح و الكسر و الضم. و أولها:
و مع ذلك فإن كتاب الأشباه و النظائر من أمتع كتب السيوطي و أطرفها. فهو و إن لم يأت بفكر جديد، فإنه مع ذلك أبدع كما هي عادته في التهذيب و الترتيب. و أظهر مقدرته الفائقة على لمّ أشتات العلوم، و بيان وجوه التلاقي بينها، متوخيا دوما منهجه في الاجتهاد في الاستقصاء و التحقيق. و لقد ضمنه مجموعة من النقول من كتب كثيرة. فانتقى الأصول و القواعد من مدونات النحو، و من خصائص ابن جني، و أخذ الفروق من مغني ابن هشام، و أكثر المجالس من أمالي الزجاجي و ابن الشجري و كتب أبي حيان، و تذكرة ابن مكتوم، و تعليقة ابن النحاس.
و الجدير بالملاحظة أن الإمام السيوطي في هذا الكتاب الذي وضعه على منوال بدر الدين الزركشي لم يعتمد تقسيمه العشري، و إنما حرص أن لا يزيد على التقسيم السبعي،
ص368
الذي طبقه على جل كتبه النحوية: مثل الهمع، و الاقتراح، و الفريدة. و لو أدى في بعض الأحيان إلى تكلف و اصطناع، و في كتاب الأشباه و النظائر ظهر ذلك في الفروق البينة بين أحكام الفنون السبعة، فواحد منها أكمله في نحو عشر صفحات، بينما خصص للفن السابع و الأخير عدة مئات من الصفحات.
و قد تناول الإمام السيوطي، في هذا الكتاب، حد أصول النحو و حدوده، و حد اللغة و الدلالات النحوية، و أقسام الحكم النحوي. ثم تحدث عن السماع كالاستدلال بالقرآن، و مسألة الاحتجاج بالحديث، و بكلام العرب. و تناول الإجماع و أركان القياس و أنواعه، و تحدث عن مسالك العلة و القوادح فيها.
و خصص بابا للاستصحاب، و الاستدلال، و التعارض و الترجيح. و ختم الكتاب في باب سابع-محافظة منه على النظام السبعي-بالكلام عن أول من وضع النحو، و ليس من شك أن هذا الكتاب ذو قيمة كبيرة، من الناحية المنهجية مما يثير اهتمام كل من جمع بين معرفة النحو و أصول الفقه. و ممن اهتم به ابن الطيب الشرقي الذي قدم عليه شرحا ضافيا. كان موضوع دراسة خاصة من قبل أحد الأساتذة المعاصرين. غير أن قيمة الكتاب لا تمنع من وضع سؤال أساسي، لنقول هل كان السيوطي منصفا لمن قبله، حينما قال إنه لم ينسج ناسج على منواله؟ وضع هذا السؤال يثير إضافة قالها السيوطي، و هو أنه بعد تمامه رأى أن الكمال ابن الأنباري ألحق بعلوم الأدب الثمانية علمين وضعهما، و هما علم الجدل في النحو و علم أصول النحو.
يقول السيوطي إنه تطلب الكتابين حتى وقف عليهما فإذا هما لطيفان جدا و أنه أخذ من الكتاب الأول اللباب و أدخله معزوا في كتابه، و ضم خلاصة الثاني من مباحث العلة. كما ذكر أنه استمد كثيرا من كتاب الخصائص لابن جني الذي يحمل اسم «أصول النحو» و لكنه، كما يقول السيوطي خارج عن هذا المعنى و أنه فيه الغث و السمين.
أما نقل الإمام السيوطي من كتب ابن الأنباري فإنه أيضا واضح المعالم.
فقد بيّن السيوطي منه ما عزاه لكتاب الإنصاف في مسائل الخلاف، كما عدد الفصول التي أخذها من كتابي اللمع و الاغراب.
و في مقدمة تحقيق هذين الكتابين لسعيد الأفغاني، وردت تفاصيل المسائل التي أخذها السيوطي عن ابن الأنباري، كما أعرب المحقق عن استغرابه لتماديه في دعوى الأولية التي أتت على لسانه في مقدمة كتاب الاقتراح، و ذلك بعد ما اطلع على ما كتبه ابن الأنباري و أخذ منه لبابه و أدرجه في عمله.
ص369
سؤال آخر يتجه إلى السيوطي حول كتاب الاقتراح، و هو سؤال لا يتعلق بالأسبقية في علم أصول النحو، و لكنه يمس مسألة أساسية في السماع، و هي قضية الاستشهاد بالحديث و موقف السيوطي منها. و لا بد هنا من التذكير، بأن السيوطي من أجلّ المحدثين في عصره، و أن له ما يقارب مائة مصنف في الحديث، و في علومه، و من أشهرها جامعه الكبير، الذي شمل أغلبية المأثور منه. و لا شك أن له اليد الطولى في النحو و في تاريخه و أصوله، و هذا ما يجعلنا نستغرب وقوفه في صف الذين ينكرون الاستشهاد بالحديث، و يردد ما قاله أبو حيان، و يستشهد لآرائهم باختلاف الرواية، و عجمة الرواة. و لم يذكر السيوطي المخالفين أمثال الشاطبي و نور الدين الدماميني.
و استفادة السيوطي من ابن جني لا تقتصر على كونه استمد أكثر مضامينه من كتاب الخصائص، و في مواضيع الدلالات النحوية، و تداخل اللغات، و تركيب المذاهب و بحوث اطراد العلة، و البحث في علة العلة. و في تعارض العلل، و الدور فيها. مثل الحكم عند اجتماع الضدين، و عند تعارض الأصلين، و عند تعارض القياس و الاستصحاب، أو السماع، و طرق الترجيح في هذه الحالات.
كل هذا أورده السيوطي مفصلا و معزوا لابن جني في كتابه المذكور، بيد أن الذي لم يذكره السيوطي هو أن ابن جنى في الخصائص، أوضح أن منهجه الذي اعتمد هو منهج الأصوليين فقال في معرض سبب تأليف كتاب الخصائص:
( و ذلك أنا لم نر أحدا من علماء البلدين-و هو يعني البصرة و الكوفة- تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام و الفقه، فأما كتاب أصول أبي بكر (ابن السراج) فلم يلم فيه بما نحن عليه، إلا حرفا أو حرفين في أوله و قد تعلق عليه ذلك. على أن أبا الحسن (الأحفش الأوسط) قد صنف في شيء من المقاييس كتابا إذا قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه، و كفيناه كلفة التعب به).
كما ذكر ابن جني أيضا، في باب العلل، أنه جمع ما كان متفرقا من بحوثها اقتداء بالحنفية الذين كانوا ينتزعون العلل من كتب محمد بن الحسن الشيباني لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمعون بعضها إلى بعض بالملاطفة و الرفق (20).
فالذي نلاحظه هنا أن ابن جني، شأنه في ذلك شأن السيوطي، ادعى أنه لم يسبق إلى التأليف في أصول النحو، و أن ما كتب ابن السارج خارج عن المعنى إلا القليل النزر، و أن كتيب الأخفش لا حاجة إليه بعد ما كتب هو في الخصائص.
ص370
هذا و لجلال الدين مؤلفان آخران لهما علاقة متينة بالنحو، و هم شرح شواهد المغنى، و بغية الوعاة.
فكتابه في شرح شواهد المغني يندرج في اهتمامه بكتاب المغني قائلا: إنه شرح ما فيه من الشواهد بصورة مختصرة، ثم خطر له أن يفرد لهذه الشواهد كتابا مستقلا، أراد الإحاطة أولا، ثم قرر التوسط أخيرا. و يذكر فيه القطعة إن كانت قصيرة و يحيل على محلها إن كانت من المطولات. و ذكر أنه رجع في هذه الشواهد إلى أكثر من ستين كتابا.
و مجموع الشواهد المذكورة تبلغ 879 شاهدا لم يتعرف قائلي سبعة و ثمانين منها، و هذا مما يطرح مشكلة الاستشهاد بما لا يعرف قائله. و من الغريب أنه لم يتعرض لهذه القضية في مقدمة الكتاب مثل فعل عبد القادر البغدادي في خزانة الأدب، كما أنه يكتفي غالبا عند ذكره الشاهد المجهول بقوله، إن قائله غير معروف.
و في كتاب المزهر عند كلامه عمن ترد روايته نقل رأي الكمال ابن الأنباري في أن ما لا يعرف قائله ليس بحجة، و نقل أيضا تناقض كلام ابن هشام في هذا الموضوع بأنه أنكر استدلال الكوفيين على جواز مد المقصور للضرورة، يقول الراجز:
و بالرغم من هذه الملاحظة فإن شرح شواهد المغني من أمتع كتب الشواهد في مجال الأدب، و من أحكمها منهجا لأنه يقدم ترجمة للشاعر، و ملخصا للحكم المتعلق به، مع إيراد سياق الشاهد و قصيدته إن لم تكن من الطوال، و إلا أعطى منها نبذة تتناول موضوعها العام، مع شرح الفاظ الغريب فيها.
ص371
و في كتاب البغية لم يحد الإمام السيوطي عن منهجه المعتاد في التوسع في البحث، و التقصي و الجد في الجمع و الحصر، و الاجتهاد في التصنيف و التبويب. و هو يروي لنا قصة هذا الكتاب الذي جمع مسودته في عام 868 ه، و كانت هذه المسودة عبارة عن سبعة مجلدات هي حصيلة ما ينيّف على ثلاثمائة مجلد من أخبار طبقات النحاة مستوعبة منها ما طال و قصر و خفي و اشتهر. غير أن صديقا له يدعى الحافظ نجم الدين بن فهد أشار عليه في مكة المكرمة عام 869 ه أن يجرد من هذه المجلدات مجلدا يحتوي على المهم من تراجم طبقات النحاة و اللغويين، فاتبع نصيحته و أخرج كتاب «بغية الوعاة» مشتملا على لباب تلك المسودة .
و لا يزال هذا الكتاب من أهم مراجع تراجم النحاة و اللغويين لأنه جمع جل ما ألّف من قبله في هذا الموضوع.
تعوّد السيوطي في مقدمات كتبه النحوية التنويه و الإشادة بقيمة مؤلفاته العلمية. و أن يدعي فيها التفوق على كل سابق و لاحق. ففي جمع الجوامع يقول: إنه أتى بالعجب العجاب بما لم يجمعه قبله مؤلف فحق له أن يكون على كتب الأنام سريا و بأنواع المحامد حريا. و عن كتابه في النكت على الألفية لابن مالك و الشذور لابن هشام يقول:
ص372
و عن البهجة المرضية في شرح الألفية، يقول: فدونك مؤلف كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد، برز في إبان الشباب و تميز عند الصدور أولي الألباب.
فهو شرح لطيف منه ريح التحقيق يفوح، و جامع لنكت لم يسبق إليها غيره من الشروح.
و قال إن كتاب الأشباه و النظائر تجديد لكتاب ظريف، لم أسبق إلى مثله، و ديوان منيف لم ينسج على شكله، ضمنته القواعد النحوية ذوات الأشباه و النظائر(22).
و قال عن الاقتراح إنه غريب الوضع، عجيب الصنع لطيف المعنى، طريف المبنى لم تسمح قريحة بمثاله، و لم ينسج نسيج على منواله، في علم أم أسبق إلى ترتيبه، و لم أتقدم إلى تهذيبه (23).
و شواهد المغني، قال إنه أفرده من حاشية حلّى بها كتاب المغنى سماها بالفتح القريب أودعها من الفوائد و الفرائد، و الغرائب و الزوائد ما لو رامه أحد غيره لم يكن له إلى ذلك سبيل، و لا فيه نصيب (24).
و أن بغية الوعاة: لو رآه البيهقي لخلع و شاحه بين يديه توقرا، أو ابن الأنباري لخلع عليه حلته السيرا، أو ابن بسام لأضحى عابسا لنفاد ذخيرته، أو ياقوت الحموي لقال هذه الدرة اليتيمة التي لم يقع عليه الأصبهاني حين أتى بخريدته (25).
و عن كتاب المزهر يذكر أنه أتى فيه بعجائب و غرائب حسنة الإبداع، و قد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك، و يعني في بيانها بتمهيد المسالك غير أن هذا المجموع لم يسبقني إليه سابق و لا طرق سبيله طارق (26).
إذا كان نقاد الإمام السيوطي أو خصومه لم يسلّموا له بادعاء الأسبقية في كتبه فإنهم لا مناص أن يعترفوا له بسعة الاطلاع، و المقدرة على جمع المعارف، و محاولة الابتكار في التبويب و التنظيم. و لقد ركز في بعض مؤلفاته على هذه الميزة الأخيرة. فقال في كتاب «الاقتراح» : أن جمعه و ترتيبه صنع مخترع و تأصيله و تبويبه مبتدع (27). و في كتاب «المزهر» يقول: هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه، و اخترعت تنويعه و تبويبه(28).
و يبدو أن ابتكاره في الترتيب جاء نتيجة تفكيره في أن «يسلك بالعربية سبيل الفقه» . و أن يطبق المنهج الأصولي على تنظيم القواعد النحوية و بهذا الصدد أخذ من كتاب جمع الجوامع لابن السبكي تنظيمه، و اعتمده في مؤلفاته النحوية. و اختار نفس العنوان لكتابه المشهور جمع الجوامع الذي رأينا أنه رتبه على مقدمات في مسائل عامة، تتلوها سبعة أبواب سماها بالكتب. و اتبع نفس التنظيم في فريدته، و بينه قائلا:
و ليس من شك أن الإمام السيوطي، كان ذا قدرة هائلة على الجمع، و موفقا في التهذيب، و ماهرا في التبويب و الترتيب. فهل إبداعه و اختراعه اقتصر على الجمع و حسن التصنيف، فكان مثابة حاسوب ضخم يضم عددا هائلا من قواعد المعلومات، تمت برمجته بصفة محكمة، بيد أنها مع كل هذه المزايا لا تعطي إلا ما أدخل فيها؟ .
و بعبارة أخرى، هل قصّر إبداع السيوطي عن إعماله فكره في معالجة القضايا التي تناولها بالبحث فاقتصر منهجه على المقارنة، و التأليف بين الأشباه و النظائر في كل فن؟ و مما يرشد إلى هذا المنحى أمران أحدهما عزوف الامام السيوطي عن العلوم العقلية، لأنه لما طلب مبادئ المنطق ألقى اللّه كراهيته فيقلبه ففرج اللّه عنه بفتوى ابن الصلاح بتحريمه، فعوضه اللّه عنه أشرف العلوم و هو علم الحديث. و كذلك علم الحساب فهو أعسر شيء عليه و أبعده عن ذهنه، كما قال: و إذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله (29).
ثانيهما: أنه في أكثر مصنفاته ينطلق من كتاب أو مجموعة من الكتب في الفن الذي أراد أن يكتب إما بجمعها و ترتيبها مثل جمع الجامع في الحديث و النحو، و إما أن يعتمد على مؤلف معين فيهذبه و يضيف إليه ما جد بعده من المصنفات حتى قال السخاوي (إن له مؤلفات كثيرة مع كثرة ما يقع له من التحريف و التصحيف فيها و ما ينشأ من عدم فهم المراد لكونه لم يزاحم الفضلاء في دروسهم و لا جلس بينهم في مسائهم و تعريسهم، بل استبد بالأخذ من بطون الدفاتر و الكتب، و أخذ من كتب المحمودية و غيرها من التصانيف القديمة التي لا عهد لكثير من العصريين بها في فنون شتى، فغير فيها شيئا يسيرا و قدم و أخر و نسب لنفسه و هوّل في مقدماتها) (30)
ص374
و الغالب في مصنفاته تلخيص كتب الآخرين، فقيمتها العلمية توزن بقيمة صاحب الكتاب الأصلي و التضارب الحاصل فيها يعود إلى اختلاف الكتب الملخصة. و من ذلك أنه تبع الزركشي في الخلط بين قدامة بن مظعون و عثمان أخيه في شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب، و في الإتقان أوهام استغلها أعداء الاسلام، و لم يتعب في الذيل بل اختصره من تراجم الدرر الكامنة.
و مع ذلك فإن هذه الملاحظات المنهجية، لا تغض من قيمة بحر زاخر، أغنى المكتبة الإسلامية بذخائر حية، جعلته مرجعا موثوقا، و مصدرا معتمدا في أغلب العلوم الإسلامية.
ص375
_____________________
(1) راجع نص الترجمة في مقدمات كتبه: بغية الوعاة-الأشباه و النظائر-المزهر.
(2) الأشباه و النظائر:8 / 262-280.
(3) المدارس النحوية:383.
(4) مقدمة الفريدة.
(5) الاقتراح في علم أصول النحو: 18.
(6) شرح شواهد المغني:10- 11 ط دار مكتبة الحياة.
(7) بغية الوعاة:1/ 30.
(8) المدارس النحوية: 364-365(عازيا لهمع الهوامع) .
(9) المدارس النحوية:364-365.
(10) المزهر، 2 / 3-4.
(11) المزهر، 2/ 4.
(12) الأشباه و النظائر في النحو:1 / 6-7 ط 1، مؤسسة الرسالة-بيروت.
(13) المصدر نفسه:1/ 10.
(14) الأشباه و النظائر، 3/ 5 و ما بعدها.
(15) المصدر نفسه، 3/ 323 و ما بعدها.
(16) المصدر نفسه، 4 / 5 و ما بعدها.
(17) الأشباه و النظائر، 5 / 184 و ما بعدها.
(18) المصدر نفسه.
(19) الأشباه و النظائر، 5 / 31 و ما بعدها.
(20) الزهر: 1 / 141 -142.
(21) راجع بغية الوعاة:1 /3-6.
(22) الأشباه و النظائر:1 /5 .
(23) الاقتراح:17.
(24) شرح شواهد المغني:1 /9.
(25) بغية الوعاة:2 / 428.
(26)) المزهر:1/ 1.
(27) الاقتراح:17.
(28) المزهر:1 /1.
(29) المزهر: المقدمة ناقلة عن ترجمته لنفسه في «حسن المحاضرة» ، ص 14.
(30) الضوء اللامع،4 /66 و ص 68.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|