أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-5-2019
3990
التاريخ: 13-6-2019
3639
التاريخ: 20-6-2019
6040
التاريخ: 23-5-2019
3570
|
قال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف : 35 - 39] .
قال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف : 35 - 36] .
لما تقدم ذكر النعم الدنيوية ، عقبه بذكر النعم الدينية {يا بني آدم} هو خطاب يعم جميع المكلفين من بني آدم ، من جاءه الرسول منهم ، ومن جاز أن يأتيه الرسول معطوف على ما تقدم {إما يأتينكم} أي : إن يأتكم {رسل منكم} أي : من جنسكم {يقصون عليكم آياتي} أي : يعرضونها عليكم ، ويخبرونكم بها (فمن اتقى) إنكار الرسل والآيات ، {وأصلح} عمله . وقيل : فمن اتقى المعاصي واجتنبها . والتقوى : اسم جامع لذلك ، وتقديره فمن اتقى منكم وأصلح {فلا خوف عليهم} في الدنيا {ولا هم يحزنون} في الآخرة {والذين كذبوا بآياتنا} أي :
حججنا {واستكبروا عنها} أي : عن قبولها {أولئك أصحاب النار} الملازمون لها {هم فيها خالدون} باقون فيها على وجه الدوام والتأبيد .
-{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف : 37] .
ثم ذكر سبحانه وعيد المكذبين ، فقال : {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} أي : لا أحد أظلم منه ، صورته صورة الاستفهام ، والمراد به الإخبار ، وإنما جاء بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ {أو كذب بآياته} الدالة على توحيده ، ونبوة رسله {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي : من العذاب ، إلا أنه كنى عن العذاب بالكتاب ، لأن الكتاب ورد به كقوله {لقد حقت كلمة العذاب على الكافرين} ، عن الحسن ، وأبي صالح . وقيل : معناه ينالهم نصيبهم من العمر والرزق ، وما كتب لهم من الخير والشر ، فلا يقطع عنهم رزقهم بكفرهم ، عن الربيع ، وابن زيد . وقيل : ينالهم جميع ما كتب لهم ، وعليهم ، عن مجاهد ، وعطية .
{حتى إذا جاءتهم رسلنا} يعني الملائكة أي : حتى إذا استوفوا أرزاقهم ، وجاءهم ملك الموت مع أعوانه ، {يتوفونهم} أي : يقبضون أرواحهم . وقيل : معناه حتى إذا جاءتهم الملائكة لحشرهم ، يتوفونهم إلى النار يوم القيامة ، عن الحسن {قالوا} : يعني الملائكة {أين ما كنتم تدعون من دون الله} من الأوثان والأصنام ، والمراد بهذا السؤال توبيخهم ، أي : هلا دفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب {قالوا} يعني قال الكفار {ضلوا عنا} أي : ذهبوا عنا وافتقدناهم ، فلا يقدرون على الدفع عنا ، وبطلت عبادتنا إياهم {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} أي أقروا على نفوسهم بالكفر .
-{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف : 38 - 39] .
{قال ادخلوا} هذه حكاية قول الله تعالى للكفار ، يوم القيامة ، وأمره لهم بالدخول ، ويجوز أن يكون إخبارا عن جعله إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول : كما قال : {كونوا قردة خاسئين} والمراد أنه جعلهم كذلك {في أمم قد خلت} أي : في جملة أقوام ، وجماعات ، قد مضت {من قبلكم من الجن والإنس} على الكفر {في النار} وقيل : إن {في} بمعنى مع أي : ادخلوا مع أمم كافرة {كلما دخلت أمة} من هذه الأمم النار .
{لعنت أختها} يعني التي سبقتها إلى النار ، وهي أختها في الدين ، لا في النسب ، يريد أنهم يلعنون من كان قبلهم ، عن ابن عباس . وقيل : يلعن الأتباع القادة والرؤساء ، إذا حصلوا في العذاب ، بعدما كانوا يتوادون في الدنيا ، يقولون :
أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله ، عن أبي مسلم {حتى إذا اداركوا} أي تلاحقوا واجتمعوا {فيها} أي : في النار {جميعا} أي : كان هذا حالهم حتى اجتمعوا فيها ، فلما اجتمعوا فيها {قالت أخراهم لأولاهم} أي : قالت أخراهم دخولا النار وهم الأتباع ، لأولاهم دخولا ، وهم القادة والرؤساء {ربنا هؤلاء أضلونا} أي : شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها ، عن ابن عباس . وقيل : معناه دعونا إلى الضلال ، وحملونا عليه ، ومنعونا عن اتباع الحق ، قال الصادق عليه السلام : {يعني أئمة الجور} .
{فآتهم عذابا ضعفا من النار} أي : فأعطهم عذابا مضاعفا . قال ابن مسعود :
أراد بالضعف هنا الحيات والأفاعي . وقيل : أراد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر ، وبالآخر عذابهم على الإغواء {قال} الله تعالى : {لكل ضعف} أي : للتابع والمتبوع عذاب مضاعف ، لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا {ولكن لا تعلمون} أيها المضلون والمضلون ، ما لكل فريق منكم من العذاب {وقالت أولاهم لأخراهم} أي : قال المتبوعون للتابعين {فما كان لكم علينا من فضل} أي : تفاوت في الكفر ، حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا ، وينقص من عذابكم . وقيل : معناه قالت الأمة السابقة للأمة المتأخرة : ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل ، وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب ، فلم اتبعتمونا . وقيل : من فضل أي : من تخفيف من العذاب {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} من الكفر باختياركم ، لا باختيارنا لكم .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 249- 252 .
{يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} . خلق اللَّه سبحانه آدم وذريته ، وسنّ لهم منهجا يسيرون عليه ، وأرسل إليهم من يبلغهم إياه ، وجعل الرسل المبلغين من أبناء جنس المرسلين إليهم ، لأن ذلك ادعى في التأثير ، وأبلغ في الحجة ، فمن سمع وأطاع فهو في أمن وأمان من غضب اللَّه وعذابه {والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} . كان أستاذنا رضي اللَّه عنه وأرضاه يقرأ لتلاميذه مقطعا مقطعا من الكتاب المقرر للتدريس ، ويشرحه لهم بكلام يفهمه كل الناس ، فإذا كان المقطع واضحا ومفهوما للجميع علق عليه بكلمة : توضيح الواضحات من أشكل المشكلات . ومشى إلى غيره .
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} تقدم في سورة الأنعام الآية 21 . {أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ} أولئك إشارة إلى من تقدم ذكرهم ، وهم الذين اختلقوا في ما لا وجود له ، وكذبوا بما هو موجود ، والمراد بالكتاب النصيب المكتوب من الآجال والأرزاق ، والمعنى ان اللَّه يدع الكاذبين والمكذبين يستوفون ما كتب لهم في هذه الحياة من العمر والرزق {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا} وهم ملائكة الموت {يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ؟ {قالُوا ضَلُّوا عَنَّا} لا نحن نعرف أين هم ؟ . ولا هم يأتون لخلاصنا من العذاب {وشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} والاعتراف بالذنب يجدي حيث يمكن اخفاؤه والفرار من الجزاء عليه ، أما بعد ظهوره كالشمس ، وحين تنفيذ العقوبة فلا يجدي الاعتراف والندم شيئا .
بعد ان يشهد الكافرون على أنفسهم تنتهي المحاكمة ، ويصدر الحكم عليهم بعذاب الحريق .
{قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ والإِنْسِ فِي النَّارِ} . المراد بالأمم أهل الملل الكافرة ، أي ان اللَّه يقول لمن كفر بنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) : ادخلوا النار جزاء على كفركم ، كما دخلها من كذّب بالأنبياء من قبلكم .
{كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها} يتلاعنون ، وقد كانوا اخوة في الدين ، وتجمعهم الأنساب والاصهار . . وهكذا أهل الأهواء والضلال يتحابون ويتعاطفون حين الدعة وأيام الأمل ، ويتباغضون ويتلاعنون حين لا يدرك أمل ، ويرجى نوال .
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً} أي تلاحقوا ، وأدرك بعضهم بعضا ، وعندها يبدأ الخصام والجدال {قالَتْ أُخْراهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} . قال بعض المفسرين : المراد بأولاهم الأولى دخولا في النار ، وبأخراهم المتأخرة دخولا فيها . وقال آخرون : بل المراد بأولاهم القادة المتبوعون ، وبأخراهم الأتباع . وهذا القول أقرب وأنسب لقول أخراهم : هؤلاء أضلونا مشيرين لأولاهم ، لأن المضل متبوع والمضلَّل تابع . .
طلب التابعون من اللَّه سبحانه أن يضاعف العذاب للمتبوعين ، لأنهم السبب في ضلالهم {قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أي ان لكم ولهم عذابا مضاعفا ولكن لا يعلم كل فريق ما للآخر من مقدار العذاب وشدته .
{وقالَتْ أُولاهُمْ لأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} طلب التابعون أن يزيد في عذاب المتبوعين ، فقال هؤلاء لأولئك : ولما ذا هذا الطلب ؟ وكلنا في الجزاء سواء ، ولا تفاوت في شيء ، حتى يزيد اللَّه في عذابنا دون عذابكم ، ثم توجه المتبوعون إلى التابعين ، وقالوا لهم جوابا عن طلب المزيد في عذابهم : {فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} مختارين من الآثام ، وما كان لنا عليكم من سلطان .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 325-326 .
قوله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف : 35] إلى آخر الآيتين .
﴿إما﴾ أصله إن الشرطية دخلت على ما ، وفي شرطها النون الثقيلة ، وكأن ذلك يفيد أن الشرط محقق لا محالة ، والمراد بقص الآيات بيانها وتفصيلها لما فيه من معنى القطع والإبانة عن مكمن الخفاء .
والآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هاهنا وهي رابعها وآخرها يبين للناس التشريع الإلهي العام للدين باتباع الرسالة وطريق الوحي ، والأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه : {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [طه : 123] إلخ ، فبين أن إتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة .
قوله تعالى : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف : 37] تفريع على ما تتضمنه الآية السابقة من إعلام الشريعة العامة المبلغة بواسطة الرسل أي إذا كان الأمر على ذلك وقد أبلغ الله دينه العام جميع أولاد آدم وأخبر بما أعده من الجزاء للأخذ به وتركه فمن أظلم ممن استنكف عن ذلك إما بافتراء الكذب على الله ، ونسبة دين إليه ، ووضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد ، وقد أخبر الله أنهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغهم دينه ، وإما بالتكذيب لآياته الدالة على وحدانيته وما يتبعه من الشرائع .
ومن هنا يظهر أن افتراء الكذب على الله وإن كان يعم كل بدعة في الدين أصوله وفروعه غير أن المورد هو الشرك بالله باتخاذ آلهة دون الله ، ويدل عليه ما سيأتي من قوله : {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف : 37] .
قوله تعالى : {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} [الأعراف : 37] إلى آخر الآية .
المراد بالكتاب ما قضي وكتب أن يصيب الإنسان من مقدرات الحياة من عمر ومعيشة وغنى وصحة ومال وولد وغير ذلك ، والدليل عليه تقييده بقوله : {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا} [الأعراف : 37] إلخ ، والمراد به أجل الموت ، ومن المعلوم أنه غاية للحياة الدنيا بجميع شئونها ومقارناتها .
والمراد بالنصيب من الكتاب السهم الذي يختص كل واحد منهم من مطلق ما كتب له ولغيره ، وفي جعل النصيب من الكتاب هو الذي ينالهم ، والأمر منعكس بحسب الظاهر دلالة على أن النصيب الذي فرض للإنسان وقضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتة وما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتة .
والمعنى : أولئك الذين كذبوا على الله بالشرك أو كذبوا بآياته بالرد لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب ، ونصيبهم ما قضي في حقهم من الخير والشر في الحياة الدنيا حتى إذا قضوا أجلهم وجاءتهم رسلنا من الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه نزلوا عليهم وهم يتوفونهم ويأخذون أرواحهم ونفوسهم من أبدانهم سألوهم وقالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله من الشركاء الذين كنتم تدعون أنهم شركاء الله فيكم وشفعاؤكم عنده؟ قالوا ضلوا عنا وإنما ضلت أوصافهم ونعوتهم ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بمعاينة حقيقة الأمر أن غير الله سبحانه لا ينفع ولا يضر شيئا ، وقد أخطئوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم .
وفي مضمون الآية جهات من البحث تقدمت في نظيرة الآية من سورة الأنعام وغيرها .
قوله تعالى : {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف : 38] الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة وإن كانوا في وسائط في التوفي وغيره ، والمخاطبون بحسب سياق اللفظ هم بعض الكفار وهم الذين توفيت قبلهم أمم من الجن والإنس إلا أن الخطاب في معنى : ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم ولاحقوكم وإنما نظم الكلام هذا النظم ليتخلص به إلى ذكر التخاصم الذي يقع بين متقدميهم ومتأخريهم ، وقد قال تعالى : {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص : 64] .
وفي الآية دلالة على أن من الجن أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم .
قوله تعالى : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف : 38] هذا من جملة خصامهم في النار وهو لعن كل داخل من تقدم عليه في الدخول ، واللعن هو الإبعاد من الرحمة ومن كل خير والأخت المثل .
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الأعراف : 38] إلى آخر الآيتين ، اداركوا أي تداركوا أي أدرك بعضهم بعضا اللاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعا .
والمراد بالأولى والأخرى اللتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإن الأولى منهم مقاما وهم رؤساء الضلال ، وأئمة الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال ، وكذا الأولى منهم زمانا وهم الأسلاف المتقدمون أعانوا متأخريهم على ضلالتهم لأنهم هم الذين جرءوهم بفتح الباب لهم وتمهيد الطريق لسلوكهم . والضعف بالكسر فالسكون ما يكرر الشيء فضعف الواحد اثنان وضعف الاثنين أربعة غير أنه ربما أريد به ما يوجب تكرار شيء آخر فقط كالاثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان وضعفاه أربعة ، وربما أريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شيء كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لأنهما يصيران بذلك اثنين فكل واحد من جزئي الاثنين ضعف وهما جميعا ضعفان نظير الزوج فالاثنان زوج وهما زوجان وعلى كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى ، قال تعالى كما في هذه الآية {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا} [الأعراف : 38] وقال تعالى : {ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} [الأحزاب : 68] .
وقوله : {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف : 38] إلخ ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معللا بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالإشارة إلى الملزوم وإفادة الملازمة ، وفيه مع ذلك نوع من الإيجاز فإن فيه اكتفاء بمحاورة واحدة عن محاورتين ، والتقدير قالت أخراهم لأولاهم أنتم أشد ظلما منا لأنكم ضالون في أنفسكم وقد أضللتمونا فليعذبكم الله عذابا ضعفا من النار ، ثم رجعوا إلى ربهم بالدعاء عليهم وقالوا ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا . . . إلخ ، فأجابهم الله وقال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ، ثم أجابتهم أولاهم وقالوا : فما كان لكم علينا من فضل إلخ .
فمعنى الآية : {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} [الأعراف : 38] واجتمعوا بلحوق أخراهم لأولاهم ﴿فيها﴾ أي في النار تخاصموا {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} [الأعراف : 38] وهم اللاحقون مرتبة أو زمانا من التابعين ﴿لِأُولَاهُمْ﴾ وهم الملحوقون المتبوعون من رؤسائهم وأئمتهم ، ومن آبائهم والأجيال السابقة عليهم زمانا الممهدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذبوا بأشد من عذابنا فسألوا ربهم ذلك وقالوا : {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف : 38] يكون ضعف عذابنا لأنهم ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم بالإعانة ﴿قال﴾ الله سبحانه ﴿لِكُلٍّ﴾ من الأولى والأخرى ﴿ضِعْفٌ﴾ من العذاب أما أولاكم فإنهم ضلوا وأعانوكم على الضلال ، وأما أنتم فإنكم ضللتم وأعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم وإجابة دعوة الرؤساء منهم ، وتكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم ﴿ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ فإن العذاب إنما يتحقق أو يتم في مرحلة الإدراك والعلم .
وأنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب وإحاطة النار فتتوهمون أن عذابهم مثل عذابكم وليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه والشعور به كما أنهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم وعندهم من العذاب ضعف ولكن إحاطة العذاب شغلكم عن العلم بذلك .
وهذا خطاب إلهي مبني على القهر والإذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أولاهم وأخراهم جميعا فتعود به أولاهم لأخراهم بالتهكم وتقول كما حكى الله : {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [الأعراف : 39] بخفة العذاب {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف : 39] في الدنيا من الذنوب والآثام .
________________________
1. تفسير الميزان ، ج8 ، 87-116 .
قال تعالى : {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [الأعراف : 35-36] .
تعليم آخر لأبناء آدم :
مرّة أخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريّته ، إذ يقول : {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) أي إذا أتاكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتّبعوهم ، لأنّ من اتّقى منكم واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم ، فلا يخاف ولا يحزن .
وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلا : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} .
فتلك عاقبة المؤمنين ، وهذه عاقبة المكذبين لهم .
رد على سفسطة أخرى :
أقدم جماعة من مختلقي الأديان والمذاهب في العصور الأخيرة ـ على غرار ما قلنا في تفسير الآيات السابقة ـ على التمسك بطائفة من الآيات القرآنية بغية تعبيد الطريق لأهدافهم والتمهيد لتحقيقها ، وادعوا كونها دليلا على نفي خاتمية رسول الإسلام ، على حين لا ترتبط هذه الآيات بتلك المسألة قط .
ومن تلكم الآيات الآية الحاضرة ، فهم من دون أن يلاحظوا ما يسبقها وما يلحقها من الآيات قالوا : إن «يأتينّكم» فعل مضارع ، ويدلّ على أنّه من الممكن أن يبعث الله رسلا آخرين في المستقبل .
ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا ، واستعرضنا الآيات التي تتحدث عن خلقة آدم وسكونته في الجنّة ، ثمّ إخراجه منها هو وزوجته . ولا حظنا أنّ المخاطبين في هذه الآيات ليسوا المسلمين ، بل مجموع البشر وجميع أبناء آدم ، لا تضح جواب هذه الشّبهة وردّ هذا الاستدلال ، لأنّه لا شك أنّه قد بعث لمجموع أبناء آدم رسل كثيرون ، جاء ذكر أسماء طائفة معتد بها في القرآن الكريم ، وجاء ذكر آخرين في كتب التواريخ .
غاية ما في الأمر أنّ هذا الفريق من مختلقي المذاهب والأديان ، تجاهلوا الآيات السابقة بغية إضلال الناس وخداعهم ، وقالوا : إنّ المخاطبين في هذه الآية هم خصوص المسلمين ، واستنتجوا من ذلك إمكان وجود رسل آخرين .
إنّ لأمثال هذه السفسطات نظائر كثيرة في السابق ، وبخاصّة في حالة الفصل بين آية وأخرى وجملة وأخرى ، والتغافل عن سوابق الآية ولواحقها ، فينتزعون منها مفهوما يوافق رغباتهم وإن كان يقابل المفهوم الواقعي للآية في الحقيقة .
- {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} [الأعراف : 37] .
من هذه الآية فما بعد تتضمّن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى ، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت ، إذ تقول : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} .
وكما أسلفنا ـ في سورة الأنعام في ذيل الآية 21 ـ لقد عرف «أظلم الناس» في عدّة آيات من القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولكن الصفات التي ذكرت لهم تعود كلّهم إلى جذر واحد ، وهو الشرك وعبادة الأصنام وتكذيب آيات الله سبحانه . وفي الآية المبحوثة هنا ذكرت مسألة الافتراء على الله سبحانه كصفة بارزة من صفاتهم ، مضافا إلى صفة التكذيب بالآيات الإلهية .
ونظرا إلى أنّ منشأ جميع أنواع الشقاء في نظر القرآن هو الشرك ، ورأس مال جميع السعادات هو التوحيد ، يتّضح لماذا يكون هؤلاء الضالون المضلون أظلم الناس . إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم كما ظلموا المجتمع الذي يقيمون فيه ، إنّهم يغرسون النفاق والتفرقة في كل مكان ، ويشكّلون سدّا ومانعا كبيرا في طريق وحدة الصفوف والتقدم والإصلاحات الواقعية (3) .
ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول : {أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} . أي أنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة ، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر ، وانتهوا إلى آجالهم النهائية ، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم .
والمراد من «الكتاب» هي المقدرات من النعم المختلفة التي قدرها الله تعالى لعباده في هذا العالم ، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب هو العذاب الإلهي ، أو ما هو أعمّ من المعنيين .
ولكن بالنظر إلى كلمة (حتى) التي تشير عادة إلى انتهاء الشيء ، يتّضح أنّ المراد هو فقط نعم الدنيا المتنوعة المختلفة التي لكل أحد فيها حظ ونصيب ، سواء المؤمن أو الكافر ، الصالح والطالح ، والتي تؤخذ عند الموت ، لا العقوبات الإلهية التي لا تنتهي بحلول الموت ، والتعبير بالكتاب عن هذه النعم والمقدرات إنّما هو لأجل شبهها بالأمور التي تخضع للتقسيم والأسهم وتكتب .
وعلى كل حال ، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت ، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلّفين بقبض أرواحهم ، فيسألونهم : أين معبوداتكم الّتي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها ، وكنتم تسوقون إليها ثرواتكم سفها . {قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} .
فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كلّ شيء ، ويرون كيف تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح ، قائلين : لا نرى منها أثرا وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا ، وأنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثا وباطلا {قالُوا ضَلُّوا عَنَّا} .
وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ} .
إنّ ظاهر المسألة وإن كان يوحي بأنّ الملائكة تسأل وأنّهم يجيبون ، ولكنّه في الحقيقة نوع من العقوبة النفسية لهم يلفتون بها نظرهم إلى الوضع المأساوي الذي يصيبهم من جراء أعمالهم ، ويرونهم كيف ضلوا وتاهوا في المتاهات والضلالات مدة طويلة من العمر ، وضيّعوا كل رؤوس أموالهم الثمينة دون جدوى دون أن يحصدوا منها حصيلة مسرّة مشرّفة في حين أغلق في وجههم طريق العودة ، وهذا هو أوّل سوط جهنّمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم .
-{قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف : 38-39] .
تنازع القادة والاتباع في جهنم !
في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله .
ففي الآيات السابقة صور لنا وضعهم عند حلول الموت ، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم ، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية ، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة .
ففي يوم القيامة يقول الله لهم : التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن سبقوكم ، وذوقوا نفس مصيرهم النّار {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} .
إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني ، يعني أن يجعلهم جميعا في مكان واحد ، أو يكون شبيها بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم ، ويكونون مجبورين على إطاعته .
وعند ما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك ، وهي مصادمات عجيبة ، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأخرى واعتبرتها سببا لشقائها ومسئولة عن بلائها ومحنتها {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها} (4) .
ولعلنا قلنا مرارا : إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا . فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأخرى ، وتبدي تنفرها منها . على العكس من أنبياء الله ، والمؤمنين الصالحين ، والمصلحين الخيّرين ، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر ، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات .
إلّا أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ ، بل عند ما يستقر الجميع ـ بمنتهى الذلّة والصغار ـ في الجحيم والعذاب الأليم ، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأخرى .
ففي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم ، وحيث أنّهم لا يجدون مناصا ممّا هم فيه يقولون : ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا ، فضاعف يا ربّ عذابهم ، عذابا لضلالهم وعذابا لإضلالهم إيّانا . وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} .
ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّا ، بل إنّ المضلين سينالون ضعفا من العذاب حتى من دون هذا الطلب ، لأنّهم يتحملون مسئولية انحراف من أضلوا أيضا دون أن ينقص من عذابهم شيء ، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم : سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط {قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} .
ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفا من العذاب أيضا ، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الانحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم ، بل هؤلاء الأتباع المعاندون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الانحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة ، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفا من العذاب أيضا ، عذابا لضلالهم هم ، وعذابا لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الانحراف .
ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظم عليه السلام حول أحد شيعته يدعى صفوان ، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا : «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا» .
قلت : جعلت فداك أي شيء ؟
قال عليه السلام إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي) .
قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة) . . . فقال لي عليه السلام : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك .
فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك . قلت : نعم .
قال عليه السلام : «من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النّار» . (5)
وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب الله الأليم ، {وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .
والمقصود من «الأولى» الطائفة الأولى أي القادة (قادة الضلال الانحراف) والمقصود من «الأخرى» الأتباع ، والأنصار .
_________________________
1 . تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 361-367 .
2 . «أمّا» مركبة في الأصل من «أن» ، و «ما» و «إن» حرف شرط و «ما» حرف للتأكيد .
3. لمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام .
4. التعبير بالأخت كناية عن الارتباط الفكري والصلة الروحية بين هذه الفرق المنحرفة ، وحيث أن الأمة مؤنث لفظي ، لهذا عبر عنها بالأخت ، لا الأخ .
5. وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 182 ، 17 .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|