موقف المشرع اللبناني من مشكلة التناقض بين الأحكام
المؤلف:
هند جبار حسين ساجت
المصدر:
اثر التناقض على صلاحية احكام القضاء المدني
الجزء والصفحة:
ص 47-53
2025-11-20
46
عندما صدر قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني عام 1983 عدة أسباب، الطعن بالنقض، وعدت الفقرة الثانية من المادة (708) منه التناقض في الفقرة الحكمية للقرار الواحد سبباً من أسباب الطعن بالنقض، إذ جاء فيها: " يجوز الطعن بالنقض للأسباب التالية: 2. التناقض في الفقرة الحكمية للقرار الواحد بحيث يستحيل تنفيذه ".
ولهذا فإن التناقض المقصود في هذه الفقرة كسبب من أسباب الطعن بالنقض هو التناقض الذي يحصل في الفقرة الحكمية للقرار الواحد دون التناقض بين أسباب الحكم أو بين الفقرة الحكمية وأسباب الحكم (1) .
وبذلك يكون المشرع اللبناني قد أغفل النص على التناقض الذي يحصل بين حكمين كسبب من أسباب الطعن بالنقض، وقد تنبه المشرع اللبناني إلى هذا النقص فادخل تعديلا على قانون أصول المحاكمات المدنية بموجب المرسوم الاشتراعي رقم (20) لسنة 1985، واستناداً لهذا التعديل أضاف إلى المادة (708) قانون أصول المحاكمات المدنية الفقرة الثامنة الحالية التي تنص على: " يجوز الطعن بالنقض للأسباب التالية: 8 التناقض بين حكمين صادرين بالدرجة الأخيرة في ذات الدعوى عن محكمتين مختلفتين أو عن محكمة واحدة "(2).
واستناداً لهذا النص فإن قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني أجاز الطعن بالنقض (تمييزاً) في حالة التناقض ما بين حكمين صادرين بالدرجة الأخيرة - أي مكتسبين درجة البتات – في ذات الدعوى عن محكمتين مختلفتين أو عن محكمة واحدة ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الطعن
بالاستناد إلى السبب المبني على التناقض بين الأحكام يفترض أن مدة الطعن لم تنقض (3).
وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الوسيلة قد تعجز عن مشكلة التناقض بين الأحكام في بعض الأحيان، بخاصة بعد أن نصير الأحكام المتناقضة باتة، فقد بصدر حكم ويحوز درجة البنات أما لقوات مدة الطعن أو لتصديقه من محكمة التمييز، ثم يصدر حكم ثان في نفس الموضوع ولنفس السبب والخصوم، وبسبب إغفال أو عدم فعالية الوسائل الوقائية في الحيلولة دون صدور حكم ثان متناقض مع الحكم الأول يحور الحكم الثاني درجة البنات إما لعدم الطعن فيه تمييزاً أو لإغفال محكمة التعبير لحالة التناقض فتصادق عليه الأمر الذي يؤدي إلى قيام مشكلة التناقض، ولهذا تكون هذه الوسيلة تمييزاً غير فعالة في القضاء على مشكلة التناقض بين الأحكام. إلا أن المشرع اللبناني تنبه لهذه الحالة فقضى بترجيح أحد الحكمين على الآخر عند التنفيذ وذلك في المادة (629) من قانون أصول المحاكمات المدنية التي جاء فيها ما يأتي: " إذا صدرت أحكام متناقضة عن محاكم مختلفة وأصبحت مبرمة فلا يعتد إلا بالحكم الصادر عن أعلى محكمة منها، أما إذا صدرت عن نفس المحكمة أو عن محاكم متساوية في الدرجة فلا ينفذ إلا أحدث الأحكام تاريخاً . (4).
إن القاعدة التي يتضمنها النص المتقدم تقضي بتفضيل حكم المحكمة الأعلى درجة عند تناقضه مع حكم محكمة أدنى درجة، وبتفضيل الحكم الأحدث تاريخاً عند التناقض بين حكمين صادرين عن نفس المحكمة أو عن محاكم مختلفة متساوية في الدرجة، فإذا ما اتضح هذا التناقض في مرحلة التنفيذ وبعد اكتساب الحكمين درجة البنات، أي بعد استنفاذ طرق الطعن فينفذ قرار المحكمة الأعلى درجة وعند تساوي الدرجة القرار الأحدث تاريخاً (5).
ويلاحظ على موقف المشرع اللبناني ما يأتي:
1. يحسب للمشرع اللبناني حرصه على وضع حل لمشكلة التناقض بشكل يقبل التطبيق دائماً (ولو كانت الحاجة إليه محدودة من الناحية العملية إذ يكفي أن توجد حالة تناقض واحدة تريد حلاً فلا تجده حتى تفرض على المشرع ضرورة التدخل لإيجاده وتقنينه.
2. يحسب للمشرع اللبناني حرصه على أن يكون حل مشكلة التناقض بقوة القانون، وان يكون هذا الحل حلا احتياطياً لا يتم اللجوء إليه إلا بعد استنفاذ طرق الطعن كافة، فقد اقتصر الحل هنا على التناقض بين الأحكام المبرمة أي الباتة.
وحسناً فعل المشرع اللبناني، ذلك لأن المساس بالأحكام واعتبار احدها لا غيا إنما يدخل بحسب الأصل في سلطة القضاء بحيث لا تهدر حجية الحكم القضائي إلا بواسطة حكم قضائي آخر صادر عن محكمة الطعن أما إذا أغلقت طرق الطعن أبوابها ( أي إذا استنفذت) وظل عيب التناقض رغم ذلك باقياً وصار من اللازم حله فعندئذ يكون إلغاء أحد الحكمين بطريق آخر غير القضاء مسألة مقبولة، بخاصة إذا كان هذا الطريق الآخر هو قوة القانون وهذا ما فعله المشرع اللبناني.
3. يلاحظ أن المشرع اللبناني وقع في إرباك إذ يعاب عليه اعتماده على معايير عدة تجعل حلوله غير متناسقة، فتارة يتخذ من تاريخ صدور الحكم معياراً يرجح على أساسه الحكم الأحدث تاريخاً فيكون هو النافذ ويلغى الحكم الأسبق في التاريخ، وتارة يتخذ من درجة المحكمة التي أصدرت الحكم معياراً يرجح في ضوئه الحكم الصادر من محكمة ذات الدرجة الأعلى ولو لم يكن هو الأحدث في التاريخ .
ومما يؤكد أن المشرع اللبناني وقع في إرباك أن نص المادة (629) من قانون أصول المحاكمات اللبناني قد جاء بحلول تفتقد إلى وحدة التناسق التي يجب أن تهيمن على المسائل القانونية المماثلة إذ جاء بحلول لمشكلة التناقض تستند إلى معايير متعددة، فعندما يقع تناقض بين حكمين صادرين بدرجة أخيرة فإن وسيلة حل التناقض هي الطعن تمييزاً وفقاً لنص المادة (708) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني، وهنا يلحظ أن الطعن تمييزاً استناداً إلى هذه المادة يرد على الحكم الأحدث تاريخاً، فهو الذي يطعن فيه باعتباره صدر مناقضاً لحكم سابق عليه (6).
وإذا تبين هذا التناقض ألغت محكمة التمييز الحكم الأحدث في التاريخ لتناقضه مع حكم سابق فالواضح إذن أن المشرع اللبناني قد يعتد بالحكم الصادر أولاً - الأسبق في التاريخ – وقد يعتد بالحكم الصادر لاحقاً وقد يعتد بالحكم الصادر من محكمة ذات درجة أعلى بصرف النظر عن كونه الأسبق أو الأحدث في التاريخ وهذا اضطراب وإرباك ليس له مبرر (7) .
4. يعاب على المشرع اللبناني تجاهله لقاعدة أن سبق الفصل في نزاع معين يقضي على حق الدعوى بصدده – ينفي المصلحة - بحيث يمتنع الحكم فيه ثانية وإلا وجب إلغاء الحكم الثاني فهذه القاعدة – سبق الحكم في الدعوى - هي التي تشكل الأساس الذي تبنى عليه فكرة حجية الأحكام، وهذه الحجية بدورها تشكل الأساس الذي يجب أن ينطلق منه حل التناقض بحيث يتم احترام أول حكم فصل في النزاع وتلغي الحكم الثاني. والملاحظ أن المشرع اللبناني يعتمد في بعض الأحوال على معيار يعتد من خلاله بالحكم الأحدث في التاريخ، وفي ذلك تجاهل كامل لقاعدة سبق الحكم في الدعوى، بخاصة انه لا يوجد أي مبرر يجعل المشرع اللبناني يتجاهلها، فالفرض أن الأحكام المتناقضة صادرة عن نفس المحكمة أو عن محاكم متساوية في الدرجة.
وحتى حين يعتمد المشرع اللبناني على معيار يعتد من خلاله بالحكم الصادر من المحكمة الأعلى درجة فإن في ذلك أيضاً تجاهل لقاعدة سبق الحكم في الدعوى، إذ ليس هناك ربط بين الحكم النافذ بناء على هذا المعيار وبين الحكم الذي فصل في النزاع أولاً.
فلو فرضنا مثلاً أن الحكم الذي فصل في النزاع أولاً قد صدر من محكمة الدرجة الأولى واكتسب درجة البنات، أما الحكم الذي فصل في ذات النزاع بعد ذلك صادر عن محكمة الدرجة الثانية - الأعلى - واكتسب درجة البنات أيضاً، فإن الحكم الصادر من هذه الأخيرة هو الذي سيرجح ويكون نافذاً طبقاً للمادة (629) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني على الرغم من انه ليس هو الحكم الذي فصل في النزاع أولاً، لهذا كله لا يمكن أن نأخذ بما ذهب إليه المشرع اللبناني إلا إذ اعتمدنا على معيار ترجيح الحكم الأسبق في التاريخ وبقوة القانون (8).
__________
1- أصبحت الفقرة (2) من المادة (708) قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني الفقرة (3) من ذات المادة بعد تعديلها بموجب المرسوم الاشتراعي رقم (20) في 1985/3/23.
2- حلمي الحجار القانون القضائي الخاص، الطبعة الثالثة، ج 2 دون ذكر جهة الطبع، بيروت - لبنان، 1996، ص 409
3- ينظر : موقع المحكمة الخاصة في لبنان الإلكتروني:
https://www.stl-tsl.org/ar/documents/legal-documents/relevant lebanese-law ،
تاريخ زيارة الموقع: 30-6-2023
4- ينظر: المادة (629) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني رقم (90) الصادر عام 1983 وتعديلاته.
5- حلمي الحجار، القانون القضائي الخاص، مرجع سابق، ص325
6- أنور سلطان، قواعد الإثبات في المواد المدنية والتجارية، منشورات زين الحقوقية، بيروت، 2005، ص 39.
7- أحمد خليل، التعارض بين الأحكام القضائية، ط2 ، دار النهضة العربية القاهرة مصر ، 2002 ، ص 193.
8- أحمد خليل، التعارض بين الأحكام القضائية، ط2 ، دار النهضة العربية القاهرة مصر ، 2002 ، ص 194.
الاكثر قراءة في القانون المدني
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة