أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-03-2015
1722
التاريخ: 2-03-2015
2899
التاريخ: 2-03-2015
5255
التاريخ: 2-03-2015
5429
|
كان الفراء يتوسع مثل أستاذه الكسائي في الرواية عن الأعراب المتحضرين، وإن كنا نلاحظ أنه إنما كان يتتبع فصحاءهم، ممن سميناهم في غير هذا الموضع، أمثال أبي ثروان وأبي الجراح. وتدل كثرة ما رواه عن العرب وقبائلهم أنه كانت له رحلة واسعة إلى الجزيرة، إذ يكثر في كتابه معاني القرآن أن يقول: "وسمعت العرب تقول" أو يقول: "أنشدني بعض بني أسد أو بعض بني كلاب أو بعض بني ربيعة أو بعض بني عامر أو بعض بني حنيفة" إلى غير ذلك من قبائل كثيرة, وأكثر أيضا من الرواية عن المفضل الضبي. أما الكسائي فله الحظ الأوفر من الأشعار التي استشهد بها في معاني القرآن. وقلما يذكر اسم الشاعر الجاهلي والإسلامي الذي ينشد من شعره؛ اكتفاء بأن ذلك كان معروفا متداولا بين
ص214
علماء اللغة والنحو في عصره. وكثيرا ما يتوارد مع سيبويه فيما ينشد من أشعار، مما يدل على أنه كان يضع كتابه نصب عينه وبصره(1).
وقد مضى مثل النحاة البصريين وأستاذه الكسائي لا يستشهد بالحديث النبوي في كتابه "معاني القرآن"، إلا ما جاء عرضا وعفوا(2) بحيث لا يصح التعميم عنده, وأن يقال: إنه كان يستشهد به، فقد كانوا يصطلحون على أن روايته بالمعنى وأنه رواه أعاجم غير ثقات في العربية. أما القراءات فهي محور الكتاب، وقد أدار عليها توجيهاته لها من أساليب العرب، متحدثا عن لغاتهم التي تجري مع القياس, والتي تشذ عنه في رأيه، مما جعله يرد بعضها أحيانا، كما رد بعض القراءات.
وليس معنى ذلك أنه لم يكن يتوسع في السماع من العرب، بل لقد كان يتوسع فيه إلى أقصى حد أمكنه، ملتمسا منه القياس، وخاصة إذا اتفق ذلك مع بعض آي الذكر الحكيم وبعض قراءاته. وقد يمد القياس إلى أحكام لم ترد في القرآن ولا على ألسنة العرب, ونضرب بعض الأمثلة لما بسط فيه القياس, معتمدا على القرآن وقراءاته وأشعار الشعراء. فمن ذلك أنه جوز إذا اجتمع شرط وقسم وتقدم القسم أن يكون الجواب للشرط، والبصريون يوجبون أن يكون الجواب للأول، ويتضح الخلاف في مثل: "لئن قمت أقوم معك", فالبصريون يحتِّمون أن تكون أقوم جوابا للقسم لوجود اللام الموطئة المؤذنة به وبذلك تكون مرفوعة، ويجوز الفراء أن تكون جوابا للشرط، فيقال: "لئن قمت أقم معك" بجزم المضارع في الجواب، واحتج لذلك بقول الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا من دماء القوم ننتفل (3)
والبصريون يؤولون مثل ذلك بأن اللام زائدة (4). وقد وقف بإزاء الآية الكريمة:
ص215
{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} وقال: إن الواو معناها السقوط, أي: زائدة في جواب إذا متابعا في ذلك الأخفش, ومثَّل لسقوطها في الجواب بآية الصافات: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ} فإن ناديناه هي الجواب في رأيه، وكذلك بقوله تعالى في سورة الزمر: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} مستدلا بآية مماثلة في نفس السورة, إذ حذفت فيها من نفس العبارة الواو، وتمثل بقول بعض الشعراء:
حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا (5)
وقلبتم ظهر المجن لنا ... إن اللئيم العاجز الخب (6)
فإن "قلبتم" وهي الجواب زادت في أولها الواو. والبصريون يؤولون مثل ذلك بأن الجواب محذوف، والواو عاطفة الجملة المذكورة معها عليه(7) وجوز في الآية الكريمة: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أن يكون كل من الحرفين: اللام ومن وُضع في مكان صاحبه، على طريقة القلب المكاني، وقال: إن ذلك طريقة معروفة للعرب في تعبيرهم، واستشهد له بقول بعض الشعراء:
إن سراجا لكريم مفخره ... تحلى به العين إذا ما تجهره
قائلا: "العين لا تحلى, إنما يحلى بها سراج؛ لأنك تقول: حليتَ بعيني، ولا تقول: حليت عيني بك إلا في الشعر" (8). ووقف بإزاء قراءة الآية: "فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لَا تَخَفْ دركا ولا تخشى" ملاحظا أن الفعل الأخير في هذه القراءة: "ولا تخشى" معطوف على فعل مجزوم وأثبتت فيه الألف، ووجه ذلك بأنه قد يكون مستأنفا وقد يكون في موضع جزم وإن كانت فيه الياء, واحتج بأن العرب قد تصنع ذلك، موردا قول بعض بني عبس:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد(9)
ص216
فأثبتت الياء في "يأتيك" وهي في موضع جزم، وأورد في ذلك أيضا قول بعض الشعراء:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من سب زبان لم تهجو ولم تدع
إذ أثبت الواو في "تهجو" مع وجود لم الجازمة(10). وكان البصريون لا يجيزون أن تقع اللام المؤكدة في خبر لكن على نحو ما تقع في خبر إن، وجوز ذلك الفراء محتجا بقول بعض الشعراء:
ولكنني من حبها لكميد
واحتج البصريون بأن ذلك شاذ لا يعول عليه(11).
واشترط البصريون لمجيء كان زائدة أن تكون بلفظ الماضي, وأن تتوسط بين مسند ومسند إليه مثل: "ما كان أجملَ هذا المنظر"، وجوز الفراء زيادتها بلفظ المضارع لقول بعض الشعراء:
أنت تكون ماجد نبيل
وجوز أيضا زيادتها في آخر الكلام قياسا على إلغاء ظن آخره، فتقول: "زيد مسافر كان" كما تقول: "زيد مسافر ظننت" ومنع ذلك البصريون لعدم وروده في السماع(12) ومر بنا في الفصل الخاص بالكسائي وتلاميذه أنه كان يُعْمل إن النافية عمل ليس لسماع ذلك عن بعض العرب, ولقراءة سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم" بتخفيف النون في إن ونصب عبادا ومنع ذلك الفراء محتجا بأنها من الحروف التي لا تختص، فالقياس فيها أن لا تعمل، وكأنه بذلك قدم القياس على السماع (13).
وعلى نحو ما نرى في المثالين الآنفين كان تارة يبسط ظل القياس وتارة يقبضه, غير ملتفت إلى السماع. ومما بسطه فيه دون شاهد يسنده إضافة اسم الفاعل المحلى بالألف واللام إلى العلم قياسا على جواز إضافته إلى المعرف بالألف واللام، فتقول: الضارب زيدٍ كما تقول: الضارب الرجل(14). ومما قبضه فيه مع عدم أخذه بالسماع مجيء مرفوعين بعد كان، وجوز ذلك الجمهور على أن في كان ضمير
ص217
شأن محذوفا هو اسمها والجملة خبرها لمجيء ذلك كثيرا على لسان الشعراء, كقول بعضهم:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع (15)
وقد يقف لينص على أن العرب قد يغلطون، يقول تعليقا على قراءة الحسن البصري آية يونس: "وَلَا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ" في مكان القراءة المشهورة: {وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} بعد أن صحح قراءته: "وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز، فيهمزون غير المهموز، سمعتُ امرأة من طيئ تقول: رثأت "أي: رثيت" زوجي بأبيات، ويقولون: لبَّأت "أي: لبيت" بالحج, وحلأت "أي: حليت" السويق، فيغلطون؛ لأن حلأت قد يقال في دفع العطاش من الإبل، ولبأت: ذهب إلى اللبأ "اللبن عقب الولادة" الذي يؤكل، ورثأت زوجي: ذهبت إلى رَثِيئة اللبن, وذلك إذا حلبت الحليب على الرائب" (16).
ولعلنا بكل ما قدمنا نكون قد عرفنا موقف الفراء من كلام بعض العرب، فهو قد يخطئهم. وقد يرد بعض ما سمعه منهم مؤمنا بأنه شاذ لا يقاس عليه ولا يصح طرده في العربية. وإذن فما يتردد في بعض الكتابات من أن البصرة كان تخطئ العرب بينما كانت الكوفة تقبل كل ما يروى عنهم، حتى لربما بنت على الشاهد الواحد قاعدة غير صحيحة. وهي حقا قد تتوسع في القياس على نحو ما رأينا عند الفراء أحيانا من بنائه قاعدة دخول اللام على خبر كأن لشاهد واحد سمعه. ولكن ليس معنى ذلك أنها كانت تصنع ذلك بكل شاهد، بل لقد كانت تتكاثر الشواهد أحيانا، وترفض القاعدة والقياس على نحو ما رفض الفراء إمامها الحقيقي إعمال إن النافية. وأدخل من ذلك في الغلط على الكوفة ونحاتها ما تحدثنا عنه في الفصل الخاص بنشأة نحوها مما يقال عنها من أنها تعتد بالقراءات، بينما كانت البصرة كثيرا ما تعدل عن هذا الاعتداد، وقد أوضحنا هناك خطأ هذا القول وأن سيبويه والخليل جميعا لم يردّا قراءة من القراءات وأن الأخفش احتج في غير موضع لبعض القراءات التي يظن أنها خارجة على
ص218
قياس النحو البصري، وصورنا ذلك من بعض الوجوه في حديثنا عنه، وأشرنا إلى أن الكسائي كان يرد بعض القراءات ولا يجوِّزها, وأن البصريين الذين خطئوا بعض القراءات إنما اقتدوا في ذلك بالفراء. ومن يرجع إلى كتابه "معاني القرآن" يجد الآيات التي خطئوا القراء فيها قد سبقهم إلى تخطئة جمهورها الأكبر، فهو الذي فتح لهم هذا الباب على مصاريعه. ونحن نسوق بعض ما قرأناه له من ذلك في الجزأين المطبوعين من الكتاب، ولا بد أن وراءه فيما لم ينشر منه مادة أخرى من هذه التخطئة.
وأول ما يلقانا به أنه سقطت في بعض المصاحف ألف الوصل والقطع من كلمة {الْأَيْكَةِ} فكتبوها هكذا: "لَيْكَة" يقول: والقراء يقرءونها على التمام أي: {الْأَيْكَةِ}(17). وكأنه بذلك ينكر قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر: "لَيْكَة" بفتح اللام وسكون الياء, وفتح التاء في آية الشعراء: "كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ الْمُرْسَلِينَ"(18) وهم من أصحاب القراءات السبع المتواترة. ولا يلبث أن يقف عند قراءة حمزة بن حبيب الزيات، أستاذ الكسائي وأحد أصحاب هذه القراءات، للآية الكريمة: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فقد قرأها "يُخَافَا" بالبناء للمجهول، وأثبت ذلك الفراء قائلا: "ولا يعجبني ذلك" واستشكل عليه بأنه يترتب على قراءته أن يكون الخوف قد وقع على ضمير الاثنين وعلى {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وكأن الفعل ليس له نائب فاعل واحد بل له نائبان، والنحويون يوجهون ذلك بأن عبارة {أَلاَّ يُقِيمَا} بدل اشتمال من ألف الاثنين(19) ووقف بإزاء قراءة عاصم -وهو من أصحاب القراءات السبع المتواترة- لكلمة "يُؤَدِّهْ" بسكون الهاء في قوله تعالى: {إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} وقال: إذا كان قد ظن هو ومن شاكله من القراء أن الجزم في الهاء، وإنما هو فيما قبل الهاء، فهذا وإن كان توهما، خطأ. وكان حريا به أن لا يذكر هذا التوهم والخطأ؛ لأنه عاد فقال موجها للقراءة بأن من العرب من يجزم الهاء، أو بعبارة
ص219
أخرى: يسكنها، إذا تحرك ما قبلها فيقول: ضربته ضربا شديدا، وكان ينبغي أن يحمل القراءة على هذه اللغة مباشرة دون تشكيك فيمن قرءوا بها, وأنهم ربما توهموا خطأ أن الجزم على الهاء لا على ما قبلها(20). وقرأ القراء: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} برفع {ثَمُودُ} ونصبها، ووجه سيبويه النصب على أن أما أشبهت الفعل فثمود منصوبة بها، أما الرفع فعلى أنها مبتدأ. ورد الفراء قراءة النصب قائلا: "وجه الكلام في ثمود الرفع؛ لأن أما تحسن في الاسم ولا تكون في الفعل"(21). وكان حسبه أن يقول: قراءة الرفع أفصح. ووقف بإزاء الآية الكريمة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} وقال: نصب الأرحام يريد: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ثم ذكر قراءة إبراهيم النخعي لها -وكان يتابعه في ذلك حمزة- بالجر عطفا على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، وقال: "في ذلك قبح؛ لأن العرب لا ترد "لا تعطف" مخفوضا على مخفوض, وقد كنيى عنه "أي: أضمر كالهاء في به" ... وإنما يجوز هذا في الشعر لضيقه"(22). وقد حمل صاحب الإنصاف البصريين مسئولية تضعيف هذه القراءة(23)، مع أن الفراء -كما رأينا- هو أول من ضعفها، وتبعه في ذلك المبرد(24) فحمل ذلك النحاة على البصريين عامة، ومر بنا في ترجمة الأخفش أنه كان يصحح هذه القراءة مستمدا منها الحكم بجواز العطف على الضمير المخفوض بدون إعادة الخافض. وعرض الفراء لقراءة "وعَبُدَ الطاغوت" بضم الباء، وقال: إن تكن فيه لغة مثل حَذِر بكسر الذال وحَذُر بضمها فهو وجه، وإلا فإنه أراد قول الشاعر:
أبني لبينى إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
وهذا "أي: تحريك الحرف المتوسط بالضم" في الشعر يجوز لضرورة القوافي، فأما في القراءة فلا(25). وأنكر قراءة ابن عامر مقرئ أهل الشام للآية الكريمة: "وكذلك زُيِّنَ لكثير من المشركين قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ" بالفصل بين قتل
ص220
وشركائهم بكلمة أولادهم, أو بعبارة أخرى: بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به. والنحاة لا يجوزون هذا الفصل بينهما إلا بالظرف والجار والمجرور، ومن هنا استشكل الفراء على القراءة، وحاول أن يجد لجر شركائهم وجها، فقال: "وفي بعض مصاحف أهل الشام: شركائهم بالياء, فإن تكن مثبتة عن "القراء" الأولين فينبغي أن يقرأ "زُيِّن" وتكون الشركاء هم الأولاد لأنهم منهم في النسب والميراث" يريد بذلك أن تقرأ كلمة "أولادهم" بالجر مضافة إلى قتل, وبذلك تكون كلمة "شركائهم" بدلا منها أو صفة. وكان الأخفش كما قدمنا في ترجمته يصحح هذه القراءة ويحتج لها بقول بعضهم فاصلا بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول:
فزججتها بمزجة ... زجَّ القلوصَ أبي مزاده
فقال رادا عليه في عنف: "وليس قول من قال: إنما أرادوا مثل قول الشاعر "وأنشد البيت" بشيء وهذا مما كان يقوله نحويو أهل الحجاز ولم نجد مثله في العربية"(26). وقال في موضع آخر: الصواب في البيت:
فزججتها متمكنا ... زج القلوصِ أبو مزاده(27)
ووهم صاحب الإنصاف، فحمّل البصريين مسئولية رفض هذه القراءة(28) ولا نعلم بصريا معاصرا للفراء ولا سابقا له رفضها، بل لقد صححها الأخفش البصري معاصره كما قدمنا، واحتج لها من الشعر. ومر بنا في ترجمة المازني أنه كان يرى أن تجمع معيشة على معايش بالياء؛ لأن حرف اللين فيها عين الكلمة وليس حرفا زائدا مثل ياء صحيفة التي تجمع على صحائف، وأنه لذلك أنكر قراءة نافع: "معائش" بالهمزة في قوله تعالى: "ولقد مكناكُمْ فِي الأرْضِ وَجعلنَا لَكم فِيهَا مَعَائِشَ قَلِيلا مَا تشكرون". وهو في هذا الإنكار إنما كان يتابع الفراء فقد ذكر الآية ثم قال بعقبها: "معايش لا تهمز؛ لأنها -يعني الواحدة- مَفْعِلة، فالياء من الفعل، فلذلك لم تهمز، إنما يهمز من
ص221
هذا ما كانت الياء فيه زائدة مثل: مدينة ومدائن وقبيلة وقبائل". وهو بذلك يعد أول من أنكر قراءة نافع لمعايش مهموزة، وإن قال العرب: ربما همزت هذا وشبهه يتوهمون أنه على وزن فعيلة لشبهها بها في وزن اللفظ وعدة الحروف على نحو ما صنعوا في جمعهم لمصيبة على مصائب(29). ووقف بإزاء الآية الكريمة: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كفروا سبقوا إِنهم لا يعجزون" وقال: إن القراء قرءوها "تحسبن" بالتاء وقرأها حمزة: {يَحْسَبَنَّ} بالياء ولم يلبث أن ضعف قراءته قائلا: "ما أُحبها لشذوذها" (30). وعلق على الآية الكريمة: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} بقوله: "وقد قرأها الحسن البصري: "وَشُرَكَاؤُكُمْ" بالرفع، وإنما الشركاء ههنا آلهتهم, كأنه أراد: أجمعوا أنتم وشركاؤكم، ولست أشتهيه لخلافه للكتاب "يريد: كتابة المصحف" ولأن المعنى فيه ضعيف؛ لأن الآلهة لا تعمل ولا تجمع" (31)
وتلا قوله جل وعز: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ثم قال قوله: {يَعْقُوبَ} يرفع وينصب أي: يجوز فيه الوجهان، ولم يلبث أن قال: إن حمزة كان يقرأ الكلمة بالخفض, يريد: ومن وراء إسحاق بيعقوب ولا يجوز الخفض إلا بإظهار الباء، وبذلك رد قراءته للكلمة مجرورة على نية إعادة الباء(32). ووقف بإزاء الآية الكريمة: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وذكر قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب ومن تبعهما مثل حمزة: "بِمُصْرِخِيِّ" بخفض الياء، وقال: "لعلها من وهم القراء طبقة يحيى, فإنه قل من سلم منهم من الوهم. ولعله ظن أن الباء في كلمة "بِمُصْرِخِيِّ" خافضة للحرف كله والياء من المتكلم خارجة من ذلك"(33). وتلا آية سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} وقال: "جاء عن الحسن: "الشياطونَ" وكأنه من غلط الشيخ ظن أنه بمنزلة المسلمين والمسلمون"(34)، أي: إنه جمع تكسير لا جمع مذكر سالم؛ ولذلك لا يجوز فيه: "الشياطون" بالواو.
وهذه الحروف التي ردها الفراء إنما هي فيما نُشر من كتابه معاني القرآن،
ص222
وقد بقي منه نحو جزء لم ينشر، وأغلب الظن أنه ضمنه حروفا أخرى ردها على القراء منكرا لها, أو مقبحا, أو مضعفا. ولا نعلم بصريا جاء بعده ورد مثل هذا القدر من القراءات، بل لقد كان المازني والمبرد وأضرابهما ممن توقفوا بإزاء بعض القراءات متابعين له, مقتدين به. وبذلك يسقط جل ما نسبه صاحب الإنصاف إلى البصريين دون الكوفيين من إنكار بعض القراءات. وينبغي أن نعرف أن الفراء ومن تابعه من البصريين لم يكونوا يقصدون إلى الطعن على القراء من حيث هو، إنما كانوا يتثبتون ويتوقفون في مواضع التوقف حين يُعييهم أن يجدوا للقراءة الشاذة على عامة القراء ما يسندها من كلام العرب. وقد تمسكوا تمسكا شديدا بصورة كتابة المصحف، ولم يدلوا برأي يخالفها بوجه من الوجوه. ونرى الفراء نفسه يتوقف بإزاء الآية: "فما أتانِ الله" ويقول: إنه لم يثبت الياء في "أتاني" لأنها محذوفة من الكتاب. ويذكر أن بعض القراء كان يستجيز زيادة الياء والواو المحذوفتين في مثل الآية السابقة ومثل: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} فيثبت الياء في "أتاني" والواو في "يدعو" وليست في المصحف، ويقول: إنه لا يأخذ بذلك، بل يتقيد بالمصحف وكتابته المأثورة ما دام لذلك وجه من كلام العرب، وما دام هو الذي قرأ به القراء، ولا يلبث أن يقول: "كان أبو عمرو يقرأ: "إن هذين لساحران" أي: بدلا من القراءة العامة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ولست أجترئ على ذلك وقرأ: "فأصَّدق وأكونَ" "أي: بدلا من القراءة العامة: {وَأَكُنْ} " فزاد واوا في الكتاب ولست أستحب ذلك"(35). ولعل في هذا ما يشهد شهادة قاطعة بأنه وأمثاله ممن كانوا يردون بعض القراءات التي لا تعدو حروفا معدودة لم يكن دافعهم إلى ذلك الطعن والتنقص، إنما كان دافعهم الرغبة الشديدة في التحري والتثبت.
ص223
______________________
(1) انظر على سبيل المثال: الجزء الأول من معاني القرآن ص34، 67، 91، 121، 127، 128، 139، 140 ، 162، 177، 186، 187, وقارن بكتاب سيبويه على الترتيب 1/ 424، 427، 2/ 30 4، 1/ 352، 240 ، 239، 36، 44، 152، 53، 22، 25.
(2) معاني القرآن 1/ 266، 469.
(3) منيت: بليت. عن غب: بعد عاقبة. ننتفل: ننتصل.
(4) معاني القرآن 1/ 68، والمغني ص261.
(5) قملت: كثرت. بطونكم: عشائركم.
(6) المجن: الترس، وقلب ظهر المجن: كناية عن المعاداة. والخب: الغادر.
(7) معاني القرآن 1/ 238، والمغني ص400 .
(8) معاني القرآن 1/ 131.
(9) اللبون: الناقة غزيرة اللبن.
(10) معاني القرآن 1/ 161.
(11) معاني القرآن 1/ 465، والإنصاف المسألة رقم 25.
(12) الهمع 1/ 120 .
(13) الهمع 1/ 124.
(14) الرضي على الكافية 1/ 259.
(15) الهمع 1/ 111.
(16) معاني القرآن 1/ 459.
(17) معاني القرآن 1/ 88، 2/ 91.
(18) انظر تفسير أبي حيان المسمى باسم البحر المحيط 7/ 37.
(19) معاني القرآن 1/ 145، وانظر البحر المحيط 2/ 197.
(20) انظر معاني القرآن 1/ 223، وراجح 2/ 75.
(21) معاني القرآن 1/ 241.
(22) معاني القرآن 1/ 252.
(23) الإنصاف: المسألة رقم 65.
(24) ابن يعيش 3/ 78.
(25) معاني القرآن 1/ 314.
(26) معاني القرآن 1/ 357.
(27) معاني القرآن 2/ 81.
(28) الإنصاف: المسألة رقم 60 .
(29) معاني القرآن 1/ 373.
(30) معاني القرآن 1/ 414.
(31) معاني القرآن 1/ 473.
(32) معاني القرآن 2/ 22.
(33) معاني القرآن 2/ 75، وقد عاد في نفس الموضع يثبت أن بعض العرب قد يخفض ياء المتكلم في الجار والمجرور في مثل كلمة "فيِّ".
(34) معاني القرآن 2/ 285.
(35) معاني القرآن 2/ 193.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|