والظاهر أن أنظار المؤرخين وقتئذ كانت قد تحولت نحو سير الأحوال في «سوريا»؛ حيث كانت الأحداث هناك قد أقضت مضجع «كليوباترا» كبرى بنات الملك «فيلومتور»، فعانت من المصائب أكثر مما كانت تعانيه أختها «كليوباترا الثانية» في مصر.
وتفسير ذلك أن زوج «كليوباترا تيا» الثاني، وهو «ديمتريوس الثاني نيكاتور» كان قد قضى الست سنوات التي جاءت بعد انتصاره (عام 146–140ق.م) في محاربة رعاياه الذين فرض عليهم حقوق الفاتح المنتصر بكل قسوة، وعلى الثائرين الذين كانوا يقفون في وجه استبداده وعتوه. وقد كان من جراء ذلك أن رجلًا يُدعى «ديو دوتوس» وهو الذي كان يُلقَّب «تريفون» Tryphon قد جاء ومعه ابن «إسكندر بالاس» و«كليوباترا تيا» من عند النباطيين، وأعلنه ملكًا على «سوريا» عام 146ق.م باسم الملك «أنتيوكوس السادس إبيفانس ديونيسوس». وقد أصبحت سوريا منذ ذلك الحين مقسمة فريقين؛ أحدهما: معسكر «تريفون» والملك الجديد واتخذ «أنطاكية» مقرًّا له، وكان يعارض هذا الفريق في فلسطين أمراء اليهود، أما الفريق الآخر: فكان على رأسه «ديمتريوس» الذي كان يسيطر على سائر البلاد وعلى «سليوس» الواقعة على نهر العاصي «الأرنت»، وهي التي اتخذها «ديمتريوس» عاصمة لملكه مؤقتًا. وعلى أية حال لم تَمْضِ مدة طويلة حتى تخلص «تريفون» من «أنتيوكوس السادس» (عام 143-142ق.م) ليحكم هو مكانه، والظاهر أن هذا الملك الفتى كان قد تُوفِّي على أثر عملية جراحية (1). ولا نزاع في أن «تريفون» كان قد أخذ درسًا عن «إيرجيتيس» الذي كان قد قدم تفسيرًا مقبولًا عن موت «بطليموس نيوس فيلوباتور».
(1) ديمتريوس ملك سوريا وغرامه بالأميرة روديجين ونتائجه
وفي خلال تلك الفترة أحس «ديمتريوس» أنه بسبب هذه الاضطرابات قد تصبح أقاليمه التي في الشرق عرضة للوقوع نهائيًّا في يد البارثيين (إيران)؛ ومن أجل ذلك قام بحملة على هؤلاء الغزاة لاسترداد «إيران»، غير أن الحظ خانه هناك وهُزِم هزيمة منكرة، وأُخذ أسيرًا، وقد عزاه — في خلال مدة أسره — الحب الذي نشأ بينه وبين الأميرة «روديجين» ابنة الملك «متراداتيس» قاهره (138-137ق.م).
وعندما كان «ديمتريوس» يمني نفسه بالآمال في العودة إلى ملكه الذي حُرم منه، وذلك بمساعدة ملك «بارثيا»، وقد حاول الإفلات من أسره من وقت لآخر؛ نجد أن «أنتيوكوس» السيدي (أنتيوكوس السابع السيديتي) كان مستمرًّا في محاربة «تريفون». أما «كليوباترا تيا» التي كانت حبيسة مع ابنها وأطفالها في مدينة «سليوس» فقد وهبته نفسها وعرش الملك عندما علمت أن زوجها قد تزوج من الأميرة «روديجين».
وبذلك حل «أنتيوكوس السابع» محل أخيه بوصفه ملكًا وزوجًا؛ فكان بذلك بديلًا لأخيه من غير إكراه. والواقع أنه كان يعد نفسه بمثابة حارس لكل ما كان سيسلمه يومًا ما إلى الملك الشرعي الأسير (139-138ق.م)، والظاهر أن «أنتيوكوس السابع» أخذ بعد ذلك يلتفت إلى «تريفون»، وبخاصة أنه كان وقتئذ قد أصبح مكروهًا في «أنطاكية»، هذا فضلًا عن قيام خلاف بينه وبين اليهود؛ وفوق كل ذلك كان مجلس الشيوخ الروماني قد أظهر جفوته له وتغاضيه عنه، وذلك على الرغم من تقربه منه؛ ومن ثم ألقى بنفسه إلى التهلكة بما أظهره من قلة الحزم وعدم الروية، وفعلًا أدت كل هذه الأسباب مجتمعة إلى أن «تريفون» هذا قد أُسِرَ، ثم أُعْدِمَ بعد أربعة أعوام من اغتصابه ملك سوريا (عام 138ق.م). أما «أنتيوكوس» فإنه على الرغم مما أظهره من الميل إلى إعلان الحرب على «البارثيين» من أجل خلاص أخيه فإنه لم يكن في استطاعته القيام بهذه الحرب في تلك الفترة؛ إذ كان عليه قبل أن يقوم بهذا العمل الجبار أن يحول مجهوده نحو اليهود، ويرقبهم عن كثب، ثم يعلن عليهم الحرب في اللحظة المناسبة؛ أما اليهود فإنهم على الرغم مما كان بينهم من مشاحنات وخلافات داخلية، فإنهم أفادوا من المنازعات الخارجية التي كان «أنتيوكوس» مشغولًا بها لأجل أن يوطدوا استقلالهم الذاتي، هذا وكان اليهود قد تعودوا الالتجاء إلى مجلس الشيوخ عندما كانت تحل بهم كارثة أو تصيبهم مصيبة.
(2) مجلس الشيوخ يرسل بعثًا إلى الشرق لتفقد أحواله يرأسه «سبيون»
على أن مجلس شيوخ «روما» — الذي كان يُعتبر المهيمن على سياسة العالم وقتئذ — أراد أن يقف على جلية الأحوال في الشرق، وذلك بعد أن وردت إليه أخبار متضاربة؛ ومن أجل ذلك كلف بعثًا من عظماء رجاله؛ ليأتي إليه بالمعلومات الصادقة حوالي عام 136-135ق.م. وهذا البعث كأن يتألف من «سبيون أمليان» Scepion Emelien قاهر «قرطاجنة» وبصحبته «موميوس» الآخي والقنصل «ميتلوس» Metellus أخ «ميتلوس» المقدوني. وكان كل هؤلاء من الشخصيات الذين يحتلون مكانة في الصف الأول في مجلس الشيوخ، وقد كانت مهمتهم تنحصر في بحث أحوال الممالك المحالفة لروما. ولا بد أن نشير هنا إلى أن تاريخ هذا البعث كان موضع نقاش وجدال (2).
(3) البعث يبتدئ بزيارة مصر
وتدل الشواهد على أن هذا البعث الروماني قد بدأ عمله بزيارة مصر. وقد وصف لنا بعض المؤرخين التناقض العجيب الذي ينطوي على سخرية لاذعة؛ وأعني بذلك التناقض الذي مُثل في الصورة التي وُضِعَتْ لكل من «سبيوس» و«بطليموس البطين» في كفتي الميزان، وذلك عندما تقابلا سويًّا في الإسكندرية؛ فقد ظهر البطل الروماني الجمهوري بمظهر الرجل البسيط في ملبسه والوقور في أخلاقه، ومعه صديقه الفيلسوف «بانيتيوس» Panetios وبعض الخدم الذين كانوا يرتدون ملابس محترمة تدل على ذوق سيدهم، في حين أن «بطليموس إيريجيتيس الثاني» قد ظهر بوجه سمج وجسم مثقل بالكسل، تبدو عليه علامات الانهماك في اللذات، يجر ساقيه المتراخيتين، ويبرز أمامه كرشه المنتفخ، مما جعله يستحق دون جدال أن يُطلق عليه لقب «البطين». هذا، ونلحظ أنه عندما رست السفينة التي كانت تقل البعث الروماني سار «سبيوس» إلى الأمام وقد غطى رأسه بعباءته لأجل أن يحجب نفسه عن أنظار العامة، ولكي يتفادى حب استطلاعهم، غير أنه لم يلبث أن اضطر إلى استجابة طلب الشعب الذي كان يهرع لرؤياه، وكشف عن وجهه، وتابع سيره بين الهتافات المعبرة عن الاعترافات بالجميل.
(4) وصف زيارة البعث لمصر
أما «إيرجيتيس الثاني» فنراه وقد أسرع في السير أمام ضيوفه، والواقع أن أهالي الإسكندرية قد فرحوا برؤيته وهو مرتدٍ ثوبًا خفيفًا يكاد يكون شفيفًا، وكان العرق يغمره وأنفاسه تتلاحق بسرعة كما كان يبذل مجهودًا جبارًا للحاق برجال البعث الذين كانوا قد أرادوا أن يهزأوا منه عندما رأوا أنه كان يجر ساقيه جرًّا في شوارع الإسكندرية بسبب بدانته. وفي خلال سير الموكب مال «سبيوس» على زميله «بانيتيوس» وهمس في أذنه قائلًا: لقد أفاد فعلًا أهالي الإسكندرية من زيارتنا؛ إذ يرجع الفضل إلينا في أنهم قد رأوا مليكهم يتنزه على قدميه.
ولقد كان من الطبيعي أن يستقبل «بطليموس» هؤلاء المبعوثين الرومان بكل أبهة وحفاوة وبكل ما لديه من جاه. والواقع أنه أقام لهم ولائم فاخرة، كما أطلعهم على النفائس التي كانت تحتويها الخزانة الملكية، وذلك أثناء جولاته معهم في قصره، ومما يلفت النظر في أخلاق المبعوثين الرومان أنهم كانوا يُمَيَّزُون بما جُبِلُوا عليه من فضائل كريمة؛ فلم يتناول واحد منهم مما قُدِّمَ إليه من الطعام إلا ما كان ضروريًّا، هذا مع ترفعهم عن الأطعمة الغالية التي تدل على البذخ والإسراف؛ زعمًا منهم أنها تفسد الروح والجسم معًا. أما الثروات والنفائس التي كان الملك يُعْجَبُ بها ويعرضها أمامهم، فإنهم لم يأبهوا بها أبدًا؛ بل كانوا في الواقع يغضون من أبصارهم عنها أثناء سيرهم في جنبات القصر؛ ولكن من جهة أخرى كانوا يقبلون على مشاهدة ما كان يستحق الالتفات فعلًا؛ فمن ذلك أنهم فحصوا عن كثب موقع المدينة، وأهمية الفنار وخصائصه. وبعد ذلك نجد البعث يصعد في النيل حتى مدينة «منف» الخالدة. وفي خلال تلك المرحلة لمسوا مقدار خصوبة أرض مصر وقدروها حق قدرها، كما قدروا ما يسبغه فيضان النيل السنوي على البلاد من نفع، وكذلك عرفوا عدد مدن مصر وما فيها من سكان يخطئهم العد، كما عرفوا موقع مصر الحصين وأحوالها الممتازة التي تؤكد قيام إمبراطورية عظيمة وتضمن أمانها، وبعد أن رأوا — والدهشة تملأ نفوسهم — جموع السكان الفقراء، وكذلك تخطيط الأماكن المصرية، أجمعوا على أن هذه البلاد يمكن أن تصبح دولة قوية عظيمة إذا وُضِعَ على رأسها أسياد جديرون بتولي شئونها.
(5) مغادرة البعث مصر وتقريرهم عنها
وبعد أن انتهت جولة البعث في أرض الكنانة غادروها قاصدين جزيرة «قبرص»؛ ومن ثم ولوا وجوههم شطر «سوريا». والآن لا يسعنا في هذا المجال إلا أن نترك لرجال البلاغة والبيان العناية بنظم عقود المديح في فضائل رجال هذا البعث الذين اكتفوا من الحياة بأكل ما يسد رمقهم، ولم يغرهم ما عُرِضَ أمام أعينهم من النفائس والقناطير المقنطرة من الذهب، وعلى أية حال يمكن الإنسان أن يكون على يقين من أن رجال هذا البعث المتزنين قد دونوا ملاحظاتهم عن كل ما شاهدوه، وأن التفاتهم لم يكن بأية حال من الأحوال يرمي إلى غرض حتى لا يُفْهَم أنه كان شهوة أو رغبة شخصية. وقد حملوا معهم إلى «روما» الاعتقاد بأن بلادًا تزخر بالثراء مثل مصر لا يجب أن تفلت من يد الرومان، أما من جهة النصيحة الطيبة التي أمكنهم أن يقدموها إلى «بطليموس» بسلوكهم هذا فلا نعلم لها من أثر فعال؛ إذ الواقع أن «إيرجيتيس» ظل يعيش بين ندمائه الذين كانوا يشاطرونه متعه الرخيصة، وكذلك بين جنوده القدامى المدنسين. هذا، وقد كان مكروهًا من أهالي الإسكندرية أكثر مما كان في سائر بلاد القطر؛ إذ إن رجال الدين الذين عرفوا فيه الغيرة على إقامة المعابد، وكما أن الأهالي بوجه عام تعرف فيه ميله لتخفيف عبء السخرة عنهم؛ ومن أجل هذا كانوا يميلون إليه بعض الميل.
(6) زيارة البعث أتت بنتيجة عكسية
وما لا شك فيه أن زيارة السفراء الرومان لمصر لم تَأْتِ إلا بنتيجة عكسية؛ وذلك أنها زادت في غضب مدينة الإسكندرية التي جُبِلَتْ من أول نشأتها على الكبرياء؛ فقد أحس الأهالي من هذه الزيارة أن ملكهم الطاغية كان يستند على مساعدة الأجنبي له. وقد انتهزت «كليوباترا الثانية» التي كان يحبها الشعب الإسكندري هذه الفرصة، وحركت النار التي كان وميضها متأججًا تحت الرماد؛ وذلك للانتقام لنفسها بما كانت تكنه من حقد دفين بين جوانحها لهذا العاتي الذي ارتكب معها أبشع جرائم القتل إن صح ذلك.
(7) قيام ثورة في البلاد وهرب إيرجيتيس إلى «قبرص»
وعلى هذا لم تلبث الثورة التي كانت مُنْتَظَرَة منذ زمن طويل أن اندلع لهيبها أخيرًا عام 131-130ق.م. وعلى قدر ما يمكن أن نحكم به بما لدينا من تأريخ غير مؤكد فيما يخص هذه الحوادث المحزنة؛ نفهم أن الملك البطين أراد أن يقضي على بوادر هذه الثورة، وذلك بنشر الزعر والهلع في نفوس سكان الإسكندرية؛ فمن ذلك ما قِيل أنه ذات يوم أحاط ملعبًا رياضيًّا مكتظًّا بالشباب، وذلك بطائفة من رجال شرطته الذين ما لبثوا أن أشعلوا فيه النار، وقضوا على الذين نجوا من الحريق بالقتل (3). غير أن هذا العمل الأخير جعل الكيل يطفح والأمور تتأزم حتى بلغ السيل الزبى والحزام الطبيين ولم يَبْقَ في القوس منزع، لدرجة أن الشعب الذي خرج عن شعوره صمم على حرق هذا الطاغية في مقره، وإشعال النار في قصره. غير أن «إيرجيتيس» كان قد أحس بالخطر، ولم ينتظر حتى ساعة إنزال العقاب به؛ إذ نراه قد أفلت سرًّا مع زوجه الفتاة وأولادها وولد آخر كان قد رُزِقَ به من زوجه الأولى «كليوباترا الثانية» وهو الذي يُسَمَّى «المنفي» والذي كان لا يزال فتى، وقُدِّرَ له أن يكون بمثابة رهينة عنده، وقد عُلِمَ بعد فرار «بطليموس إيرجيتيس» بمدة وجيزة أنه هرب إلى «قبرص»، وأنه جمع حوله هناك جيشًا من الجنود المرتزقين تمهيدًا لعودته على رأس هذا الجيش إلى الإسكندرية. ولا بد أن نلحظ هنا أن ثورة الشعب الإسكندري لم تهب على أسرة البطالمة؛ بل كانت ثورته بالذات على «بطليموس إيرجيتيس الثاني» شخصيًّا؛ وعلى ذلك فقد كان على الشعب أن يعلن سقوط هذا الملك الهارب، وفي الوقت نفسه يعترف بالملكة «كليوباترا الثانية» ملكة على مصر. غير أنهم أرادوا بعد ذلك أن يسيروا على نهج العادة المتبعة التي كانت تحتم وجود ذكر على عرش الملك، ومن أجل ذلك أخذوا يبحثون في الأسرة المالكة عن ذكر يمكن أن يقوم بدور الزوج للملكة «كليوباترا» سواء أكان ذلك حقيقة أم رمزًا على حسب قانون وراثة العرش. ومما يؤسف له أنه لم يوجد فرد تتوافر فيه الشروط المطلوبة؛ لأن أولاد «بطليموس السابع» الذين أنجبهم من «كليوباترا الثالثة» لم يقبل الإسكندريون ترشيح واحد منهم للملك، ولكن كان هناك ممثل واحد ذكر من الأسرة جدير بأن يقوم بهذا الدور وهو بكر أولاد «بطليموس السابع» الذي أنجبه من زواج غير شرعي من امرأة تُدْعَى «إيرن». ومن المحتمل أنه هو الذي كان قد وُكِّلَ إليه حكومة «سرنيقا». هذا، ولم يكن لدى أهالي الإسكندرية غير هذا المخرج.
(8) بطليموس السابع يقتل ابنه انتقامًا من والدته كليوباترا الثانية
ولكن «بطليموس البطين» علم بالخبر، وأفسد عليهم خطتهم بارتكاب جريمة جديدة؛ وذلك أنه طلب إلى ابنه ملك «سرنيقا» أن يحضر عنده في «قبرص»، وعلى أثر وصوله إلى «قبرص» قضى على حياته. وعندما سمع أهل الإسكندرية بهذا النبأ المفجع قاموا بتهشيم تماثيل «بطليموس السابع» تهشيمًا تامًّا، وقد كان جواب هذا الملك اللعين أفظع وأنكى على هذه الإهانة التي ادعى أن «كليوباترا الثانية» هي المسئولة عنها؛ فقد قام في الواقع بانتقام خسيس دنيء ماكر كالذي نسمع عن أمثاله في الأساطير، وبخاصة في قصة «أوزير» و«ست» عندما قطع الأخير جسم الأول ونثره في أنحاء أرض الكنانة، وذلك أن «إيرجيتيس» أمر بقتل ابنه «المنفي» على مرأى منه، ثم قطعه إربًا إربًا، ثم وضع أشلاءه في صندوق أرسله إلى أمه «كليوباترا» زوجه وأم الطفل القتيل إلى الإسكندرية بمثابة هدية لها في يوم عيد ميلادها (4). وإذا كان هذا الحادث قد وقع فعلًا على يد هذا البطين فإن انشراحه قد كان يبدو بطبيعة الحال أكثر كمالًا إذا كان قد أمكنه أن يقدم لحم ابنه وابنها طعامًا لها كما حدث في الأسطورة التي تروي لنا قصة «أتري» Atree — ابن «بولبس» وملك «ميسيني» المشهورين — الذي كان يكره أخاه «تيست» Thyeste فانتقم منه أشنع انتقام يمكن تصوره، وذلك أنه ذبح تانتال Tantale و«بليستين» Plisthene ابنا «تيست» وقدم لحمهما طعامًا لوالدهما في وليمة. ولكن على أية حال نجد في هذه القصة أن الجاني قد قُتِلَ بيد «إيجيست» Egisthe وهو ابن آخر من أولاد «تيست». والواقع أن غضب الشعب الإسكندري وحنقه على «بطليموس البطين» قد بلغ أقصى مداه عندما سمع بهذه الجريمة التي لا يمكن أن تُجَارَى في شناعتها وشدة هول وقعها في نفوس الشعب.
والآن يتساءل الإنسان ماذا ستكون نتيجة الصراع الذي أصبح الآن بين أهالي العاصمة الذين لم يكن لديهم من القوة إلا ما ملكت أيديهم وحسب، لا سيما بعد أن أصبح من المؤكد أن سائر أهالي القطر لا يهمهم أمر هذه المنازعات التي كانت بين الإسكندريين وبين هذا البطين العاتي الحانق الذي جمع في «قبرص» أسطولًا وجيشًا ليدخل بهما الإسكندرية كرة أخرى، ويستولي على عرش الملك الذي طُرِدَ منه؟ والجواب على هذا السؤال ليس في الاستطاعة تقديمه هنا؛ لأن المصادر القديمة التي في أيدينا لا تسعفنا قط. غير أن المؤرخ الكبير «بوشيه لكلرك» أجاب على هذا السؤال مستفهمًا بدوره هل يجب علينا أن نتعرف على «إيرجيتيس الثاني البطين» بأنه هو «بطليموس الكبير» أو العجوز (أي بطليموس سوتر) الذي على حسب ما ورد في قطعة من «ديدور» قد أرسل القائد «هيجيلوكوس» Hegelachos ليحارب الإسكندريين الذين كان يقودهم رجل يُدْعَى «مارسياس» Marsyas، وأنه بعد أن هزم أهل الإسكندرية هزيمة منكرة أظهر كرمًا وحسن معاملة لم تكن منتظرة لمناهضة «مارسياس»؟
وعلى أية حال يحدثنا «ديدور» أن «بطليموس البطين» أخذ في تغيير اتجاهاته (5)؛ إذ بدأ يظهر بمظهر الإنسان بتهدئة غضب الأهالي عليه. وكذلك يتساءل «بوشيه لكلرك» هل يكون «هيجيلوكوس» هذا هو الموظف الذي يُسَمَّى «لوكوس» Lochos بن «كاليميديس» Callimedes الذي كان في حمايته التجار الإغريق منذ استيلاء الملك «بطليموس» الإله المخلص (سوتر) على الإسكندرية، وقد أقاموا له تمثالًا في «ديلوس» (6)؟ والواقع أننا نعرف أن «لوكوس» هذا قد أصبح حاكمًا حربيًّا على منطقة «طيبة» ويحمل ألقابًا تدل على عظم مكانته (راجع CIG., 4896 A-B = Strack 103 Obelisque of Philae).
(9) انفراد كليوباترا بالملك
وعلى أية حال فإن ما جُمِعَ من مصادر متفرقة عن هذه الفترة المظلمة يدل على أن «كليوباترا الثانية» قد انفردت بملك مصر باسم «كليوباترا فيلومتور سوتيرا» (= كليوباترا محبة أمها الإلهة المخلصة). غير أنه لم يكن لها من ناصر غير أهالي الإسكندرية، وغير جزء ضئيل من أرض الكنانة؛ إذ يبدو أن أهالي مدينة «طيبة» قد اعترفوا بها ملكة على غرار ما فعله أهل الإسكندرية.
ومما لا شك فيه أن هذه الحركة التي قامت على «إيرجيتيس» في «طيبة» وجعلتها تناصر «كليوباترا» كان سببها غياب حامية هذه المدينة وانهماكها في إخماد عصيان فلاحي بلدة «أرمنت» الواقعة على الضفة الأخرى من النيل، وقد أُخْمِدَ هذا العصيان فعلًا في مهده على يد الجيش الذي بقي على ولائه للملك «إيرجيتيس الثاني البطين». هذا، ولدينا رسالة تحدثنا عن هذا العصيان مُؤَرَّخَة بالثالث والعشرين من شهر كيهك من العام الخمسين من عهد «بطليموس إيرجيتيس الثاني» (= 14 يناير سنة 130ق.م)، كتب هذه الرسالة جندي يُدْعَى «استالداس» Esthaldas (7) كان عليه أن يذهب لينضم إلى فرقة حرس المقدمة في «أرمنت». وكان قد وصل إلى مسامع هذا الجندي أن الحاكم الحربي لمقاطعة «طيبة» المسمى «باوس» سيقود — إلى «أرمنت» في الشهر القادم (طوبة) — قوة كافية لقمع عصيان أهالي «أرمنت» ومعاملتهم معاملة الخارجين على السلطة الشرعية في البلاد.
(10) ثورة طيبة على بطليموس السابع
هذا، وحوالي شهر أكتوبر عام 130ق.م خرجت مدينة «طيبة» على «إيرجيتيس الثاني البطين»، ولكن حامية مدينة «قفط» وكذلك الجزء الأعظم من الجنود الذين كانوا تحت إمرة «باوس» الحاكم في هذه الجهة قد بقوا دائمًا على ولائهم للملك «البطين» ولزوجه وأولاده.
وعلى أية حال لم تُعرف المدة التي ظلت خلالها «طيبة» تقاوم «بطليموس البطين». أما ثورة «أرمنت» فقد قُضِيَ عليها على أكثر تقدير في ربيع عام 129ق.م، ويظهر أن ثوار «طيبة» لم يلقوا سلاحهم في نفس الوقت.
على أنه لدينا بردية مؤرخة بالثامن من شهر كيهك عام 43 من حكم «بطليموس البطين» (= 9 يناير سنة 127ق.م)، وهذه الورقة تتحدث عن كهنة وكاهنات خاصين بعبادة الأسرة المالكة، ومن ثم على أية حال يمكن أن نأخذ بما استنبطه المؤرخ «ماير» (8) القائل بأن المناوشات استمرت قائمة في «طيبة»، غير أنه لا يُستنبط من ذلك أن «البطين» لم يكن قد استولى فعلًا على الإسكندرية من جديد.
(11) الصلح بين كليوباترا وبطليموس السابع
والواقع أن حكم «كليوباترا الثانية» قد بدأ بوصفها ملكة منفردة على البلاد ثم انتهى في الإسكندرية لمدة قصيرة جدًّا؛ إذ يظهر أنها قدمت خضوعها نهائيًّا في خلال عام 129ق.م لمجريات الأمور.
ولا نزاع في أنه كان من الغريب بل من المدهش حقًّا أن نرى «إيرجيتيس الثاني البطين» بعد دخوله الإسكندرية دخول الظافر المنتصر كما حدثنا بذلك المؤرخ «ديدور» أخذ يظهر لين جانب وحسن معاملة لم تكن متوقعة منه أبدًا على حسب ما صوره لنا المؤرخون الذين قالوا عنه إنه كان محبًّا للانتقام فتاكًا بخصومه. ومن أجل ذلك نجد أن الإسكندريين قد ذُهِلُوا لهذه المعاملة السمحة حتى إنه لم يَكَدْ أحد يصدق أنه مخلص فيما يظهره من تغير مفاجئ لم يكن في الحسبان. أما من جهة «كليوباترا» فكان لديها من الأسباب الخاصة ما لا يجعلها تعتمد على سماحة «البطين» التي كانت في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب؛ ومن أجل ذلك فرت إلى جوار زوج ابنتها «ديمتريوس الثاني» ملك «سوريا» حاملة معها ما في خزانتها من نقود ومتاع. وقد أمرت أن تُوضع كل ثروتها معها في السفينة التي أقلعت بها إلى مخبئها الجديد. وكانت «كليوباترا» تأمل في أن تجد في «أنطاكية» ملجأ مأمونًا كما كانت تأمل أن تجد هناك العون والنجدة التي كانت قد طلبتهما في العام المنصرم ولكن دون جدوى (9).
..............................................
1- راجع: Liv., Epit., LV; Joseph A. Jud., XXIIX,7, 1.
2- راجع: Justin, XXVIII, 8, 8.
3- راجع: Val. Max., IX, 2, Ex, 5.
4- راجع: Diod., XXX-XXXV.
5- راجع: Diod., XXXIV-V, 20. والواقع أن «بطليموس سوتر» الذي نُسِبَ إليه هذا الحادث لم يُعْرَفْ عنه أبدًا أنه دخل الإسكندرية فاتحًا، والمحتمل أن هذه هفوة قلم.
6- راجع: B.L. II. p. 74.
7- راجع: Pap. du louvre. Ap. Révillout Mélanges. P. 295.
8- راجع: Beitr., Z, Alt, Gesch, II (1902), P. 477-79.
9- راجع: Justin, XXXVIII, 9, 1.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة