في كلّ طائفة من أصحاب العرفان أفراد أقحموا أنفسهم بدون معرفة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص192-195
2025-08-19
328
لا ريب أن كلّ طائفة اندسّ فيها مَن ليس من أهلها من الدخلاء وأهل الأهواء حتى يكاد أن يغلبوا على أربابها الأصحاء فلا ينبغي ضرب الجميع بسهم واحد وأخذهم أو نبذهم على سواء.
كما أن بعض المتطرّفين المتوغّلين في الغرام والهيام والشوق إلى ذلك المقام الأسمى قد توقّدت شعلة المعرفة في قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم وألسنتهم فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبوديّة، مثل قول بعضهم: أنَا الحَقُّ و(مَا في جُبَّتِي إلَّا الحَقُّ.)
وأعظم منها في الجرأة والغلط والشطط قول بعضهم: سُبْحَانِي مَا أعْظَمَ شَأنِي.[1] وهذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على أنّها صدرت من
البعض حالة المحو لا حالة الصحو، وفي مقام الفناء في الذات، لا في مقام الاستقلال والثبات، ولو صدرت في غير هذه الحال لكانت كفراً.
على أن المنقول عن الحلّاج[2] قد قال للذين اجتمعوا على قتله: (اقْتُلُونِي! فَإنَّ دَمِي لَكُمْ مُبَاحٌ! لأنِّي قَدْ تَجَاوَزْتُ الحُدُودَ؛ ومَنْ تَجَاوَزَ الحُدُودَ (اقِيمَتْ عَلَيْهِ الحُدُودُ).
ولكنّ العارف الشبستريّ[3] التمس العذر لهذه الشطحات وحملها على أحسن وجه، حيث قال:
أنَا الحَقّ كشفِ آن اسرار مطلق *** به جز حقّ كيست تا گويد أنا الحَقّ
روا باشد أنَا الحَق از درختى *** چرا نبود روا از نيك بختى؟[4]
يقول من ذا يستطيع غير الحقّ أن يقول أنَا الحَقُّ؟! وإذا صحّ وحسن من الشجرة أن تقول أنَا اللهُ، فلما ذا لا يحسن ذلك من العارف الحسن الحظ؟! وحقاً أقول: أن مَن أجال فكره وأمعن النظر في جملة من آيات القرآن العزيز وكلمات النبيّ والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم وأدعيتهم وأورادهم سيجد في الكثير منها الإشارة إلى تلك النظريّة العبقريّة.
وقد شاعت كلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وهي قوله: أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ قَوْلُ لَبِيدٍ[5]: ألَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ.[6]
وقد تضمّنت هذه الكلمة في طيّاتها كلّ ما قاله العرفاء الشامخون من أن الأشياء أعدام، إذ ليس الباطل إلّا العدم وليس الحقّ إلّا الوجود، فالأشياء كلّها باطلة وأعدام وليس الحيّ والموجود إلّا واجب الوجود.
وهذا كلّ ما يقوله ويعتقده اولئك القوم وقد أفاض الله تعالى هذه الكلمة على لسان ذلك الشاعر العربيّ الذي عاش أكثر عمره في الجاهليّة وأدرك في اخريات حياته شرف الإسلام فأسلم.
وقد صدّق تلك الجوهرة الثمينة الصادق الأمين ومثلها كلمة ولده صادق أهل البيت سلام الله عليه: العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ.[7]
بل لو أمعنت النظر في جملة من مفردات القرآن المجيد تجدها وافية بذلك الغرض واضحة جليّة مثل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ[8] هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.[9]
فإنّ المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ حالًا، فكلّ شيء فان فعلًا وهالك حالًا، لا أنّه سوف يهلك ويفنى.
ومهما أحاول أن أوضّح الحقيقة أجدها عنّي أبعد من الشمس بَيدَ أنّها أجلى منها.
وأنّى لهذا اليراع القصير والعقل الصغير أن يجرأ فيتناول جرعة من ذلك البحر الغزير.
يَا مَنْ بَعُدَ في دُنُوِّهِ؛ ودَنَا في عُلُوِّهِ.
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وإلَيْكَ أنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ! سُبْحَانَكَ لَا احْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ؛ أنْتَ كَمَا أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وفَوْقَ مَا يَقُولُ القَائِلُونَ.
وَإنَّا لِلَّهِ وإنَّآ إليه رَاجِعُونَ».[10]
[1] - حديث قدسيّ: أعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأتْ ولَا اذُنٌ سَمِعَتْ ولَا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ. وجاء في كتاب« كلمة الله» ص 134، الرقم 140، بعد ذكر هذا الحديث تتمّة على النحو التالي: فَلَهُ مَا أطْلَعْتُكُمْ عَلَيْهِ، اقْرَؤُوا أن شِئْتُمْ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما اخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ. وذكر في ص 534 سندين لهذا أ:« التفسير الصغير» للفضل بن الحسن الطبرسيّ. قال في الحديث... ب:« أسرار الصلاة» للشهيد الثاني علي بن أحمد بن محمّد...
[2] - عبارة: أنَا الحَقُّ، للحلّاج. وعبارة: سُبْحَانِي مَا أعْظَمَ شَأنِي، لبايزيد البسطامي. وعبارة: لَيْسَ في جُبَّتِي إلَّا الحَقُ، لبعض من بلغ مقام الشهود حسب نقل الفرغانيّ في« مشارق الدراري». وقد أوردنا بعض المطالب باختصار حول أسناد هذه الكلمات في الجزء الأوّل من« معرفة الله».
[3] - أبو معتب الحسين بن منصور الحلّاج الصوفيّ الشهير، قتل في سنة 309 ه- ببغداد، اختلف الناس حتى الصوفيّة في حقّه-( التعليقة).
[4] - سعد الدين محمود بن أمين الدين التبريزيّ الشبستريّ، من أكابر العرفاء والحكماء صاحب كتاب« گلشن راز» الذي ناهز شروحه عن أحد عشر شرحاً، توفّي سنة 720 ه- ولم يتجاوز عمره عن 33 سنة، وقد عدّ في« كشف الظنون» بعض مؤلّفاته من كتب الشيعة وكذا شيخنا البحّاثة المحقّق في« الذريعة» انظر، ج 4، ص 158؛ وج 7 ص 42، طبعة طهران-( التعليقة).
[5] - يقول:« مقولة أنا الحقّ هي كشف تلك الأسرار المطلقة؛ ومن ذا الذي له أن يقول أنا الحقّ غير الحقّ. إذا جاز لشجرة أن تقول أنا الحقّ؛ فكيف لا يجوز ذلك من محظوظ».
[6] - لبيد بن ربيعة العامريّ الأنصاريّ من الشعراء المخضرمين، يقال إنّه مات في زمن معاوية وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة ولم يقل شعراً في الإسلام إلّا بيتاً واحداً وهو قوله: الحَمْدُ لِلَّهِ إذْ لَمْ يَأتِنِي أجَلِي حَتَّى كَسَانِي مِنَ الإسْلَامِ سِرْبَالا وقال له عمر أنشدني من شعرك فقرأ سورة البقرة وقال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علّمني الله سورة البقرة.« الشعر والشعراء» لابن قتيبة، ص 50، ط 1، مصر سنة 322 ه- (التعليقة).
[7] - وعجزه:* وكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ* وبعد هذا البيت: سِوَى جَنَّةِ الفِرْدُوسِ أن نَعِيمَهَا يَدُومُ وأن المَوْتَ لَا بُدَّ نَازِلُ (التعليقة).
[8] - الباب 100 من كتاب« مصباح الشريعة»، والعبارة أسفله من نسخة سماحة حجّة الإسلام والمسلمين فخر العلماء الأعلام الحاجّ الشيخ حسن المصطفويّ دام بقاؤه( ص 66): قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ؛ فَمَا فُقِدَ مِنَ العُبُودِيَّةِ وُجِدَ في الرُّبُوبِيَّةِ، ومَا خَفيَ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ اصِيبَ في العُبُودِيَّةِ. قَالَ اللهُ تعالى:i« سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ». أيْ مَوجُودٌ في غَيْبَتِكَ وفي حَضْرَتِكَ.
[9] - الآية 26، من السورة 55: الرحمن.
[10] - الآية 88، من السورة 28: القصص.
الاكثر قراءة في فرق واديان ومذاهب
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة