سؤال كميل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الحقيقة؟
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص24-28
2025-07-31
626
كان كميل قد سأل الإمام في أوّل حديثه: مَا الحَقِيقَةُ؟
قَالَ: مَا لَكَ والحَقِيقَةَ؟!
قَالَ: أوَ لَسْتُ صَاحِبَ سِرِّكَ؟!
قَالَ: بَلَى! ولَكِنْ يَرْشَحُ عَلَيْكَ مَا يَطْفَحُ مِنِّي!
قالَ: أوَ مِثْلُكَ يُخَيِّبُ سَائِلًا؟!
قَالَ: الحَقِيقَةُ كَشْفُ سُبُحَاتِ[1] الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: مَحْوُ المَوْهُومِ مَعَ صَحْوِ المَعْلُومِ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِّرِّ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: جَذْبُ الأحَدِيَّةِ بِصِفَةِ التَّوْحِيدِ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: نُورٌ يَشْرُقُ مِنْ صُبْحِ الأزَلِ، فَتَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ[2] التَّوحِيدِ آثَارُهُ.
قَالَ: زِدْنِي فِيهِ بَيَاناً!
قَالَ: أطْفئ السِّرَاجَ فَقَدْ طَلَعَ الصُّبْحُ!».[3]
وقد أورد السيّد حيدر كلاماً في شرح هذه المحاورة قائلًا: «هذا الكلام يحتوي معانٍ كثيرة وقد ذكره الشارحون في شروحاتهم.
وأمّا شرح ذلك (الكلام) بالإجمال فهو: يشير الإمام إلى ظهور الله تعالى في صورة المظاهر، وعلى عدم المظاهر في عين ثبوتها. لأنّ قوله: كَشْفُ سُبُحَاتِ الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ، إشارة إلى رفع الكثرة الأسمائيّة بعد رفع الكثرة الخلقيّة، والتي يُعبّر عنهما بالمظاهر.
وإشارة كذلك إلى إثباتها وتحقّقها دون إشارة، سواء أ كانت الإشارة عقليّة أو حسّيّة. وهذا هو رمز الخير والذي يشير إلى إحاطة الحقّ تعالى وإطلاقه؛ وذلك بسبب أن المحيط المطلق ما كان ليقبل الإشارة أبداً. لأنّ تلك الإشارة لا يمكن لها أن تكون، بل هي ممتنعة ومستحيلة.
وتقييد ال- «سُبُحات» بالجلال دون الجمال إنّما هو بسبب أن الجلال مخصوص بالأسماء والصفات، بينما اختصّ الجمال بالذات؛ أو اختصاص الجلال بالصفات القهريّة، والجمال بالصفات اللطفيّة، كما علمت. وعلى كلٍّ من التقديرين فإنّ سُبُحات الجلال أنسب في التقدّم من سُبُحات الجمال، لأنّ كشف سُبُحات الجمال غير ممكن إلّا بعد كشف سُبُحات الجلال وهذا هو سير من الكثرة نحو الوحدة، ومن الخلق نحو الحقّ. وهذا السير مقبول لدى أكثر علماء الطريق والعرفاء بالله.
وقول الإمام مَحْوُ المَوْهُومِ مَعَ صَحْوِ المَعْلُومِ يشير أيضاً إلى رفع المظاهر ومشاهدة الظاهر فيها بالحقيقة. وذلك أن السالك عند ما يرى بالعيان محو الموهومات التي هي عبارة عن ال- «غير» والمسمّاة بال- «مخلوقات»- والتي هي بدورها ليست سوى رَسمٌ خالٍ موهوم استقرّت ورسخت فيه بسبب استيلاء القوّة الواهمة والشيطان معاً عليه- وعند ما يرى كذلك زوال ذلك كلّه وارتفاعه عن وجوده بصورة كاملة؛ حينئذٍ سيبين معلومة الذي هو الحقّ تعالى من بين الشكوك والشبهات الوهميّة، وسيتحرّر السالك تماماً من الحجاب وينال الخلاص.
أي أن سماء قلبه وروحه ستصفو من الغمام والكثرات الخلقيّة وستظهر، تماماً كما تصفو السماء الحقيقيّة من الغيوم والسحاب وتروق؛ وهكذا سيظهر له الحقّ تعالى من خلال غيوم الكثرة تلك كسطوع الشمس بعد زوال الغيوم عن وجهها؛ فيرى الحقّ تعالى كما يرى البدر في ليلة تمامه، حسب قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم: سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ! وقول الإمام: هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِّرِّ، ينطوي على معنيينِ: الأوّل: إذا ما تغلّب هذا السرّ على الإنسان فلن يقوى على إخفائه بعد ذلك أو تجنيب روحه عنه؛ مثل الحلّاج وغيره. بل على العكس إذ إنّه لن يخشى في كشفه وإظهاره لومة لائم. وقد يكون ذلك الكشف وهذا الإظهار خارجاً عن إرادته ومحض اختياره كما يتصرّف المخمور في الظاهر.
وقد أشار الإمام إلى هذا الأمر حيث قال: ولَكِنْ يَرْشَحُ عَلَيْكَ مَا يَطْفَحُ مِنِّي.
الثاني: إذا ما تغلّب هذا السرّ على الإنسان فلن يلتفت بعدها إلى السُّتُر والحُجُب التي هي عبارة عن مظاهر، ولن يعاين فيها إلّا الظاهر فيها.
وعلى حسب هذا المعنى، يكون مفاد قوله هو أن الستار سيزول ويرتفع عن وجه المحبوب، وسيُهتَك الحجاب عنه تماماً ويتمزّق. اي سيرتفع بالكامل ويزول.
وهذا المعنى أنسب من المعنى الأوّل قياساً إلى ما نقوم نحن بإثباته هنا.
وقول الإمام جَذْبُ الأحَدِيَّةِ (الإنسانَ) بِصِفَةِ التَّوْحِيدِ مباشرة بعد تلك الجملة خير شاهد على هذا المعنى، وذلك لأنّ الإمام يعنى أن مقام الأحديّة الذاتيّة الذي لا يقبل الكثرة والذي يلي هذه المرحلة سيجذبه نحو التوحيد الصرف ونحو الوحدة المحضة التي هي عبارة عن حضرة الجمع تعالى ومقام فَناء المحبّ في المحبوب، والذي سيأتي بيانه فيما بعد.
ولهذا شرع الإمام في مرحلة كيفيّة الظهور وتفاصيل الحقّ الذي هو مقام الفرق من بعد الجمع، بعد أن اجتاز بكلامه من هذا المقام وقال: نُورٌ يُشْرُقُ مِنْ صُبْحِ الأزَلِ، فَتَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ التَّوْحِيدِ آثَارُهُ.
أي أن الحقّ المسمّى بالحقيقة، هو نور يُشرق اي يظهر من خلال صبح الأزل الذي هو الذات المطلقة. فَيَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ التَّوْحِيدِ اي يظهر على جميع مظاهر الوجود بآثاره وأفعاله وكمالاته وخصوصيّاته.
وهذا إخبار عن ظهور الذات في مظاهر الأسماء والصفات في الأزل والأبد، ومشاهدة الوحدة في صُوَر الكثرة، والجمع في عين التفصيل، ووجود التفاصيل في عين الجمع؛ وهو ما مرّ ذِكره توّاً. وتلك هي مرتبة لا يعلوها مقام ولا وجود للشهود في ما وراء ذلك، وهو ما عَبّر عنه الإمام بقوله لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً[4]. وقال آخرون غير الإمام: لَيْسَ وَرَاءَ عُبَّادَانَ قَرْيَةٌ[5].
[1] جاء في« أقرب الموارد»: السُّبْحَة بالضَّمِّ: الدُّعاء... سُبْحَةُ اللهِ: جَلالُه، وسُبُحاتُ وَجهِ الله: أنوارُه؛ تَقولُ: أسألُك بسُبُحاتِ وَجهِك الكَريم، أيْ بما تُسَبَّح به من دلائل عَظمتِك. والسُّبُحات أيضاً: مَواقعُ السُّجود، ج: سُبَح وسُبُحات.
[2] «جامع الأسرار ومنبع الأنوار» للسيّد حيدر الآمليّ، ص 72، القاعدة الثانية: في تعريف التوحيد، بتصحيح ومقدّمة هَنري كُربِن.
[3] جاء في« أقرب الموارد»: الهَيْكَل: النَّبتُ الذي طالَ وعَظُم وبلَغ، وكذلك الشَّجر؛ الواحدة: هيكَلَة. و-: البناء المرتفع، و-: الضَّخْم مِن كلِّ حيَوان، و-: مَوضعٌ في صدرِ الكَنيسة يُقرَّبُ فيه القُربان، و-: بَيتُ الأصنام، و-: الصُّورةُ والشَّخصُ، كقوله: كَساه اللهُ هَيْكَلَ آدَميٍّ؛ ج: هَياكِل.
[4] أورده الآمديّ في« غرر الحكم ودرر الكلم»، وذكره الآقا جمال الخونساريّ في شرح الكتاب المذكور والمطبوع بتصحيح المحدّث الارمويّ في ج 5، ص 108، برقم 7569. وقال في شرحه ما يلي:
« اي أن يقيني بأحوال المبدأ والمعاد وأصل مرتبة الكمال، فلو كُشف الغطاء وشاهدتُ ذلك بالعيان لن يزداد يقيني، لأنّه لن يكون أكثر ممّا عندي من يقين. و« لو» هنا تشير إلى المعنى الثالث من المعاني المذكورة؛ والمراد هو أنّه لو كُشف الغطاء كذلك وظنّ به الزيادة في اليقين، فلن يزداد بذلك يقيني، باعتبار أنّه بالغ منتهى مرتبة الكمال ولا يُتصوّر الزيادة عليه.
[5] «جامع الأسرار» ص 170، برقم 327، في الأصل الأوّل، القاعدة الرابعة.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة