ليست وصاية أمير المؤمنين عليه السّلام في الشؤون الشخصيّة لرسول الله
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص265-270
2025-11-25
56
إنّ الوصاية الواردة لأمير المؤمنين من قبل النبيّ لا تتعلّق بشؤونه الشخصيّة بل تتعلّق بشؤون النبوّة والولاية العامّة للمسلمين. ودليلنا على ذلك هو أنّه جعله في مصافّ أوصياء الأنبياء، مثل شيث بالنسبة إلى آدم، وسام بالنسبة إلى نوح، ويوشَع بالنسبة إلى موسى، وشمعون بالنسبة إلى عيسى، وآصف بن بَرخيا بالنسبة إلى سليمان. ثمّ إنّه جعله وصيّاً لمقام نبوّته، واعتبره أشرف الجميع وأفضلهم وأعلمهم، وشرّفه بلقب سيّد الوصيّين وخير الوصيّين.
وحتى في بعض المواطن التي سئل فيها، أجاب بأنّ سبب وصاية شمعون ويوشع وآصف أعلميّتهم بالنسبة إلى جميع الامّة، وعلى هذا الأساس جعل وصاية أمير المؤمنين مترتّبة على أعلميّته، وعدّه مع نفسه أبوَي هذه الامّة، وحجّتي الله على عباده، ووصفه مراراً بأنّه خليفته في حياته وبعد مماته. ومضافاً إلى ذلك، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلّم قال بأنّه «هو وعليّ بن أبي طالب من شجرة واحدة، ومن نور واحد، وغصنان متفرّعان من أصل واحد». وذكر في بعض الأوقات مجملًا أنّ عدد أوصيائه إثنا عشر: كُلُّهُمْ مِن قُرَيشٍ.
وقال في أوقات اخرى: كُلُّهُمْ مِنْ بَني هاشِمٍ. وقال في بعض الآونة: أوصيائي إثنا عشر أوّلهم أخي ووزيري، ووارثي ووصيّي عليّ بن أبي طالب، وآخرهم المهديّ القائم من ولدي، وفي آونة اخرى ذكرهم واحداً بعد الآخر، وأوّلهم عليّ بن أبي طالب، وبعده الحسن، ثُمّ الحسين، وبعده تسعة من ولده، وعدّهم واحداً واحداً، وآخرهم قائمهم رافع راية التوحيد والعدل، وهادم صرح الشرك والظلم.
وبيّن في بعض الأحايين أسماء الأئمّة واحداً بعد الآخر بالتفصيل. وأمر الامّة جميعها في أوقات كثيرة بلزوم اتّباع عليّ بن أبي طالب واعتبر إطاعة عليّ إطاعته، ومخالفة عليّ مخالفته، وأمر عليّ أمره، ونهى عليّ نهيه، وقول عليّ قوله، وحبّ عليّ حبّه، وبغض عليّ بغضه. وحزب عليّ وأنصاره حزبه وأنصاره، وحزبه حزب الله.
وقال في بعض المواطن ما مضمونه: ستظهر بعدي فتن، فعليكم بكتاب الله ووصيّي عليّ بن أبي طالب، فهما لا يفترقان. وذكّر المسلمين في جميع المراحل بالرجوع إلى الإمام بوصفه وصيّاً، وسيّد الأوصياء وإمام المسلمين، وأمير المؤمنين، وخليفة الناس، واعتبر السعادة والنجاة في ولايته، والشقاء والهلاك في الإعراض عنه. ورتّب وصايته على أساس تفرّده في العلم، والحلم والسبق إلى الإسلام. ووصفه بأنّه قاضي ديونه ومنجز عداته ووارثه.
ومن المعلوم أنّ الديون الظاهريّة لرسول الله لم تمثّل شيئاً. والمقصود بها هنا هي مسؤوليّته واشتغال ذمّته بالنسبة إلى جميع الناس من حيث هدايتهم والأخذ بأيديهم نحو مقام الإنسانيّة الشامخ، وإيصالهم إلى أعلى درجة من درجات القرب والتوحيد. وعهوده صلى الله عليه وآله وسلّم هي تلك المواثيق التي أخذها الله عليه بتبليغ الناس المعارف والأحكام، وتوجيههم نحو السعادة، ولذلك قال له: وأنتَ تُسْمِعُهُمْ صَوتي. ومن الطبيعيّ، فإنّ هذا العمل يصدر عن شخص هو في درجة رسول الله وكَالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ، والذّراعِ مِنَ الْعَضُدِ.
والإرث المقصود في وصفه على أنّه وارثه، هو ذلك الإرث الذي وصل إلى عليّ بن أبي طالب في الشؤون المتعلّقة برسول الله.
فهو وارث مقام العلم، ووارث مقام التوحيد والمعارف الإلهيّة ووارث الولاية والأولويّة بالمؤمنين من أنفسهم، ووارث القدرة والسيطرة، ووارث الأمر والنهي، ووارث مهمّة إيصال النفوس إلى هدفها المنشود، والسلطة التكوينيّة على النفوس والملكوت، ووارث الوحي والقرآن.
ولذلك قال صلى الله عليه وآله ما مضمونه، لو لم أكن خاتم النبيّين لكنتَ شريكي في النبوّة، ولكنّك وصِيّي وخليفتي، ولكي يأتي بشاهد من عالم الغيب حتى لا يظنّ أصحاب الافق الضيّق أنّ خلافة عليّ ووصايته كلام شخصيّ صدر عن الهوى والمحاباة وعلاقة القربى والمصاهرة استلهم من نزول النجم في بيت عليّ دليلًا بوصفه شاهداً غيبيّاً، أو استشهد بدخول عليّ من الباب على أنس بن مالك كأوّل داخل عليه.
أجل، فإنّ رسول الله قد ذكّر بجميع هذه المواضيع التي كانت فهرساً لهذا الفصل، وذلك من خلال تأكيداته الشديدة وترغيباته الأكيدة.
والعجب بل كلّ العجب من جحود وإنكار البعض من متعصّبي العامّة، إذ إنّهم- تقليداً لآبائهم- لم يتركوا الجمود والتعصّب، على الرغم من وجود الأحاديث الصحيحة والصريحة التي بلغت حدّ التواتر والبداهة فحملوا الأحاديث التي ورد فيها قضاء الدين والوفاء بالعهد على الديون الشخصيّة والعدّات الجزئيّة لرسول الله. وحملوا عنوان الوارث على الإرث في بعض المجالات الجزئيّة، مثل إرث السيف، والدرع، والمغفر والفَرَس، وسوّغوا لأنفسهم أن يفهموا الوصاية على أنّها وصاية في غسل رسول الله وتكفينه، أو وصايته صلى الله عليه وآله بالعرب، وما إلى ذلك من التأوّلات والتعسّفات.
وهذا ما نلمسه في كلام محبّ الدين الطبريّ في كتابه «ذخائر العقبي» ص 72، وفي «الرياض النضرة» ج 3، ص 178، وكذلك في كلام غيره من متعصّبي العامّة.
فهل يمكننا أن نحمل الأحاديث الكثيرة التي ورد فيها عنوان سيّد الوصيّين، وخير الأوصياء على الإيصاء بالشؤون الجزئيّة الخاصّة كالغسل والتكفين والدفن؟ وهل ينبغي لنا أن نعرض كلّيّاً عن هذه التأكيدات والتشديدات في لزوم اتّباع أمير المؤمنين، ونصدف عنها؟
وهل ينبغي لنا أن نطوي كلّ تلك التذكيرات المتتابعة والتوصيات الأكيدة في ملفّ النسيان؟ وهل من الإنصاف أن نتعسّف فَنأوّل معنى الوافي بالعهود والقاضي للديون، وهما صفتان متألّقتان وعلامتان خاصّتان جعلهما رسول الله لأمير المؤمنين في مواطن مختلفة وأماكن متنوّعة ومقامات عديدة، بالوفاء ببعض العدّات التافهة وأداء بعض الدراهم المعدودة؟
أنّ جميع هذه التأوّلات تهكّم واستهزاء بكلام رسول الله، بل بشخص رسول الله، بل بمُرسِلِهِ، والباعث عليها هو تبرئة الحكّام الغاصبين ومحرّفي الشريعة عن محورها الأصلي.
ولو وطّن هؤلاء العلماء الكبار من أهل السنّة أنفسهم على أن ينسبوا اللهو واللعب إلى كبارهم من أرباب السقيفة، لكان خيراً لهم من أن يسخروا برسول الله من خلال التلاعب بمثل هذه الألفاظ، ويُؤَوّلوا وصاياه في الرجل الإلهيّ الفريد الذي يمثّل رمز بزوغ التوحيد في مظاهر الصفات والأسماء الإلهيّة، أعني: مولى الموحّدين وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يُؤوّلوها تأويلات واهية باهتة لا تصدر حتى عن الإنسان البسيط العامّيّ.
ولو نسبوا الذنب والخطأ إلى رُؤَسائهم لكان خيراً لهم من أن ينسبوهما بصورة غير مباشرة إلى رسول الله. أنّ هؤلاء قد حرفوا الطريق المستقيم. وذلك لإسدال الستار على جرائم الحكّام الغاصبين، وتبرير حبّهم للجاه والرئاسة والتحكّم في رقاب المسلمين بعناوين متنوّعة. وبالتالي فإنّهم أوّلوا الأحاديث الصادرة عن النبيّ التي لا يرتاب فيها أحد وولاية أمير المؤمنين وحكومته الظاهريّة والباطنيّة الّتي تَتَلألأ بإشراقها على جميع الناس كالشمس. أوّلوا ذلك كلّه تأويلات باهتة خائرة يأباها العقل السليم، وهبطوا بقيمة صاحب الرسالة ومقامه إلى أسفل سافلين.
أيّ شخص يعرف سيرة الرسول الأكرم ومقامات أمير المؤمنين ويخبر لنفسه أن يُأوّل تلك الأحاديث، ويبرّر حكومة الظالمين بتحمّسهم على الإسلام، أو بِخَطَئِهِم في ذلك؟!
نحن لا ننتظر من عوامّ أهل السنّة شيئاً. فكلّ ما يُلقى إلى اولئك المساكين المستضعفين، يلقفوه، فيكون إكسيراً لأرواحهم، وكلّ موضوع يلقّنهم به كبارهم، يقبلوه ويتربّوا عليه، فليس لنا مع هؤلاء كلام، بل كلامنا مع من له اطّلاع على الأحاديث المأثورة.
وكلامنا مع الّذين ذكروا الفضائل والمناقب الفذّة لأمير المؤمنين في كتب مستقلّة أو في ثنايا أحاديث اخرى. ومع الذين يلمّون بالعربيّة وآدابها، ويفهمون المراد من كلام الله ورسوله حَسَناً، لكنّهم حرّفوا الأحاديث معنويّاً بدهاء ومكر عجيبين، واتّبعوا سبيلًا بعيداً وخاطئاً وحجبوا عقولهم وأفكارهم عن أداء دورها. إنّهم يعرفون أمير المؤمنين جيّداً ولكنّ الأنانيّة والعناد يصّدانهم عن أن يصموا ما فعله أسلافهم بالبطلان والخيانة، فيصفوا حاملي لواء السقيفة بالخيانة والإجرام بكلّ صراحة.
{وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا}[1] فقد أنكروا ولاية عليّ وهم على يقين بأنّ الحقّ معه، ولم يقرّوا بها ولم يتواضعوا أمام الحقّ؛ لأنّ رَين الظلم والعصيان قد تَراكم على نفوسهم الأمّارة بالسوء.
{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ}.[2] فإنّ اولئك الأشخاص يعرفون ولاية أمير المؤمنين وفضائله ومناقبه كما يعرفون أبناءهم.
والعجيب هو ما يلاحَظ في كثير من أحاديث العامّة أنّ أبا بكر، وعمر وعثمان، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والمُغيرة بن شُعبة، وأبا عُبَيدَة بن الجَرّاح أنفسهم يعترفون بفضائل عليّ، ويرونه أهلًا للخلافة من جميع الجهات، ويعتبرون أنفسهم غاصبين ومضيّعين لحقّه الثابت، ويصفون أمير المؤمنين بأنّه مظلوم. وهذه اعترافات ذكرها كبار العامّة في كتبهم!!
[1] الآية 14، من السورة 27: النمل.
[2] الآية 20، من السورة 6: الأنعام.
الاكثر قراءة في الامامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة