الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
بحث مفصّل عن معرفة الله تعالى ومعرفة النفس
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج1 / ص 274 ـ 285
2024-12-07
193
من الخَطوات الأولى في طريق إصلاح النّفس، والتّهذيب الرّوحي، وبلورة الأخلاق والملكات الأخلاقية السّامية، في واقع الإنسان هي: «معرفة النّفس».
فكيف يمكن للإنسان أن يرقى في درجات الكمال الرّوحي ويتحرك على مُستوى إصلاح عُيوبه، والتّخلص من رذائله الأخلاقيّة، والحال أنّه لا يعرف نفسه من موقع الوعي لذاته؟
وهل للمريض أن يذهب إلى الطّبيب، ولمّا يعرف أنّه مُصابٌ بالمرض؟
وهل لِلتائه الضّال عن الطّريق، أن يعرف وجهته، ويتحرك في طريق العثور على الجادة الصّحيحة، قبل أن يعرف أنّه ضالٌ عن الطريق؟
وهل للإنسان أن يُهيّىء أسباب ووسائل الدّفاع عن نفسه، وهو لا يعرف أنّ العدوّ قد كَمَن له على باب داره؟
من الطّبيعي، أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة هو بالنّفي، فكَذلك من لا يعرف نفسه ولا عيوبه فإنّه لن يستطيع أن يتحرّك في عملّية إصلاح نفسه، ولن يستفيد من أطبّاء الرّوح، في خطّ التّربية والتّهذيب.
وبهذه الإشارة نعود إلى صُلب الموضوع، لنبيّن علاقة معرفة النّفس بِتهذيبها، وكذلك العلاقة بين: معرفة الله وتهذيب النّفس.
1 ـ علاقة معرفة النّفس بتهذيبها
كيف يُمكن لمعرفة النّفس أن تكون سبباً في تهذيب النّفس؟ دليلُهُ واضحٌ وبَيّنٌ، لأنّه:
أولاً: إنّ الإنسان عن طريق معرفة نفسه، سوفَ يعَي كرامةَ نفسه، وشرفَ ذاتِه، وعظمةَ الصّنع الإلهي في هذه الخِلقة، وبالتّالي سَيُدرِك، أهميّة الرّوح الإنسانيّة، التي هي نفحةٌ من نفحات قُدسه، نعم فإنّه سَيُدْرِك أنّ الجوهَرة الّثمينة، التي منحه الله تعالى إيّاها، عليه ألّا يُضيّعها ولا يَبيعها بأبخسِ الأثمان، فلن يُضيّعها إلّا من كانَ يعيش الرّذائل الأخلاقيّة، ومن غَرِق بِوحل الذّنوب، ومستنقع الخَطيئة.
ثانياً: الإنسان بمعرفته لنفسه، سيطّلع على الأخطار التي تحدق به، جرّاء مِيوله النّفسية، وعنصر الهَوى ودوافع الشّهوة، التي تقع في خطّ التّقابل، مع سعادته وتكامله المعنوي في حركة الواقع النّفساني، وسيكون بإمكانه التّحرك في دائرة المُواجهة الواعية، للوقوف بوجهها والتّصدي لها.
ومن البديهي، أنّ الإنسان الذي لا يَخبُر نفسه لن يكون على إحاطةٍ بوجود تلك الدوافع، ويبقى كالغافل عمّا يدور حواليه، بينما يكون الأعداء قد احتوشوه من كلّ جانبٍ، وهو لا يُحرّك ساكناً، وبالطّبع فإنّ هذا الشّخص، سيتلقّى ضرباتٍ قاصمةٍ من عدوّه، وبعدها يخضع لواقع السّيطرة من قِبل العدو، وأنّى له ساعتها، التّدبير والتّفكير من موقع الشّعور الهادئ، والبعيد عن الانفعال والتّوتر!!.
ثالثاً: بمعرفة النّفس، ستظهر له خَبايا نفسه، واستعداداتها المختلفة، ولأجل رُقيّها وكمالها والسّير بها إلى الله، سيسعى الإنسان في خطّ التربيّة والتّهذيب، لِبلورة تلك الاستعدادات والكَمالات، ويستخرج كُنوزها من واقعه الذّاتي، ليقترب بواسطتها من آفاق السّماء.
وحال الشّخص الذي لا يتعامل مع ذاته، من موقع المعرفة والوَعي، كحال الذي دَفَن في بيته كُنوزاً، وهو لا يعلم بها، وهو بأمسّ الحاجة إليها لفقره المُدقع، فيموت جوعاً بدون أن يجد في نفسه باعثاً على الانتفاع بها، في واقع الحياة.
رابعاً: إنّ كلّ واحدةٍ من المفاسد الأخلاقيّة، لها جذورها في النّفس الإنسانيّة، وبمعرفة النّفس، سيسعى الإنسان في عمليّة قلع تلك الجُذور، من واقع النّفس وغلق تلك الرّوافد التي تمدّها بالماء الآسن، ومُعالجة هذا الواقع السّلبي، بفتح روافد الماء الصّافي الرّقراق الذي يمدّها بالحَياة والوِصال الحقيقي المنفتح على الإيمان والصفاء النّفسي.
خامساً: والأهم من هذا وذاك، فإنّ معرفة النّفس، تؤدّي إلى معرفة الربّ، ومعرفة صفاته الجلاليّة والجماليّة، والتي هي من أقوى الدّوافع الذاتيّة، لتربية المَلَكات الأخلاقيّة، والكَمالات الإنسانيّة، وطريقٌ قويمٌ لِلنجاة من الإنحطاط والرّذيلة، والصّعود بها إلى أعلى مراتب الكمال المعنوي، وآفاق المَثل الإنسانيّة.
وإذا أضفنا إلى ذلك كلّه هذه الحقيقة، وهي أنّ الرّذائل تقلب حلاوة السعادة إلى مرارة الشّقاء، وتجرّ البشريّة إلى حيث الويلات والدّمار، فعندها ستتّضح مدى الأهميّة القُصوى، لمعرفة النّفس في حياة الإنسان والمجتمع البشري.
وقد وَرد في كتاب: «إعجاز الطبّ النّفسي»، للكاتب «كارل منينجر»: (معرفة النّفس عبارة عن الإحاطة بقوى الخير والمحبّة، ومعرفة عناصر الشّر والكراهيّة في النفس الإنسانيّة، وأيّ تجاهلٍ وتغافلٍ عن وجود هذه القوى والعناصر في أنفسنا، وفي الغير، بإمكانه أن يُعرّض اسس الحياة للاهتزاز والخلَل) ([1]).
وفي كتاب: «الإنسان ذلك المجهول»، وردت جملةٌ تعتبر شاهداً حيّاً على مدّعانا، فيقول: (لسوء الحظ فإنّ الإنسان المعاصر، لم يتحرّك على مستوى التّعرف على نفسه، إلى جانب التّقدم الصّناعي والتّطور العلمي، ولم يوفّق برنامج الحياة، وفق واقعه الطّبيعي، والفِطري، لذلك فَمع ما في الحياة العصريّة من زينةٍ وتفاخرٍ، لكنّها لم توصل الإنسان للسّعادة المنشودة، فالتّقدم الذي حصل على مستوى العلم والتّكنولوجيا، لم يحصل بتدبيرٍ وتفكيرٍ، بل حصل عن طريق الصّدفة الَمحضة ..، فلو ركّز: «غاليلو» و «نيوتن» و «لافوازيه»، وغيرهم من العلماء على جسم وروح الإنسان، لربّما تغيّرت الدنيا، ولمّا أصحبت كما هي عليه الآن» ([2]).
وبناءاً عليه، فإنّ إحدى العقوبات التي أعدّها الباري تعالى، لِلمُعرضين عن الله من موقع الّتمرد على الحقّ، وحذّر الباري تعالى، المسلمين من الوقوع فيها، هي نسيان النّفس، والغفلة عن الذّات: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)([3]).
2 ـ معرفة النّفس في الرّوايات الإسلاميّة
وقد أغنتنا الرّوايات الشّريفة، الواردة عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والائمّة الهداة (عليهم السلام)، في هذا المجال، ومنحتنا زَخماً معرفيّاً كبيراً، على مستوى بيان مَعطيّات معرفة النّفس، وأثرها الإيجابي في حركة الإنسان، في خطّ التّكامل المعنوي، والأخلاقي، ومنها:
1 ـ ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام)، أنّه قال: «نالَ الفَوزَ الأَكبَرَ، مَنْ طَفَرَ بِمَعرِفَةِ النَّفسِ» ([4]).
2 ـ ويقول (عليه السلام)، في النّقطة المُقابلة لِهذا: «مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ النَّجاةِ، وَخَبَطَ في الضَّلالِ وَالجَهالاتِ» ([5]).
3 ـ وَوَرد في حديث آخر، عن هذا الإمام الهمام (عليه السلام): «العارِفُ مَنْ عَرِفَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها وَنَزَّهَها عَنْ كُلِّ ما يُبَعِّدُها» ([6]).
ويُستفاد من هذا التّعبير، أنّ معرفة النّفس سببٌ للتحرر من قيود الأهواء، وأسر الشّهوات، وتطهير النفس من الرذائل الأخلاقيّة.
4 ـ ونقرأ في حديث آخر، عن هذا الإمام الكبير (عليه السلام): «أَكْثَرُ النّاسِ مَعْرِفَةً لِنَفْسِهِ، أَخْوَفُهُم لِرَبِّهِ» ([7]).
ونَستوحي من هذا الحديث الشّريف، العلاقة الوثيقة بين الإحساس بالمسؤوليّة، من موقع الخَوف من الله تعالى، الذي يعدّ منطلقاً لتهذيب النّفس في خطّ التّقوى، وبين معرفة النّفس.
5 ـ وَوَرد في حديثٍ آخر، عن الإمام نفسه، يقول: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ جاهَدَها وَمَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ أَهْمَلَها» ([8]).
فطبقاً لهذا الحديث الشريف، فإنّ الدعامة الأصلية لجهاد النفس، أو الجهاد الأكبر، كما ورد التّعبير عنه في الروايات الإسلاميّة، هي معرفة النّفس.
6 ـ وجاء في نهج البلاغة، في قصار الكلمات لأمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ هانَتْ عَلَيهِ شَهَواتُهُ» ([9]).
فالشّخص الذي عرف نفسه، على مستوى كرامتها الذّاتية، لا يعيش الذّلة في إطار الخضوع للشّهوات، والإستسلام للأهواء والنّوازع النّفسيّة.
7 ـ كما أنّ معرفة النّفس، تعتبر ركناً مُهمّاً في تهذيب النّفس، في خطّ التّكامل الأخلاقي والمعنوي، فالجهل بِكرامة النّفس، سبب للإبتعاد عن الله تعالى، ولِذا ورد في حديثٍ آخر، عن الإمام العاشر: (الإمام الهادي (عليه السلام)): «مِنْ هانَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ فَلا تأَمَنْ شَرَّهُ» ([10]).
ومِن مَضمون ما تقدّم، يتبيّن بوضوح، أنّ من الدّعامات الأساسيّة للفضائل الأخلاقية، والتّكامل المعنوي، هو معرفة النّفس، ولن يصل الإنسان إلى غايته المَنشودة، إلّا بعد عبور ذلك الممر الصّعب، ولذلك أكّد علماء الأخلاق، كثيراً على هذه المسألة، لِكي لا يغفل عنها السّائرون في الطّريق إلى الله تعالى.
3 ـ معرفة النّفس طريقٌ لمعرفة الرّبّ
يقول الباري تعالى: (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)([11]).
وَوَرد في آية اخرى، قوله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)([12]).
واستدلّ بعض المحقّقين، بالآية الشّريفة، التي تتحدث عن عالَم الذَّرْ، على هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ: «معرفة النّفس»، تعتبر الأساس والقاعدة: «لمعرفة الله تعالى» حيث تقول الآية الكريمة: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا)([13]).
ونقرأ في تفسير الميزان: «فالإنسان وإن بلغ من التّكبر والخُيلاء ما بلغ، وغرّته مساعدة الأسباب ما غَرّتهُ واستهوته، لا يسعه أن ينكر أنّه لا يملك وجود نفسه، ولا يستقلّ بِتدبير أمره، ولو ملك نفسه، ـ لوقاها ممّا يكرهه من الموت، وسائر آلام الحياة مَصائبها، ولاستقلّ بتدبير أمره، لم يفتقر إلى الخضوع، قبال الأسباب الكونيّة.
فالحاجة إلى ربٍّ: ـ مَلِكٍ مُدَبّرٍ ـ ؛ حقيقة الإنسان، والفقر مكتوبٌ على نفسه، والضعف مطبوعٌ على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسانٍ له أدنى الشّعور الإنساني، والعالم والجاهل، والصّغير والكبير، والشّريف والوضيع، في ذلك سواء.
فالإنسان في أيّ منزلٍ من منازلِ الإنسانية نزل، يشاهد من نفسه أنّ له رباً يملكه ويدبّر أمره، وكيف لا يشاهد ربّه، وهو يشهد حاجته الذاتيّة؟
ولذا قيل: إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا. أنّه محتاج في جميع جهات حياته، من وُجوده وما يتعلق به وجوده من اللّوازم والأحكام، ومعنى الآية أنّا خلقنا بني آدم في الأرض، وفرّقناهم، وميّزنا بعضهم من بعضٍ بالتّناسل والتّوالد، وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيّتهم لنا، فاعترفوا بذلك قائلين، بلى شَهِدنا أنّك ربّنا» ([14]).
وبناءاً على ذلك، يثبت لنا أنّ التّعرف على حقيقة الإنسانيّة، بخصوصياتها وصفاتها، هي السّبب والأساس لمعرفة الباري تعالى شأنه.
والحديث المعروف، الذي يقول: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عِرَفَ رَبَّهُ»، ناظر إلى هذه المسألة بالذات.
وقد نقل هذا الحديث مرّةً عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومرّةً اخرى عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومرّةً نُقل عن صُحف إدريس (عليه السلام).
فجاء في بحار الأنوار نقلاً عن صحف إدريس (عليه السلام)، في الصّحيفة الرّابعة، والتي هي صحيفة المعرفة: «مَنْ عَرَفَ الخِلْقَ عَرَفَ الخالِقَ، وَمَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ عَرَفَ الرَّازِقَ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» ([15]).
وعلى كلّ حالٍ، فإنّ مضمون هذا الحديث قد ورد بطرق متعدّدة، في كتاب بحار الأنوار، عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أو أحد المعصومين (عليهم السلام)، أو إدريس النبي (عليه السلام)، وكذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام)، في: «غُرر الحِكَم» ([16]).
وقال العلّامة الطّباطبائي، في تفسيره: «أنّ الشّيعة والسّنة قد نقلوا هذا الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهو حديثٌ مشهورٌ» ([17]).
التّفاسير السّبعة، لحديث من عَرف نفسه: وقد وردت تفاسيرٌ عديدةٌ لهذا الحديث، ومنها:
1 ـ يشير هذا الحديث إلى: «بُرهان النّظم»، فكلّ إنسانٍ يتعرف على عجائب الخِلقة، في روحه وجِسمه، وما تتضمّن من النّظم المعقد والمحيّر في تفاصيلها الدقيقة، فسوف ينفتح له طريق إلى الله تعالى، فإنّ هذا النّظم والانتظام والدّقة في الخلقة، لا يمكن أن ينشأ، إلّا بتدبير عالم قادر مبدىء معيد.
2 ـ ويمكن أن يكون هذا الحديث، إشارةً إلى بُرهان: «الوجود والإمكان»، فعند ما ينظر الإنسان ويُدقّق في تفاصيل وُجوده ونشأته، يرى أنّه وجودٌ مستقلٌ، من عِلمه وقُدرته وذَكائه وسَلامته، فكلّها تحتاج إلى وجوده سُبحانه، ومن دونه، فَهو لا شيء وسينتهي وجوده، وفي الحقيقة هو كالمعاني الحرفيّة، التي بدون المعاني الإسميّة، لن يكتمل لها معنى، كجملة: «ذهبتُ إلى المسجد»، فكلمة «إلى»، وحدها لا مفهوم لها إطلاقاً، من دون ارتكازها على كلمتي: «ذهبت» و «المسجد»، وكذلك الحال في وجودنا بالنّسبة إلى الله تعالى، فكلّ شخصٍ يحسّ في نفسه هذا الإحساس، سيعرف ربّه من موقع الإعتماد والإيمان أكثر، لأنّ وجود الممكن محال، بدون وجود الواجب.
3 ـ ويمكن لهذا الحديث، أن يدلّنا على: «برهان العلّة والمعلول»، فكلّ إنسان يَتَفكر في نفسه، قليلاً فسوف يعرف أنّه معلول، لعلّةٍ اخرى منذ وجوده، وعند ما ينظر لأبيه سيراه هو أيضاً معلولاً لعلّةٍ اخرى، وهكذا حتى يصلَ إلى علّةِ العلل، وإلّا يلزم التسّلسل، وبطلان التّسلسل، أمرٌ مفروغٌ عنه لدى الحكماء ([18]).
وعليه، يجب أن تصل العلل إلى العلّة الاولى، التي لا تحتاج إلى عِلّة، فعلّة العِلل: وجوده في ذاته، فعند ما يرى الإنسان نفسه بهذا الوصف، فإنّه سيصل إلى الباري سبحانه وتعالى، من خلال هذا القانون العقلي.
4 ـ ويمكن أن يكون هذا الحديث، إشارة إلى «بُرهان الفطرة»، فعند ما يعرف الإنسان في تأمل حَنايا نفسه، وجَوانب فطرته، فسوف يتجلّى له نورُ التّوحيد، وينفتح على الله تعالى، ويصل من «معرفة النفس»، إلى «معرفة الله»، ولن يحتاج إلى دليلٍ آخر يقوده إلى الله تعالى.
5 ـ ويمكن أن يكون الحديث، ناظراً إلى مسألة: «صفات الله تعالى»، بمعنى أنّ الإنسان عند ما يرى محدوديّته، في دائرة حالاته وصفاته في عامل الإمكان، سيصل إلى نقاطِ ضعفهُ ويُدرك من خلال محدوديّته في مجال الصّفات البشريّة، لا محدوديّة الله تعالى، لأنّه لو كان مخلوقاً مثله، لكان محدوداً أيضاً، ومن فنائه إلى بَقائه تَبارك وتعالى، لأنّه لو كان مخلوقاً أيضاً لكان فانياً، وكذلك يُدرك من خلال احتياجاته وفَقره، استغناء الله وعدم حاجته عمّا سواه، ويُدرك قوّة الباري من خلال فَقره وحاجته هو ... وهكذا، وهذا ما يشير إلى كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، في أوّل خطبةٍ، حيث يقول: «وَكَمالُ الإِخلاصِ لَهُ نَفي الصِّفات عَنْهُ، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيرُ المَوصُوفِ، وَشَهادَةِ كُلِّ مَوصُوفٍ أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ» ([19]).
6 ـ ونقل العلّامة المجلسي (رحمه الله)، تفسيراً آخر لهذا الحديث، عن بعض العلماء، أنّه قال: (الرّوح لطيفةٌ لاهوتيّة في صفةٍ ناسوتيّةٌ: دالّةٌ من عشرة أوجهٍ، على وحدانيّة الله وَرَبّانِيَّتِهْ:
1 ـ لما حرّكت التهيكَل ودبّرته، علمنا أنّه لا بدّ لِلعالم من مُحرّكٍ ومُدبِّرٍ.
2 ـ دلّت وحدتها على وحدته.
3 ـ دلّ تحريكها لِلجسد على قدرته.
4 ـ دلّ إطّلاعها على ما في الجسد على علمه.
5 ـ دلّ إستواؤها إلى الأعضاء على إستوائه إلى خلقه.
6 ـ دلّ تقدّمها عليه وبقاؤها بعده، على أزلَهِ وأَبده.
7 ـ دلّ عدم العلم بكيفيّتها، على عدم الإحاطة به.
8 ـ دلّ عدم العلم بمحلّها من الجسد، على عدم أينيتّه.
9 ـ دلّ عدم مسّها على إمتناع مسّه.
10 ـ دلّ عدم إبصارها على إستحالة رؤيته) ([20]).
7 ـ التّفسير الآخر لهذا الحديث، هو أنّ جملة: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ»، هي من قَبيل التّعلّق بالمحال، يعني بما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه، فهو لن يعرف ربّه بصورةٍ حقيقيةٍ.
ولكن التّفسير الأخير هذا غير مناسب، والتّفاسير السّابقة أنسب لسياق الحديث، ولا ضَير من إحتواء ذلك الحديث الشريف، لكلّ تلك المعاني الجليلة.
نعم، فإنّ كلّ إنسان يعرف نفسه، سيعرف ربّه، ومعرفة النّفس هي طريقٌ لمعرفة الرّب، وهي أهمّ وسيلةٍ لتهذيب الأخلاق، وطهارة النّفس والرّوح، فذاته المقدسة هي مصدر لكلّ الكمالات والفضائل، وأهمّ طريقٍ للسّير والسّلوك في خط بناء الذات، وتهذيب الأخلاق، هو معرفة النّفس، ولكنّ معرفة النّفس تقف دونها موانعٌ كثيرةٌ، لا بدّ من استعراضها وبحثها.
موانع معرفة النّفس:
أوّل خطوةٍ تُتَّخذ، لعلاج الأمراض البدنيّة هي معرفتها، وعليه ففي وقتنا الحاضر، يمكن تشخيص أغلب الأمراض، بالأشعّة السّينيّة، والسّونار، والمختبرات المختلفة لتحاليل الدّم والبول، وما شابهها من الامور، حيث يستطيع الطّبيب بمعونتها، من تشخيص مواضع الخلل البدني بدقةٍ، وبالتالي يكون بإمكانه، وضع الأدوية والعلاجات لذلك المرض، وكذلك الحال في الأمراض الروحيّة والنفسيّة على مستوى التّشخيص والمعالجة، فإنّنا إن لم نشخّص أمراضنا الرّوحيّة، بمساعدة الطّبيب الحقيقي للنفس، ولم نتمكن من العثور على جذور الرّذائل الأخلاقيّة، في واقعنا النّفسي، فسوف لا يمكننا الوصول إلى طريقةٍ لعلاج هذه الأمراض، وجُبران مواضع الخَلل في عالم النّفس.
ولكن أغلب الناس، يتجاهلون الأعراض الخطيرة للأمراض، وذلك لِغَلبة الأنانيّة عليهم وحبّ الذات، الذي لا يسمح لهم برؤية النّقص على حقيقته، وهذا الهروب من الحقيقة، غالباً ما ينتهي إلى عواقب غير حميدة، ولا يتوجه إليها الإنسان إلّا بعد فوات الأوان، وبعد تجاوز المرض مرحلة العلاج، ففي الأمراض الأخلاقيّة، والانحرافات النّفسية، غالباً ما يكون حبّ الذات والأنانية، مانعاً قويّاً لِلناس، يحول دون معرفة صفاتهم الرّذيلة، وعيوبهم الأخلاقيّة والاعتراف بها، بل ويتذرعون بالأعذار المختلفة، في عملية التغطية اللّاشعورية، على تشوّهات الأنا ليكون الشّخص متعالياً عن النّقد والنّقص، وبذلك يعيش مثل هذا الإنسان، حالةَ الوَهم في ثياب الواقع.
والحقيقة أنّ الاعتراف بالخطأ فَضيلةٌ، ويحتاج إلى عزمٍ جدّي، وإرادةٍ راسخةٍ، وإلّا فان الإنسان سيتحرك على مستوى تغطية عيوبه، ويُدرجها في طيّ النسيان، ليخدع بها نفسه ومن حواليه، بالظّواهر الخادعة والعناوين الزائفة.
نعم فإنّ الوقوف على العيوب والنقص، في واقع الذّات أمرٌ مرعبٌ ومريعٌ، وغالبيّة النّاس يهربون من واقعهم في حركة الحياة، ولا يريدون أنّ يعترفوا بأخطائهم من موقع تحمّل المسؤوليّة، لكنّ الهروب من الحقيقة، سيعود بالضّرر الكبير على صاحبه، وسيدفع الإنسان الّثمن غالياً على المستوى البعيد، جرّاء ذلك!
وعلى كلّ حال، فإنّ المانع الحقيقي، والحِجاب الأصلي لمعرفة الذّات، هو حجاب حبّ الذّات، والأنانيّة والتّكبر، وما لم تنقشع هذه الحُجب، وتلك الغَشاوات عن النّفس، فلن يستطيع الإنسان أن يعرف ذاته، ونوازعها وستغلق دونه أبواب المعرفة الاخرى، التي تريد به النّهوض والوصول إلى الحقّ، في خطّ التّكامل المعنوي، والتّحذيرات التي صدرت من رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله)، شاهدٌ حيٌّ على مدّعانا، منها:
«إذا أَرادَ اللهُ بِعَبدٍ خَيراً فَقَّهَهُ في الدِّينِ وَزَهّدَهُ في الدُّنيا وَبَصَّرَهُ عُيوبَهُ» ([21]).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)، في حديثٍ آخر: «جَهْلُ المَرءِ بِعُيوبِهِ مِنْ أَكبَرِ ذُنُوبِهِ» ([22]).
ويُفرض علينا هذا السؤال نفسه، وهو أنّه كيف يستطيع الإنسان، أن يُزيل تلك الغَشاوات والحُجب، التي ترين على نفسه وروحه؟.
هنا أتحفنا الفيض الكاشاني في هذا المجال، بنصائح قيمةٍ، فقال: (اعلم أنّ الله تعالى، إذا أراد بعبدٍ خيراً بصّره بعيوب نفسه، فَمن كَملت بَصيرته لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكنّ أكثر الخلقِ جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القَذى في عينِ أخيه ولا يرى الجذع في عينه هو، فمن أراد أن يقف على عيب نفسه، فله أربع طُرق:
الأوّل: أنّ يجلس بين يدي بصيرٍ بعيوب النّفس، مطّلعٌ على خَفايا الآفات، ويحكّمه على نفسه، ويتّبع إشارته في مجاهداته، وهذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده.
الثاني: أن يطلب: صديقاً صدوقاً بصيراً متديّناً، فينصبه رقيباً على نفسه، ليُراقب أحواله وأفعاله، فما يكرهه من أخلاقهِ وأفعاله وعيوبه الباطنة والظّاهرة، ينبّهه عَلَيها. فهكذا كان يفعل الأكابر من أئمّة الدّين، كان بعضهم يقول: «رحم الله إمرأ أهدى إليّ عيوبي» ([23])، وكلّ من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً، كان أقلّ إعجاباً وأعظم اتّهاماً لنفسه، إلّا أنّ هذا أيضاً قد عزّ، فقلّ في الأصدقاء من يترك المُداهنة، فيخبر بالعَيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على القدر الواجب، فلا يَخلو أصدقاؤك عن حَسودٍ، أو صاحب غرض، يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن مُداهنٍ يُخفي عنك بعض عُيوبك، لهذا كان داود الطائي قد اعتزل عن النّاس، فقيل له: لِمَ لا تُخالط النّاس؟، قال: ما ذا أصنع بأقوامٍ يخفون عنّي ذُنوبي.
ان أهل الدين يحبون أن يُنبّهوا على عُيوبهم، بنصيحة غيرهم، وقد آلَ الأُمر إلى أمثالنا، بأن وأبغضُ الخلق إلينا من يَنصحنا، ويُعرّفنا عيوبنا، ويكاد أن يكون هذا مُفصِحاً عن ضَعف الإيمان، فإنّ الأخلاق السّيئة: حيّاتٌ وعقاربٌ لدّاغةٌ، ولو نبّهنا منبّهٌ على أنّ تحت ثوبنا عقرباً، لشكرنا له ذلك وفرحنا به، واشتغلنا بإبعاد العقرب وقتلها، وإنّما أذى العقرب على البدن، ويدوم ألمها يوماً أو بعض يوم، ونكايةُ الأخلاق الردّية على صميم القلب، وعسى أن يدوم بعد الموت، أبداً أو آلافاً من السّنين، ثمّ إنّا لا نفرح بمن ينبّهنا عليها، ولا تشتغل العداوة معه عن الانتفاع بنصحه.
الطّريق الثّالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه، من لسان أعدائه، فإنّ عين السّخط تُبدي المساوي، ولعلّ انتفاع الإنسان بعدوٍّ مشاحن، يذكرّ عيوبه، أكثر من انتفاعه بصديقٍ مداهنٍ، يُثني عليه ويمدحه، ويخفي عنه عُيوبه.
الطّريق الرّابع: أن يخالط الناس، فكلّ ما يراه مذموماً، فيما بين الخَلق فيطالب نفسه بتركه، وما يراه محموداً يطالب نفسه به وينسب نفسه، إليه، فإنّ المؤمن مرآةُ المؤمن، فيرى في عيوبِ غيره عيوبُ نفسه، وليعلم أنّ الطّباعَ مُتقاربةٌ في إتّباع الهوى، فما يتّصف به واحد من الأقران أعظم منه، أو عن شيء منه، فيتفقّد نفسه ويطهّرها عن كلّ ما يذمّه من غيره، وناهيكَ بهذا تأديباً، فلو ترك النّاس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم، لاستغنوا عن المؤدّب، قيل لِعيسى (عليه السلام): من أدَّبك؟ فقال: «ما أدّبَني أحد، رأيت جهلَ الجاهل فجانبته» ([24]).
[1] إعجاز الطّب النّفسي ، ص 6.
[2] الإنسان ذلك المجهول ، ص 22.
[3] سورة الحشر ، الآية 19.
[4] غُرر الحِكم ، ح 9965.
[5] المصدر السابق ، ح 9034.
[6] غُرر الحِكم ، طبقاً للميزان ، ج 6 ، ص 173.
[7] المصدر السابق ، ح 3126.
[8] تفسير الميزان ، نقلاً عن ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 1881 ، المادة : المعرفة.
[9] نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الكلمة 409.
[10] تُحف العقول ، من قصار كلمات الإمام الهادي عليهالسلام.
[11] سورة فصّلت ، الآية 53.
[12] سورة الذّاريات ، الآية 21.
[13] سورة الأعراف ، الآية 172.
[14] تفسير الميزان ، ج 8 ، ص 307 ، ذيل الآية المبحوثة ، (مع التلخيص).
[15] بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 456 ؛ ج 58 ، ص 99 ؛ ج 66 ، ص 293 ، ونقل عن المعصوم عليهالسلام ، وفي ج 2 ، ص 32 عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله.
[16] غُرر الحِكم ، ص 7946.
[17] الميزان ، ج 6 ، ص 469 ، في البحث الرّوائي ، ذيل الآية 105 ، من سورة المائدة.
[18] من أراد التّوضيح ، فيراجع كتاب : «نفحات القرآن ج 2».
[19] نهج البلاغة ، الخطبة 1.
[20] بحار الأنوار ، ج 61 ، ص 99 ـ 100.
[21] نهج الفصاحة ، ص 26 ، وورد نفس هذا المعنى عن الإمام الصّادق عليهالسلام ، في اصول الكافي ، ج 2 ، ص 130.
[22] بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 419.
[23] تُحف العقول ، ص 366.
[24] المحجّة البيضاء ، ج 5 ، ص 112 الى 114.