اللغة الديموطيقية
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 461 ــ 464
2025-11-05
39
لا نزاع في أن اللغة المصرية القديمة لم تكن من السهولة بحيث يمكن كتابتها وقراءتها مثل اللغات الأخرى التي كانت متداولة في العهد البطلمي، ولا غرابة في ذلك فإن هذه اللغة كانت ولا تزال — حتى يومنا هذا — غاية في الصعوبة، فالذين يعرفون هذه اللغة من بين علماء الآثار — وبخاصة في مصر — هم نَفَر قليل جدًّا لا يُعَدون على الأصابع؛ هذا فضلًا عن أنها لم تظهر وتنتشر في مصر إلا في فترة كانت فيها الحضارة المصرية بالنسبة للمدنية الإغريقية شيئًا لا يكاد يذكر؛ ومن أجل ذلك كان تعلُّم هذه اللغة في عصرنا الحاضر لا يُعَد بالموضع الهام لأولئك الذي لا يبحثون إلا عن تاريخ مصر من الوجهة الإغريقية في مصر.
أما تاريخ الشعب المصري في هذه الفترة فقد أصبح ولا يزال يعد كَمِّية مهملة في نظر العالم الغربي الذي لا يبحث إلا عن حضارة الإغريق، أو بعبارة أخرى الحضارة الهيلانستيكية في تلك الحقبة من التاريخ، ولقد كان من نتائج ذلك: أنه في عصرنا الحديث عندما كانت تسفر أعمال الحفر من كشف أوراق بردية بعضها دوِّن بالإغريقية، وبعضها الآخر بالديموطيقية، يُلحَظ أن العلماء الأخصَّائيين في هذا الجزء من التاريخ يتناولون بالفحص والدرس البرديات الإغريقية، ويتركون جانبًا، إلى حدٍّ ما، الأوراق الديموطيقية، ويرجع السبب في ذلك إلى أمرين هامين؛ أولهما: أنهم يعرفون اللغة الإغريقية ويجيدون حلَّ رموزها إلى حدٍّ بعيد، وثانيهما: أنهم كانوا يعتقدون ألَّا طائل من درس هذه الأوراق الديموطيقية؛ لأنها متشابهة في معظمها، وأنها لا تقدِّم للعلم أو الحضارة شيئًا جديدًا يستحق الذكر، وقد نتج عن هذا الرأي أن عددًا كبيرًا من هذه الأوراق لا يزال في زوايا الإهمال وعدم العناية في متاحف العالم، ومن ثَم نشأ عدم الاهتمام بدرس هذه اللغة، ولا أدلَّ على ذلك من أننا نرى أنه قد انقضى حوالي أكثر من قرن من الزمان على نشر أول ورقة إغريقية في «سرابيوم منف» في حين أن ما وجد معها من أوراق ديموطيقية لم ينشر إلا بعد عام 1941 ميلادية، وذلك عندما قام العالم الإيطالي بوطي G. Botti بنشر بعض برديات ديموطيقية من هذا الكنز الذي عثر عليه في سرابيوم «منف»؛ وبهذا قدَّم لنا لمحة خاطفة عن المجتمع الهيلانستيكي الذي كان يعيش في منطقة السرابيوم، وبعبارة أخرى: وضع أمامنا صفحة عن الحياة المصرية الأصلية في هذا الجزء من أرض الكنانة في هذه الفترة.
وعلى أية حال فإن الاهتمام بالشعب المصري، ودراسة تاريخه، وحياته الاجتماعية أخذت تشغل بعض الشيء مكانة في بحوث بعض علماء الآثار، وذلك على الرغم من صعوبة اللغة الديموطيقية التي دُوِّنت بها حضارة المصريين القدامى في تلك الفترة من تاريخهم؛ غير أن الاهتمام بالديموطيقية لم يكن مُحسًّا إلى الدرجة التي كانت تُبذَل في حلِّ متون اللغة المصرية القديمة في العهود التي سبقت ظهور الديموطيقية، أو لحلِّ المتون الإغريقية بمصر في عهد البطالمة وما قبله بقليل، ولا أدلَّ على ذلك من أن المتحف البريطاني قد بدأ يجمع أوراقًا ديموطيقية منذ عام 1834 ميلادية، ومع ذلك فإنه لم ينشر منها إلا بعض وثائق قليلة؛ نشرها العالم الفرنسي «ريفيو» والعالم النمسوي «ريخ» والأثري الكبير «جرفث» وزميله سير «هربرت تومسون».
وقد ظلت الحال كذلك في المتحف البريطاني إلى أن نشر الأثري «جلانفيل» بعض هذه الأوراق عام 1939 ميلادية، وهي التي تحدثنا عنها في الجزء السالف، وفي هذا الجزء من مصر القديمة.
ومن المثال السابق نفهم أنه توجد عوامل قويَّة عاقت الوصول إلى معرفة تاريخ الشعب المصري الأصيل في العهد البطلمي، أهمها كان — كما قلنا — صعوبة اللغة الديموطيقية، يُضاف إلى ذلك قلة العلماء الذين درسوا هذه اللغة وتمكَّنوا من حلِّ رموزها، وفضلًا عن ذلك يُلحَظ أن عدد الوثائق الديموطيقية التي عُثِر عليها حتى الآن يُعَد ضئيلًا إذا ما قرن بما كُشِف عنه من الأوراق الإغريقية الخاصة بهذا العهد. فإذا عرفنا أن هناك أكثر من ثلاثين ألف وثيقة إغريقية يقابلها 2500 وثيقة ديموطيقية تقريبًا كُشِف عنها حتى الآن، وإن الأُولى قد حُلَّت كلها، وإن الأخرى لم يُحلَّ منها إلا جزء يسير؛ تبيَّن لنا السبب الذي من أجله لا يزال تاريخ الشعب المصري الأصيل غير معروف لدينا بصورة محسَّة إذا ما قرن بما نعرفه عن مصر الهيلانستيكية.
وليت الأمر يقتصر على ذلك؛ إذ لدينا فجوة أخرى كبيرة بدأ العلماء في سدِّها، لتساعد على معرفة تاريخ مصر القومي في هذه الفترة؛ وذلك أن اللغة المصرية القديمة، أو بعبارة أخرى: اللغة المقدسة التي كان يستعملها الكهنة ورجال الدين عامَّة في صلواتهم وعباداتهم ومنشوراتهم وفي نقش معابدهم؛ قد دخل عليها عامل جديد قصده رجال الدين، وأعني به عامل الغموض والاحتكار، وتفسير ذلك: أن الكهنة أرادوا أن يقصروا هذه اللغة على أنفسهم، ومن ثَم أخذوا يعبِّرون عن صلواتهم وشعائرهم برموز تختلف في كثير من الأحيان عن تلك التي كان يستعملها المصريون القدامى في نقش معابدهم وفي شعائرهم، لدرجة أن لغة هذا العصر قد أصبحت من الصعوبة بمكان، وأن الذي يعرف اللغة المصرية القديمة جيِّدًا لا يفهم منها إلا القليل، وربما كانت قراءته لها خاطئة، ومن أجل ذلك أخذ علماء الآثار يوجِّهون عناية خاصة لدرس اللغة المصرية القديمة، أو بعبارة أخرى: لغة المعابد ورجال الدين في ذلك العهد بصورة جِدِّية.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن الذين اهتموا بهذه الدراسة قليلون جدًّا، وهم وأولئك الذين يدرسون اللغة الديموطيقية سواسية من حيث العدد، ومن أجل كل ذلك نجد أن المؤرخين الذين أرادوا كتابة تاريخ مصر من الوجهة القومية البحتة قد ألقَوا بأقلامهم عندما اعترضتهم هذه الصعوبات التي لا قِبَل لهم بها في عهد البطالمة، بل تركوا المجال للمؤرخين الهيلانستكيين، وذلك — كما قلنا — لأن مصادر التاريخ المصري القومي القُحَّ قد أعوزهم فهمها، ولا تزال تعوزهم حتى الآن إلى درجة كبيرة جدًّا؛ يضاف إلى ذلك: أن المدنية الهيلانستيكية قد غطَّت على المدنية المصرية وقتئذٍ بما كان لأهلها من علوم وآداب وفلسفة خيَّمت على كلِّ ما سواه في تلك الفترة، وذلك بتشجيع من ملوك البطالمة الذين كانوا في ظاهرهم فراعنة، وفي باطنهم مقدونيين ذوي ثقافة هيلانية بحتة، لدرجة أنه لم يصادفنا حتى الآن ملك من هؤلاء البطالمة كان يعرف اللغة المصرية القديمة؛ هذا إذا استثنينا الملكة «كليوبترا» التي خُتم بها عهد البطالمة، فقد قيل: إنها كانت تتكلم المصرية أي الديموطيقية.
والواقع أنه حتى يومنا هذا لم يحاول مؤرخ واحد كتابة تاريخ مصر من الوجهة القومية المصرية في عهد البطالمة، بل كل ما كُتِب ينحصر في تاريخ الإغريق في مصر دون الإشارة بصورة جدية إلى الدور الذي لعبه الشعب في تلك الفترة الطويلة من تاريخ أرض الكنانة؛ ومن أجل ذلك أصبحت العناية بدرس اللغة الديموطيقية ودرس النصوص المصرية القديمة في عهد البطالمة من الأهمية بمكان من الوجهة القومية؛ من أجل ذلك أصبح من الواجب على من أراد أن يتتبع خيوط المدنية الفرعونية التي تظهر للقارئ العادي أنها قد قُطِّعت، وتفكَّكت عُراها بحلول البطالمة ومعهم مدنيتهم الهيلانستيكية في مصر؛ تعلُّم اللغة الديموطيقية، ومنذ عهدٍ قريب أظهر بعض علماء اللغة المصرية عامةً ميلًا عظيمًا لدرس اللغة الديموطيقية، وكذلك درس اللغة المصرية الخاصة بعهد البطالمة، وما ذلك إلَّا لأنهم وجدوا أن درس هاتين اللغتين يقدِّم معلومات ثمينة لمعرفة حياة الشعب المصري من كل الوجوه في هذا العهد الطويل؛ هذا بالإضافة لما نعرفه من المصادر الإغريقية، وما كتبه لنا المؤرخون القدامى بوجه عام.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة