الأسباب السياسية للفساد الاداري
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 129-142
2025-10-30
61
أن الفساد السياسي من أهم أنواع الفساد، لذلك يعتبر سبباً رئيساً للفساد الإداري، بالإضافة إلى أسباب سياسية أخرى نتناولها على النحو الآتي:
أولاً: الفساد السياسي Political Corruption
يعتبر الفساد السياسي أساس كل أنواع الفساد، بل هو أهم أسباب الفساد الإداري، ويؤدي حتماً إليه، فالعمل الإداري يتم ضمن البيئة السياسية ووفق إطارها الرسمي، والعاملون في مجال الإدارة مقيدون برقابة عليا تشريعية وقضائية وإدارية وغياب هذه الرقابة وفساد الساسة يسهل الانحراف في سلوك العاملين ويزيد من خرق القوانين ويوفر فرص الإفلات من العقاب (1) .
وهنا يستشري الفساد ويختفي الولاء لأجهزة الدولة لأن فساد القمة سرعان ما يستشري ويتسرب للمستويات الأدنى التي تحتمي بقيادتها المتورطة معها، وقد يؤدي ذلك إلى تبني الأفراد قواعد سلوكية منحرفة انسجاماً مع السلوك المتردي لجهاز الدولة، حيث يفقدون إيمانهم بعدالة الدولة ويشكلون ضغطاً على العاملين وبكل الوسائل للانحراف (2).
ويشكل الفساد السياسي قمة الهرم بين أنواع الفساد الأخرى وهو الأخطر حيث أنه يؤدي إلى فساد أجهزة الدولة جميعها، وأن أي فساد مالي أو إداري أو اجتماعي هو فساد سياسي بالدرجة الأولى، فنهب المال العام والخاص، وانعدام سيادة القانون أو سيادته على المغلوبين على أمرهم فقط، يأتي من واقع تركز السلطة السياسية في أيدي مجموعة محدودة تختزل في ذاتها السلطات جميعا (3).
ولا يقتصر الفساد السياسي على رئيس الدولة، بل يشمل كل مفاصل الدولة العليا، الوزارة، البرلمان القضاء، المؤسسة العسكرية، وصولاً إلى الأجهزة الإدارية المختلفة، وتنشأ طبقة - اوليغارشية - يسمح لها مقابل ولائها للسلطة أن تمارس كل أشكال النهب وتجاوز القانون والتعدي على ممتلكات الدولة واغتصاب المال العام (4).
وتكمن الصعوبة في التحقيق في هذا النوع من الفساد، ذلك أن العاملين في المستويات العليا للدولة يتمتعون بامتيازات تنسجم مع واجباتهم الخاصة التي يقومون بها وهي واجبات ذات علاقة بأسرار الدولة وإدارة السياسة الوطنية، ويسود الاعتقاد في كثير من الأحيان بأن المصلحة العامة تتحقق على نحو أفضل عندما تبقى الشؤون العامة بعيدة عن نظر الأفراد، وأن اطلاعهم عليها يضر بمصالحهم ومصالح الدولة، كما أن الآثار المتبقية لقداسة السلطة في أغلب دول العالم تلعب دوراً مهماً حيث ينظر إلى المسؤول الحكومي بأنه ذو مرتبة أعلى من رجل الشارع العادي أو من الشخص الذي يشغل منصباً متواضعاً وبخاصة إذا كان منصب المسؤول الحكومي يمثل رمزاً للسيادة الوطنية(5).
إن الفساد الإداري كثيراً ما يحدث بسبب المناخ السياسي السيئ، وإتباع بعض الدول إيديولوجيات تتعارض أو تتفق جزئياً مع القيم الاجتماعية والتعاليم الدينية، ولقد أنعكس ذلك على الاستقرار السياسي في معظم دول العالم وخاصة الدول النامية منها (6).
كما إن الظروف السياسية بما فيها من غياب للديمقراطية أو تعسف أو استبداد أدت إلى حرمان الكثير من المواطنين من المشاركة في إبداء الرأي ومن ثم المساهمة في رسم السياسات العامة، وغالباً ما يكون الفساد السياسي سبباً في تغيير الأنظمة السياسية مما حدا بالبعض القول بالفساد النافع، وهو الذي يمكن من خلاله الدخول غير العنيف إلى شؤون الحكومة والإدارة حينما تكون القنوات السياسية مسدودة (7).
إن فساد القمة سبب رئيسي في انتشار ظاهرة الفساد الإداري، لأن سياسة إثراء الحكام على حساب إفقار المواطن تدفعه بشكل أو بآخر للبحث عن أية وسيلة أما للانتقام من الدولة، وأما تعويضاً عن إحساسه بالظلم أو الغبن وأما للحصول على مصدر مالي لسداد حاجاته اليومية (8).
ذلك إن مدى خطورة فساد القمة كصورة من صور الفساد السياسي لما تشكله من لبنه أساسية ترتكز عليها لبنات الهرم السياسي الأخرى للدولة (9) . فإذا ما كانت هذه اللبنة الأساسية قد ضربها الفساد فأنها لا محالة تتحول من كتلة صلدة إلى كتلة هشة يمكن أن تنهار في أية لحظة وبانهيارها ينهار البناء كاملا ومن الصعوبة بمكان أصلاحه بجهد يسير (10).
ثانياً: عدم الاستقرار السياسي Non Political Stability
إن الاستقرار السياسي كما يراه - ايكستين - هو استمرارية البناء الحكومي عبر فترة طويلة من الزمن وقدرة النظام السياسي على إصدار قوانين وأنظمة، وتخفيض درجة العنف السياسي إلى حد ممكن وعلى اتخاذ قرارات تتناسب مع المطالب المقدمة إليه وعلى تنفيذها (11).
ويمكن القول أن أغلب الدول النامية تعاني من عدم الاستقرار السياسي نتيجة التغير السريع في عناصر السلطة الحاكمة من خلال الانقلابات والاضطرابات المتكررة التي تتعرض لها هذه الدول، في حين نجد أن مؤشرات الاستقرار السياسي ترتفع في الدول الغنية مثل ( الولايات المتحدة، بريطانيا، استراليا، كوريا الجنوبية) (12) . فقد بلغ عدد الانقلابات العسكرية في أفريقيا للفترة من 1950 - 1985 "49" انقلاباً (13)، وفي أمريكا اللاتينية بلغت خلال القرن التاسع عشر 535 " انقلاباً، أدت بالفعل إلى تغيير نظم الحكم والاستيلاء على السلطة (14).
ويشير البعض الى (أن كثيراً من الأنظمة السياسية في الدول النامية قد انهارت لأسباب ذات علاقة عضوية بانحراف الخدمة المدنية، فاذا ما رجعنا الى البيانات الاولى لمائة ثورة وانقلاب لوجدنا ما يقارب %99 منها تشير الى القضاء على تفسخ الموظفين وانحراف الإدارة)(15) ، وقد شهد العراق عدة انقلابات عسكرية فشل بعضها في الاستيلاء على السلطة، ونجحت أخرى وسميت " ثورات" وهي في الواقع انقلابات عسكرية قام بها الجيش للاستيلاء على السلطة وأهمها 14 تموز 1958 و 8 شباط 1963 و 17 تموز 1968، وأدت هذه الانقلابات بشكل أو بآخر إلى عدم الاستقرار السياسي.
كذلك يكون عدم الاستقرار السياسي نتيجة الحروب الأهلية والحركات الانفصالية حيث تواجه بعض الدول النامية انقسامات داخلية عرقية وقبلية ودينية مع عجز الأنظمة السياسية القائمة على تسوية هذه المشاكل، وتتضح هذه الصورة في لبنان أثناء الحرب الأهلية وأفغانستان والصومال وجنوب السودان في الوقت الحاضر والمنطقة الكردية شمال العراق أيام النظام السابق - وللعنف السياسي (Political Violence) دور مهم في هذا المجال والذي يأخذ صوراً متعددة من أعمال شغب واغتيالات سياسية ومظاهرات، ومن أهم العوامل المؤدية لذلك هي السياسة الاستعمارية عند تقسيم هذه الدول، فقد عمد إلى خلق خطوط التفرقة بين الشعوب فتعددت الجماعات العرقية والقبلية والدينية والتي لا يربطها من حيث الواقع شعور قوي بالانتماء إلى مجتمع سياسي واحد يمثل حقيقة كلية تطغى على الولاءات الضيقة لأي من هذه الجماعات، بالإضافة إلى وجود طبقات اجتماعية تقليدية ترفض محاولات التطور السياسي والاجتماعي التي تقوم بها الفئات الواعية سياسياً (16).
وإذا كان النظام السياسي يرتبط بجميع الأنظمة الاجتماعية وأن نظام الإدارة العامة هو أكثر الأنظمة ارتباطاً وخضوعاً للنظام السياسي، فيتضح لنا أن عدم الاستقرار السياسي يساعد على انتشار الفساد الإداري في الحالات الآتية:
1. إن الهيكل التنظيمي للجهاز الإداري في الدولة لم يستقر، حيث تلغى أو تدمج بعض الوزارات وبعض مؤسسات القطاع العام في كل عهد جديد تبعا للأهواء والمصالح الشخصية للقيادات السياسية، مما يخلق فوضى إدارية نتيجة هذا الإلغاء وهذا الدمج، أو عدم التنسيق بين القرارات السياسية (17). وهذا ما حدث في العراق بعد 2003/4/19 ، حيث حلت وزارات (الدفاع، الثقافة والإعلام، الحكم المحلي، التصنيع العسكري، وكيانات أخرى المخابرات العامة، مديرية الأمن العام ديوان الرئاسة) بأمر من الحاكم المدني " بول بريمر " (18). وشطرت أخرى مثل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى (ديوان الوقف السني وديوان الوقف الشيعي ) واستحدثت غيرها، وإذا كانت بعض الوزارات أو الهيئات مرتبطة بالنظام السابق، فأن أخرى لها وجودها قبل ذلك حتى وإن تأثرت بالسياسة السابقة، فالجيش العراقي تأسس عام 1921، وإن حله خلق فراغاً أمنياً وسياسياً أثر بشكل مباشر على الوضع السياسي والأمني والإداري.
2. إبعاد العناصر الإدارية غير المرغوب بها سياسياً حيث يقوم كل عهد جديد بتطهير الجهاز الإداري من الموظفين غير الموالين له، ومع توالى العهود لم يبق في الجهاز الإداري إلا العناصر التي تنقصها الخبرة والكفاءة، وأن الشهادات العلمية إن وجدت فأنها لا تعنى أكثر من تذكرة دخول الى الجهاز الإداري دون أن يكون لها مدلول يتصل بالخبرة والكفاءة والاختصاص ، وهذا يعني أن إشغال الوظائف العامة يتم على أساس الولاء وإتباع النظام الجديد وليس على أساس الكفاءة والجدارة، مما يؤدي إلى انتشار الوساطة والمحسوبية والمحاباة (19).
وقد ذكرنا في الفصل الأول أن كل نظام سياسي جديد في العراق، يصدر قانوناً يسمى (قانون تطهير الجهاز الحكومي) ليستخدمه وسيلة قانونية في إقصاء غير الموالين له أو الذين يتوقع فيهم عدم الولاء بحجة أنهم فاسدون، وآخر هذه القوانين - قانون اجتثاث البعث (20) الذي استند على معيار شكلي في إقصاء البعض من وظائفهم وهو الدرجة الحزبية دون الأخذ بنظر الاعتبار الجانب الوظيفي - الشهادة العلمية، الخبرة، مدة الخدمة... الخ (21) . الأمر الذي شكل نقصاً في بعض الاختصاصات وكذلك استغلاله في أبعاد الكثيرين مما أضطر الدولة الى إعادة النظر في القانون من حيث استثناء البعض، وأخيراً صدر قانون جديد حل محله هو قانون المساءلة والعدالة رقم 10 لسنة 2008 الذي أعاد البعض من الذين تم إقصائهم الى الخدمة وإحالة الآخرين على التقاعد.
3. عدم استقرار النظام الإداري وبخاصة في الدول النامية التي تربط تغيير خطة التنمية الإدارية بأشخاص الوزراء الذين يختارون لاعتبارات سياسية دون النظر إلى اعتبار مدى إدراكهم لأهمية التنمية الإدارية ومتطلباتها من جهة والى سرعة تغييرهم الذي يؤدي إلى سرعة معدلات تغيير السياسة الإدارية العامة وعدم ظهور نتائج ايجابية لأي منها من جهة أخرى وهذا ما يؤدي إلى الإسراف العام (22). وهذا ما يحصل في العراق بعد كل تغيير سياسي، حيث يعين الوزراء لاعتبارات سياسية، وما جرى العمل به بعد 2003/4/9 ولغاية الآن، فقد تم تشكيل الوزارة الأولى في تموز 2003 أثناء فترة مجلس الحكم على أساس المحاصصة الطائفية والقومية والدينية، وليس على أساس الكفاءة والخبرة والتخصص، وكذلك الوزارة الثانية (وزارة د. أياد علاوي) التي تشكلت في 6/28/ 2004 ، والوزارة الثالثة (وزارة د. إبراهيم الجعفري التي تشكلت بعد الانتخابات التشريعية الأولى التي جرت في 30/ك2005/2/ والوزارة الرابعة (وزارة نوري المالكي) الحالية التي تشكلت بعد انتخابات 15 / ك1 / 2005. ومن الطبيعي أن المحاصصة قد سرت في كل مفاصل الدولة من الوزير الى أصغر موظف مما خلق ولاءات للجانب الحزبي أو العرقي أو الديني أو الطائفي على حساب الولاء للوطن، وهذا خطأ كبير دفع ويدفع ثمنه العراق لأجيال أخرى.
4. إن عدم الاستقرار السياسي والذي عادة ما تواجهه الحكومات النامية بالقمع، يعرقل محاولتها للاقتراب من المفهوم الديمقراطي، لأنه يعكس عدم مرونة الهيكل النظامي وعدم قدرته على التلاؤم مع التغيرات الناشئة في المحيط الاجتماعي(23).
5. حدوث اضطراب وفوضى أمنية تساهم بشكل فاعل في انتشار الفساد الإداري، ذلك أن المسؤولين عن مكافحته يخشون على حياتهم ويضطرون الى السكوت أو ترك العمل في هذا المجال، أما المواطن العادي أو الموظف غير المسؤول فغالباً ما يكون حيادياً.
إن عدم الاستقرار السياسي في العراق حالياً مشكلة كبيرة ، فهو سبب الوضع الأمني السيء والخطير، والذي ساهم بدوره بشكل مباشر في انتشار ظاهرة الفساد الإداري من خلال تصفية أو تهديد كل من يحاول ملاحقة الفاسدين (24) ، وكذلك من خلال سعي الفاسدين الى تقوية نفوذهم فيعمدون إلى جمع أكبر حجم من الأموال وغسلها وتوريط أكبر عدد من الموظفين والمواطنين.
ثالثاً - اختلال التوازن بين المؤسسات السياسية :-
ومن صور هذا الاختلال ما يأتي:
1. شخصنة أو فردية السلطة Personalization ، ويقصد بها أن تكون السلطة مجسدة في شخص الحاكم بحيث يصبح الاثنان تعبيراً عن حقيقة واحدة، وهنا لا ينظر إلى السلطة على أنها مؤسسة وإنما شخص فالحاكم هو الذي يصنع كافة القرارات والسياسات ويحدد وسائل تنفيذها، ولا يسمح بأية مشاركة حقيقية من جانب المجتمع المحكوم ، ولكنه قد يسمح بمشاركة شكلية لإضفاء طابع مصطنع من الشرعية على احتكاره للسلطة، ويعمل الحاكم دائماً بصورة فعالة للاحتفاظ بالسلطة (25) . وتنتشر هذه الصورة في عدد غير قليل من الدول النامية(26) ، ويرجع ذلك إلى سمات العملية السياسية في هذه النظم، وقيام الحكم بتكوين شبكة من العلاقات الشخصية والحكم الرعوي، حيث تترابط هذه الشبكات وتلتقي حول محور ثابت وهو توزيع واقتسام المناصب السياسية والإدارية واقتسام الغنائم التي يتم استنزافها من المال العام، ويؤدي الحكم بهذه الطريقة إلى عدم فاعلية الإجراءات التي يتخذها الحاكم في مواجهة تورط القادة الإداريين في استغلال مناصبهم لتحقيق مصالح شخصية، مما يؤدي ذلك إلى انتشار مظاهر الفساد على كافة المستويات السياسية والإدارية في الدولة(27).
ومثال ذلك هو حكم دوفاليه في هايتي، وسياد برى في الصومال، وموبوتر في زائير الذي منذ توليه الحكم عام 1965 ، قد عمل على تقوية سلطاته الشخصية وقبضته على الحكم فأصبح يملك وحده السلطة العليا في كل مؤسسات الدولة والحزب، فقد كان رئيساً للدولة ومجلس الوزراء والبرلمان ومجلس القضاء الأعلى والمكتب السياسي للحزب، وهو الذي يعين أعضاء هذه الهيئات، وكانت أفكاره المذهب الرسمي للدولة، وكلماته لها قوة القانون، وبهذا فأن نظامه شجع على تكوين طبقة طفيلية انتهازية تتكون من البيروقراطيين وضباط الجيش من الرتب العليا وغيرهم من كبار المسؤولين من حاشيته وإتباعه الذين يعتمدون على شخصه في تحقيق رفاهيتهم وتضخم ثرواتهم، وتمكن أفراد هذه الطبقة التي عرفت باسم (الأسرة الرئاسية) من جمع ثروات طائلة بسبب ما تمتعوا به من حصانات ونفوذ، وساعد وجودهم على استشراء الفساد في جميع المجالات وعلى المستويات كافة (28).
2. الاختلال الوظيفي بين المؤسسات السياسية: ويقصد به وجود بعض المؤسسات القوية في ظل ضعف مؤسسات اخرى، فمن الملاحظ أن غالبية الدول النامية يسود فيها طغيان السلطة التنفيذية على باقي السلطات والمؤسسات السياسية الأخرى في الدولة، ويرجع ذلك الى العديد من العوامل مثل :-
غياب التنظيمات السياسية الفعالة، واعتماد الدولة على السلطة التنفيذية في تحقيق اهدافها، وآثار الحكم الاستعماري الذي كان سائدا في الدول النامية قبل استقلالها وسمات الادارة عبر تطورها التاريخي وهي الولاء القومي لصاحب السلطة والالتفاف حوله والتركيز الكبير في السلطات واحاطة الجو الاداري بمجموعة من الرموز التي تؤكد البيروقراطية في المجتمع (29).
ويترتب على ذلك ان الجهاز الاداري التنفيذي في ظل نفوذ السلطة التنفيذية قد يؤدي الى تقليص دور السلطة التشريعية وغياب العمل السياسي المعبر عن الجماهير، بجانب شعور الاداريين بالتفوق وانهم اصحاب السلطة وينظرون الى المواطن على انه ليس صاحب حق في طلب الخدمة المدنية، وانما احد التابعين أو الرعية التي يستجدي هذه الخدمة من رجل قوي (30).
وقد تأكد ذلك في احدى الدراسات المسحية في الفلبين، حيث أثبتت أن 75% من المواطنين يسلمون بهذه الحقيقة في تعاملهم مع الادارة وأن 67% من الاداريين يعتقدون أنه بدلاً من تقديم الخدمة على أنها واجبهم، فأنهم يعتبرونها منحة أو خدمه يتفضلون بها على المواطنين ولهم الحق في الحصول منها على مقابل نظير ذلك (31).
بالإضافة الى ما سبق فأن الجهاز الاداري باستخدامه الاساليب المكتبية وفي حالة غياب الرقابة السياسية عليه يمكن ان تتجمد عملياته وتنعزل عن الواقع الذي توجد فيه وتميل الى التعقيد والبطء وهذا ما يهبط بكفاءة الجهاز الاداري ويجعله غير مقبول وتسمى هذه الحالة (البيروقراطية)، وبالتالي فأن مظاهر الفساد الإداري تجد لها مكاناً في أجهزة الادارة العامة في هذه الدول(32).
3. الاختلال الوظيفي للمؤسسات السياسية غير الرسمية - و يقصد بها كلا من الاحزاب السياسية Political Parties وجماعات المصالح Interests Groups، وترجع أهمية هذه المؤسسات الى دورها في العملية السياسية، فهي تقوم بتوفير قنوات الاتصال بين قمة النظام السياسي وقاعدته، والتعبير عن الآراء والمطالب والمصالح، أو المشاركة الشعبية في العملية السياسية والادارية، ولكن الواقع في الدول النامية أما غياب مثل هذه المؤسسات وأما الضعف وعدم الفعالية، حيث يكون ذلك عاملا مساعدا لظهور الانحراف في اجهزة الادارة العامة ويمكن تفسير ذلك على النحو الآتي:- (33)
أ. إن نشاط الاحزاب واتجاهاتها ومناهجها يكون ذا أثر بالغ على الادارة، فنشاط الاحزاب قد يدفع بالادارة الى التقدم وحسن الأداء او قد يؤدي الى عكس ذلك ويكون عبئا ثقيلا عليها، فقد تستطيع ان تستخدم نفوذها وتأثيرها في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً في وضع وتنفيذ السياسة العامة والمحلية، فبمواجهة السلطة التشريعية تستطيع ان تستخدم بشكل مباشر أساليب المناورة والتعطيل والمعاكسة للحيلولة دون تمرير سياسات او تشريعات معينة مدفوعة في ذلك بمصالحها واتجاهاتها الخاصة، وفي مواجهة السلطة التنفيذية تضغط بواسطة الرأي العام الذي تحاول جاهدة ان تضعه في حاله نفسية أو سياسية معينة وتدفع به الى قبول أو معارضة السياسات المعمول بها(34).
ففي بعض الدول التي تأخذ بنظام الحزب الواحد، يقوم الحزب بأضعاف الرقابة التشريعية على اجهزة الادارة العامة وقد تفقد السلطة التشريعية قدرتها على العمل السياسي لاندماجها بين اجهزة ومنظمات الفرع الاداري ومن ثم تحويلها الى منظمات ادارية بيروقراطية، ومن جانب اخر غياب المنافسة السياسية الحقيقية. وفي بعض الدول فان الاحزاب السياسية في ممارساتها لشؤون الحكم تعمل على شغل الوظائف الرئيسية في الدولة بالأنصار والاقارب دون النظر الى ما يتمتعون به من كفاءات وقدرات وهذا بدون شك يؤثر على الادارة ويكون في كثير من الاحيان معول هدم يؤدي الى فشل الادارة في تحقيق الاهداف المرجوة، بالإضافة الى ان الحزب يفرض مبادئه ويتدخل في شؤون الموظفين من ترقيات جزاءات تأديبية(35).
ومن الأمثلة على ذلك الحزب (الغيني الديمقراطي)، حيث تخضع تعيينات الموظفين لرقابة لجان الحزب التي قد ترفض ما يقترحه الوزراء من تعيين بعض الموظفين على اساس ان المرشح للوظيفة بغض النظر عن مؤهلاته وكفاءته المهنية يتسم بسوء السلوك السياسي، أو لأنه غير مخلص للخط الديمقراطي للجماهير ومن ثم فان المعيار الأول في اختيار الموظفين هو اخلاصهم للخط السياسي للحزب وما عدا ذلك من صفات فأنه يتراجع الى المقام الثاني، وهذا له آثار سلبية على العمل الاداري وكفاءة الاجهزة الادارية في هذه الدول(36).
ولدينا مثال واضح في العراق خلال حكم النظام السابق، حيث لم يعين أي شخص بمنصب اداري اذا لم يوافق عليه حزب البعث، بل وصل الامر في التسعينيات وحتى سقوط النظام أنه لم يعين أي شخص في أي وظيفة الابعد حصوله على تأييد من احدى منظمات الحزب (37).
ولم يختلف الأمر الآن فلا يعين شخص في بعض المناصب الإدارية إلا من خلال ترشيحه من أحد الاحزاب السياسية الموجودة، بل أن الأحزاب تدخلت في التعيينات لصغار الموظفين، فالحزب الذي يسيطر على وزارة او دائرة لا يقبل تعيين من لم يعلن له الانضمام او الولاء (38).
ومن ناحية اخرى فأن الاحزاب السياسية في هذه الدول احيانا لا تملك هياكل بالمعنى الحقيقي، بل هي مجرد تجمعات شخصية تتكون من زعيم قبلي او سيد اقطاعي او رجل اعمال ثري تحيط به مجموعة من المنتفعين ومحترفي السياسة - او رجل دين - وتفقد المساندة الجماهيرية ولا تؤدي وظائفها كأحزاب سياسية، وتعتمد في تمويلها على اعانات الحكومة او الاموال التي تحصل عليها من رجال الاعمال والبنوك والشركات سواء في الداخل والخارج (39).
او تستقطع نسبة من راتب او مخصصات النائب الذي يفوز في الانتخابات من خلال قائمة الحزب كما هو الحال عندنا في العراق حيث اصبحت هذه الظاهرة معروفة لدى الجميع، بل أن مساومات واتفاقات تجري اثناء الترشيح حول ذلك. ونضيف بالقول أن حرية العمل السياسي في العراق التي اطلقت بعد 9-4-2003 قد انتجت احزاباً لا تمتلك ايديولوجية معينة أو حتى تنظيم واضح ومحدد، ناهيك عن مصادر التمويل التي ذكرناها،
اما الاهداف فهي الوصول للسلطة كغاية فقط وليست غاية ووسيلة وبذلك تفقد معظمها عناصر الحزب(40). فقد صرح رئيس الوزراء نوري المالكي من خلال وسائل الإعلام أثناء تطبيق الخطة الأمنية في محافظة البصرة - آذار / 2008 بأن هناك أحزاب هي في الواقع (عصابات) حيث يستطيع مجموعة من الأشخاص تأسيس حزب تحت أسم معين.
ب. أما جماعات المصالح فإنها تختلف من حيث وضعها القانوني والوسائل التي تمارس بها نشاطها ونفوذها من دولة إلى أخرى، ولكن الواقع السياسي في الدول النامية يقدم تصورا مختلفا لأن الجهاز الإداري يقوم بفرض سيطرته وإرادته ورقابته على هذه الجماعات بدلا من تعبئتها لعدة أسباب أهمها:-
1. إن تكوين وإنشاء جماعات المصالح يتم بناء على مبادرة من الأجهزة الإدارية ذاتها وليس بناء على احتياجات المواطنين.
2. ميل الجهاز الإداري إلى المركزية ورفضه لمختلف أشكال اللامركزية يدفعها إلى الشك في أية جماعات مصالح تتشكل مستقلة عنه.
3.مساهمة الجهاز الإداري في تمويل هذه الجماعات ماليا مما يسبغ فرض رقابة عليها بصفة شرعية، بحجة ضمان حسن استثمار هذه الأموال.
4. استئثار الجهاز البيروقراطي بالقيادات المثقفة الساعية إلى التحديث والتنمية بمجرد نزوحها إلى المدن الرئيسية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن القيادة السياسية والإدارية في المستويات العليا تتدخل في اختيار وإقصاء جماعات المصالح، مما يؤثر على فاعلية هذه الجماعات في أداء وظائفها، وهي القدرة على تجميع المطالب والتعبير عنها ونقلها الى صانعي القرار، ومن هنا توجد منطقة فراغ سياسي تقع بين مرحلة صنع القرار ومرحلة التنفيذ الفعلي وتشكل الأرضية التي يتحرك عليها الانحراف، فإذا كان تأثير جماعات المصالح في الدول المتقدمة عادة يأخذ شكل سياسات فانه في الدول النامية وفي ظل الضعف النسبي لجماعات المصالح فأنه يتم في مرحلة التنفيذ ويأخذ شكل الانحراف(41).
رابعاً: غياب وضعف الاندماج الاندماج Integration هو عملية تحقيق التجانس والانسجام داخل الجسد الاجتماعي والسياسي وتخطي الولاءات الضيقة وغرس الشعور بالولاء والانتماء للدولة ولمؤسساتها المركزية وإيجاد شعور مشترك بالتضامن والهوية الموحدة (42).
وتشكل أزمة الاندماج بعض المظاهر التي تكون لها انعكاساتها على الانحراف في أجهزة الإدارة العامة في الدول النامية بسبب مجموعة من العوامل الثقافية والإقليمية والتاريخية والاقتصادية، ومن أهم هذه المظاهر ضعف الولاء القومي حيث يكون الولاء للأسرة أو القبيلة أو العشيرة أو الحي، وتواجه أهداف الوظائف العامة التحدي من بعض التصورات التي تتمثل في الالتزامات التي تربط الموظف بعائلته أو قبيلته أو الحي الذي يسكن فيه والتي تتدخل في سلوكه الوظيفي عند تعيين الموظفين، وغير ذلك من القرارات التي تختص بتقديم خدمة للجمهور وهذا دافع قوي لانتشار الفساد في هذه الدول بصورة المحاباة والمحسوبية، فالموظف الأفريقي – مثلا - عندما يكون في وضع يتيح له تعيين أقاربه في الوظائف العامة لا يعتبر هذا السلوك انحرافا، لأنه في هذه الحالة يخضع لنوع من الالتزام. وهذا الظاهرة موجودة الآن في العراق، فالمسؤول الناجح اجتماعياً في نظر البعض هو من يستطيع تعيين أقاربه ومحسوبيه، أو يعلن ولائه للحزب أو الطائفة الذين ينتمي لهما، وخلاف ذلك فهو فاشل في نظرهم. أما المظهر الثاني لأزمة الاندماج، فهو ضعف فكرة المصلحة القومية، لأن فكرة الأمه بدورها فكرة جديدة، ولذلك تصبح المؤسسات وموظفو الدولة بعيدين عن الأفراد، كما إن العمل بالمؤسسات مسألة جديدة بالنسبة للموظفين المدنيين والسياسيين على السواء، فهم لا يدركون سوى أغراضها الرسمية، وأنها مصدر يتيح لهم تحقيق الهيبة والقوة، وبسبب أصلها الأجنبي فإنهم لا يثقون بها، ومن ثم يرى كثير من الناس أن الدولة وهيئاتها تتطابق مع الحكم الأجنبي ولذلك تعتبر أدوات للسلب والنهب وليست أدوات لتحقيق المصالح العامة، والى جانب ذلك يرى طالب الخدمة أن الدولة وهيئاتها مصدر للتعليمات المعقدة وغير المفهومة ومصدر دائم للتهديد بالعقاب، ولذا يتخذ أي إجراء لحماية نفسه وقضاء مصالحه بالبحث عن الوساطة أو تقديم الرشوة (43)
وهذا ما نلاحظه الآن في العراق وهو ضعف الولاء للدولة ومؤسساتها ويكون الولاء للحزب أو القبيلة أو القومية أو الطائفة وهذا ناتج من عوامل كثيرة أهمها شعور الموظف في ظل النظام السابق بأنه محروم من حقوقه وأن الدولة ليست سوى مصدر عقاب، ثم ازدادت هذه العوامل بعد سقوط النظام السابق حيث أصبح الصراع على السلطة والمناصب والمال واضحاً مما دفع الفرد أن يعطي ولاءه لمن يمده بالقوة والحماية بسبب ضعف الدولة ومؤسساتها نتيجة الاحتلال الأجنبي وبناء المؤسسات الرسمية على أسس غير سليمة.
خامساً: الحروب والأزمات Wars & Crises
لا شك أن للحروب آثار مدمرة على كافة الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية ومن الطبيعي أن تتأثر بذلك الإدارة كمحصلة نهائية للآثار السلبية المذكورة ، فالحرب تنهك الاقتصاد وبالتالي تسبب مشاكل اقتصادية مثل: الركود الاقتصادي، التضخم النقدي، البطالة... الخ، وهذه المشاكل هي بالأساس أسباب للفساد الإداري، وتأثيرها على الجوانب السياسية والقانونية كبير ، لأنها تستوجب إصدار الكثير من التشريعات الاستثنائية التي تقيد الحريات، الأمر الذي يؤدي بالأفراد الى التفكير في التخلص من هذه التشريعات بالالتفاف عليها مما يشكل من الوجهة القانونية حالات فساد أما على الصعيد الاجتماعي فأن الحرب تتسبب في وفاة وفقدان وإعاقة الكثير من المواطنين جراء العمليات الحربية مما يؤدي الى حالات نفسية وردود أفعال سلبية لدى عوائلهم تجاه السلطة.
ومن هنا يمكن القول أن الحرب تولد عدة أسباب للفساد الإداري، فقد مربنا فيما تقدم كيف أن ظاهرة الفساد الإداري قد نشأت في العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية، التي ساهمت بشكل كبير في اضعاف القدرة الاقتصادية لكلا البلدين و مثلت نموذجاً فريداً من الحروب الطويلة التي شهدتها منطقة الشرق الاوسط، اذ استمرت ثماني سنوات واسفرت عن خسائر كبيرة سواء الاقتصادية او البشرية فقد بلغت الخسائر البشرية لكلا الطرفين مئات الآلاف، وبلغت التكلفة الاجمالية لها مليارات الدولارات وكانت تستهلك سنويا 60% من الناتج القومي الاجمالي الايراني و %112 من الناتج القومي الاجمالي العراقي وعلى الرغم من ان العراق قد اعتمد على العائدات النفطية في تمويل الحرب الا انه بعد فترة اصبح عاجزاً عن تدبير نفقات الحرب واضطر إلى إيقاف خطة التنمية التي اعلنتها الحكومة عام 1981-1985 (44) وتصاعدت نسب الفساد الإداري بعد حرب الخليج عام 1991، ثم وصل الى مستويات مرتفعة جداً بعد الحرب الأخيرة عام 2003، وما زالت آثار تلك الحروب مستمرة بسبب تواجد القوات الأجنبية وما تقوم به من عمليات عسكرية وتدخل مباشر في كل مفاصل الدولة. ويذكر البعض أن نكسة حزيران عام 1967 أدت الى مظاهر الانحلال واهتزاز المعايير في المجتمع المصري والتي أثرت بدورها على سلوك الأفراد وميلهم الى الانحراف وضعف الثقة بالنفس (45). أما الأزمات فهي الاخرى تستغل للقيام بأفعال فاسدة، ومثالها الأزمات المصاحبة للحرب من فقدان السلع والخدمات أو قلتها، لذلك يقوم بعض الموظفين ببيع هذه السلع والخدمات من خلال السوق السوداء، وهم الذين يطلق عليهم تجار الحروب أو تجار الأزمات، وكذلك الأزمات السياسية والاقتصادية ايضاً تستغل لممارسة الفساد من رشوة واختلاس... الخ، بل أن بعض المفسدين يسعون الى خلق أزمات ولو وقتيه لممارسة الفساد لمصلحتهم الخاصة دون الاعتبار بالمصلحة العامة، ومثال ذلك في الوقت الحاضر أزمات الوقود والكهرباء والخدمات العامة الأخرى. وحتى الكوارث الطبيعية تكون أحياناً سبباً للفساد الإداري، حيث يقوم بعض الموظفين بتقاضي رشاوى مقابل تجاهل بعض المتضررين أو عدم تنفيذ خطط إعادة بناء ما دمرته هذه الكوارث، ومثالها الهزات الأرضية والأعاصير (46).
سادساً: الاحتلال الأجنبي Foreign Occupation
من البديهي القول أن الاحتلال الأجنبي هو استثناء على القاعدة التي تقضي باستقلال الدول وسيادتها على أراضيها (47)، لذلك فالاحتلال الأجنبي يجلب معه كل المشاكل والأزمات التي تسبب الفساد، وله آثار مدمرة للأرض وللإنسان وللعمران وللحضارة الإنسانية بصورة إجمالية، وما من احتلال إلا ويقترن بالاعتداء على المدنيين بصور متعددة تختلف باختلاف ظروف الاحتلال وطبيعته والقوى التي تقف وراءه والأهداف التي يرمي إليها، وباختلاف البيئة والمجتمع وأحواله الاقتصادية والعمرانية والمدنية ومهما تعددت أشكال الاحتلال فإنه خرق للقوانين الدولية وفساد في الأرض تحرمه الأديان السماوية والقوانين الوضعية(48). وكلما أوغل الاحتلال في ممارسة العدوان على المدنيين وطال أمده واتسع نطاقه كانت آثاره النفسية أقوى وآثاره المادية أقسى ولا يمكن التفرقة بين الآثار النفسية والآثار المادية للاحتلال لأن آثاره المدمرة تمتد إلى جميع مكونات الحياة بحيث تنال الإنسان والأرض والوطن والموارد وكل مقومات الحياة، وفي ذلك ما يقطع بوجود الإجماع على رفض الاحتلال ونبذ العدوان وعلى الإدانة الصريحة الكاملة للمحتلين أياً كانت دواعيهم ومبرراتهم، ولمرتكبي جرائم الحرب وأعمال الإبادة الجماعية التي تأتي على الأحياء وتقضي على الحياة بجميع مظاهرها وتخلق في النفوس آلاماً عميقة تنعكس على أفعال البشر وتصرفاتهم، وتنقلب إلى دوافع باتجاه مضاد يؤدي إلى استمرار النزاع واحتدام الصراع فيضطرب الأمن ويتزعزع الاستقرار وتتصدّع قواعد السلام(49).
وأوضح مثال على دور الاحتلال في انتشار ظاهرة الفساد الإداري ما يحصل في العراق الآن حيث نجد أن الفساد الإداري قد ازداد بنسب مرتفعة بعد 2003/4/9 ، فقد كان العراق يحتل التسلسل (113) عام 2003 أصبح يحتل التسلسل (129) عام 2004 والتسلسل (137) عام 2005 والتسلسل (160) عام 2006 أي واحد من أسفل ثلاث دول في مؤشر مدركات الفساد الصادر من منظمة الشفافية الدولية، والتسلسل (178) عام 2007 أي ما قبل آخر دولتين في المؤشر وهما مانيمار والصومال(50) . ويعود ذلك الى ما تركه الاحتلال من حالة فراغ سياسي وقانوني وأمني وإداري واجتماعي نتيجة الأعمال العسكرية والإجراءات التي أتخذها والتي خلقت عدة أزمات داخل المجتمع العراقي من أعمال عنف وفتن واضطرابات وجرائم وحالات فساد. وتدخله المباشر في جميع الشؤون الداخلية بموجب قرارات مجلس الأمن 1483 و 1511 لسنة 2003، وما وضعه الحاكم المدني بول بريمر) من نظام المحاصصة في الحكم ومن تشريعات وأنظمة كان لها الأثر الواضح في انتشار الفساد كما كان للشركات الأمريكية مثل (بكتل) و (هاليبورتون) و (K. BR) الدور الرئيس في نشر الفساد من خلال العقود التي أحيلت عليها من قبل سلطة الائتلاف المؤقتة، والتي قامت بدورها بإحالتها الى متعاقدين ثانويين وقاموا هؤلاء بإحالتها إلى آخرين (51) . فقد ورد في تقرير قدمته شركة التدقيق العالمية KPMG غطى فترة سلطة الائتلاف المؤقتة أن الكثير من العقود كانت تمنح على أسس غير تنافسية Sole Sourcing يصعب معها معرفة عدالة تلك العقود. وجاء في تقرير أصدرته هيئة الرقابة الدولية IAMB ان وكالة تدقيق العقود التابعة لوزارة الدفاع الأميركية حاولت اخفاء 200 مليون دولار استوفيت في شكل over charge من صندوق تنمية العراق لحساب شركة هاليبرتون(52).
ومن أمثلة الفساد الإداري الذي تمارسه قوات الاحتلال ، فقد ذكرت صحيفة الدستور الاردنية في عددها الصادر في 2007/9/2 أن سيدة أمريكية اسمها شارلي كورلي تلقت مبلغ 455 الف دولار مقابل شحن ثلاثة
براغي ماكينة قيمة الواحد 1،31 دولار لصالح قوات المارينز في الحبانية، وكذلك الأمر في البلدان المحتلة الأخرى مثل فلسطين حيث أنها أحتلت التسلسل (78) عام 2003 والتسلسل (108) عام 2004 والتسلسل (107) عام 2005 في مؤشر مدركات الفساد الصادر من منظمة الشفافية الدولية (53) . وأفغانستان حيث احتلت التسلسل (117) عام 2005 والتسلسل (172) عام 2007، ورغم أنها لم تظهر في جداول منظمة الشفافية الدولية للأعوام السابقة، الا أن حجم الفساد فيها يدل بوضوح على دور الاحتلال الأجنبي في ازدياده، وقد اكدت إحدى الدراسات الميدانية على دور الاحتلال في انتشار الفساد الإداري في العراق من خلال قيامها بإنجاز مشاريع إعادة البناء والإعمار ومنع خضوع هذه المشاريع للرقابة الوطنية (54) إن سيطرة الاحتلال الاجنبي على مقاليد الأمور في العراق وتوفيره الغطاء الامني لبعض الفاسدين المحسوبين عليه ولا سيما من يحملون جنسية مزدوجة، فهم يتولون المنصب بالجنسية العراقية ويسرقون بالأخرى، فضلا عن دور الاحتلال المباشر بالدعوة الى ممارسة الفساد وتسييب المال العام)(55).
___________
1- أنظر: د. خالد محمد صافي، هل انتشار الفساد يعبر عن انفصام ديني ووطني، شبكة الانترنيت للإعلام العربي، 2 شباط .2005
2- أنظر : عماد الدين إسماعيل مصطفى نجم، ظاهرة الفساد الإداري في الأجهزة الحكومية بالتركيز على الرشوة، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2003، ص 32
3- أنظر: سعد صلاح خالص، سياسة الفساد وفساد السياسة في العراق انظر الموقع : /http://www.metransparent.com/texts.
4- أنظر د. سامر اللاذقاني، ظاهرة الفساد في المجتمعات الشرق أوسطية، انظر الموقع : http://arabic.tharwaproject.com/Main
5- الفساد في الحكومة تقرير الندوة الإقليمية التي عقدتها دائرة التعاون الفني للتنمية ( DTCD ) ومركز التنمية الاجتماعية والشؤون الإنسانية (CSDHA ) بالامم المتحدة، لاهاي، 1989 ، ص 119.
6- أنظر : د. صلاح الدين فهمي محمود الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، 1994 ، ص 48.
7-p 7. ، cit ops. Jeremy Pope 3
8- أنظر د. يوسف مكي على الموقع /http://www.saudiaffairs.net
9- أنظر نبوية علي محمود الجندي، الفساد السياسي في الدول النامية مع دراسة تطبيقية للنظام الإيراني حتى قيام الثورة الإسلامية ( 1941- 1979) رسالة ماجستير ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة 1983 ، ص 36.
10- أنظر: عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ ،داود الفساد والإصلاح منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2003، ص 95.
11- أنظر إكرام عبد القادر بدر الدين ظاهرة الاستقرار السياسي في مصر 1952 - 1970 رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1981، ص 20
12- أنظر: عبير السرور الطبقة الوسطى وأثرها على الاستقرار السياسي، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، قسم العلوم السياسية، من خلال جريدة الرأي الأردنية في 12/ تموز/ 2006.
13- انظر: حمدي عبد الرحمن حسن المناظرة حول شكل الحكم ذكره .د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997 ، ص 95
14- للمزيد انظر: عزمي حسن خليفة، البيروقراطية وعملية التنمية السياسية في الدول النامية، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1975، ص 95 وما بعدها.
15- عبد اللطيف القصير، الادارة العامة المنظور السياسي جامعة بغداد كلية القانون والسياسة، ط2، 1986، ص 172
16- للمزيد، انظر حسنين توفيق إبراهيم ظاهرة العنف السياسي في الدول العربية، رسالة دكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1990 ، ص 297 وما بعدها.
17- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 96.
18- انظر أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 2 في 23/ 5/ 2003 الخاص بحل وزارة الدفاع ووزارة الدولة للشؤون العسكرية والتنظيمات العسكرية الأخرى.
19- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997 ، ص97.
20- للمزيد أنظر أوامر سلطة الائتلاف المؤقتة ( المنحلة ) رقم / 1 في 2003/5/16 الخاص بتطهير العراق من حزب البعث "المنحل" ورقم / 7 في 11/1/ 2003 تفويض الصلاحيات بموجب الأمر رقم 1 منشور في الوقائع العراقية، العدد 3981 في 31 / 12 / 2003.
21- للمزيد، أنظر: سلام عبود اجتثاث البعث دراسة تحليلية على الموقع http://www.rezgar.com
22- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997 ، ص.97 . وقد أكد ذلك السيد وكيل وزارة التخطيط بتاريخ 2006/8/5، أثناء لقائنا معه ضمن وفد محافظة ميسان لمناقشة خطة استراتيجية التنمية الوطنية في المحافظة.
23- د. جلال عبد الله معوض ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية، مجلة العلوم الاجتماعية، السنة الحادية عشرة، العدد الأول، آذار / 1983، ص 131 وما بعدها نقلاً عن د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997 ، ص 97.
24- أشار رئيس هيئة النزاهة بتاريخ 2006/7/5 الى مقتل 15 قاضيا ممن أصدروا احكاماً في قضايا فساد او ارهاب و21 من محققي هيئة النزاهة خلال السنتين الاخيرتين ، أنظر الموقع : http://www.annabaa.org/nbanews
25-أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 97.
26- للمزيد -أنظر تقرير الفساد لسنة 2004 الصادر عن الشفافية العالمية على الموقع: www.transparency.org.
27- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997، ص 97.
28- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997 ، ص 98 ونود الإشارة الى أن رئيس النظام السابق في العراق كان رئيساً لمجلس قيادة الثورة، ورئيساً للجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، والقائد للقوات المسلحة، والامين العام لحزب البعث المنحل.
29- لمزيد من التفصيل أنظر عزمي حسن خليفة، البيروقراطية وعملية التنمية السياسية في الدول النامية، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1975، ص 18.
30- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 99.
31- أنظر نبوية علي محمود الجندي، مصدر سابق، ص 17.
32- للمزيد أنظر د. عبد الكريم درويش البيروقراطية والاشتراكية دراسة في الإدارة والتغيير الاجتماعي، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، بدون تاريخ، ص84 وما بعدها.
33- أنظر د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 99 وما بعدها.
34- أنظر أحمد محمد عبد الهادي، سياسات الحكم المحلي تجاه تنمية الجهود الذاتية رسالة ماجستير، كلية الحقوق، جامعة أسيوط 1987، ص 53 وما بعدها.
35- انظر: د. أحمد محمد عبد الهادي، الانحراف الإداري في الدول النامية، الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب، 1997 ، ص 100 وما بعدها.
36- أنظر د محمد حسين عبد العال الإدارة العامة، القاهرة، دار النهضة العربية، 1981، ص 45
37- للمزيد، أنظر ياسر خالد بركات أسباب الفساد الإداري في العراق على الموقع: http://www.annabaa.org.
38- لمزيد من التفصيل عن استئثار السياسيين والأحزاب في التعيين في بعض الدول، أنظر عبد الكريم عبد الله المومني، الإصلاح والتطور الإداري في المؤسسة التربوية ط1 المكتبة الوطنية عمان 2001 ، ص 169.
39- أنظر : د. أحمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 101.
40- للمزيد عن عناصر الحزب، أنظر د صالح جواد الكاظم و د. علي غالب العاني الأنظمة السياسية، كلية القانون، جامعة بغداد ،1990 - 1991، ص 100 وما بعدها.
41- أنظر د احمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 102
42- أنظر أكرم عبد القادر بدر الدين أزمة التكامل في الدول الحديثة الاستقلال مع دراسة الكيان الإسرائيلي، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1977، ص 93
43- أنظر: د. احمد محمد عبد الهادي، مصدر سابق، ص 102 وما بعدها.
44- لمزيد من التفصيل أنظر د هيثم كريم آثار الحرب العراقية الإيرانية على التنمية الاقتصادية جريدة الصباح، 16 أيلول 2007
45- أنظر د. السيد علي شتاء الفساد الإداري ومجتمع المستقبل، المكتبة المصرية الاسكندرية، 2003، ص 102.
46- تقرير لندن الصادر في 16 آذار 2005 بعنوان (Aworldbuiltonbribes) المنشور على الموقع: www.tranparency.org 4.
47- المادة /2 الفقرة 1 من ميثاق الأمم المتحدة التي نصت على تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها
48- د. عبد العزيز بن عثمان التويجري الآثار النفسية الناتجة عن الإحتلال مقال منشور على الموقع:
www.amin.org/look/amin/article
49- د. حسين عبد الرزاق الجزائري، الآثار النفسية للاحتلال منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو) على الموقع: www.isesco.org
50- أنظر الموقع :www.transparency.org/cpi/index.
51- هذا ما أكده السيد وكيل وزارة التخطيط أثناء لقائنا به ضمن وفد محافظة ميسان مشار اليه في صفحات سابقة.
52- للمزيد أنظر محمد علي زيني أين ذهبت أموال الشعب العراقي مقال منشور على الموقع:- http://www.daralhayat.com/business/
53- أنظر الموقع :www.transparency.org/cpi/index
54- أنظر :- د. عبد الرضا فرج بدراوي، الفساد الإداري في العراق، الأسباب ووسائل المعالجة كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة البصرة، 2004، ص 15
55- عامر عبد الجبار إسماعيل، الفساد الإداري وبناء الدولة شركة المارد العالمية، النجف ،2007، ص18 وما بعدها.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة