1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الحياة الاسرية

الزوج و الزوجة

الآباء والأمهات

الأبناء

مقبلون على الزواج

مشاكل و حلول

الطفولة

المراهقة والشباب

المرأة حقوق وواجبات

المجتمع و قضاياه

البيئة

آداب عامة

الوطن والسياسة

النظام المالي والانتاج

التنمية البشرية

التربية والتعليم

التربية الروحية والدينية

التربية الصحية والبدنية

التربية العلمية والفكرية والثقافية

التربية النفسية والعاطفية

مفاهيم ونظم تربوية

معلومات عامة

الاسرة و المجتمع : معلومات عامة :

الى ماذا تهدف محاضرات الخطباء

المؤلف:  الشيخ علي رضا بناهيان

المصدر:  النظام التربوي الديني

الجزء والصفحة:  ص 76 ــ 108

2024-09-16

261

إن المحاضرات والأبحاث التي نطرحها نحن الخطباء في هذه المنابر عادة لا تخلو من هذه الحالات التالية؛ فإما نطرح شيئا مغفولاً عنه وقل ما ينتبه إليه الناس، فنتحدث ونذكّر الناس على هذا الأمر المهم الذي يعرف الناس أهميته ولكنهم غفلوا عنه. وإما أن يكون الموضوع مجهولا لا يعرفه أحد، وهذه حالة نادرة جدا، فنادرا ما يحصل أن نرتقي المنبر ونقول: نريد أن نتحدث في هذه المحاضرة عن شيء لا يعلمه أحد! إذ قد سمع الناس كثيرا من المعارف الدينية، إلا أن تشتمل المحاضرة على نقطتين أو ثلاث لم يعلمها بعض الحضّار. وتارة تكون المحاضرة موعظة وهي أن يتحدث الخطيب مع الناس بقوة وشدّة كي تستيقض قلوبهم من سباتها ويتأثرون بنصائحه ومواعظه.

إن رؤى الناس وحركتهم وأجواءهم الذهنية خاطئة ولابد من تغييرها. ولا يخفى أن تغيير الرؤى ليست بعملية هيّنة، إذ لا تتغير رؤية الإنسان بالاطلاع على معلومة خاصة أو على رواية أو اثنتين. بل هو بحاجة إلى عملية جذرية ينقلع فيها عن رؤيته السابقة تجاه الدين ليحصل على الرؤية الجديدة التي رءاها صائبة.

إن وفقت بعون الله لتغيير رؤيتكم، بعد ذلك إن حاولتم أن تغيروا رؤية أحد آخر، سوف تواجهون صعوبة، إذ إن تغيير الرؤى أساسا هو عملية صعبة. إن هذه الليالي الثلاثين في شهر رمضان لخير فرصة للتأمل في موضوع واحد، وخير فرصة لإصلاح الرؤى. فإن الرؤية تختلف عن المعلومات البسيطة. إن الرؤية غير التذكير، وإنها تختلف بطبيعتها عن استماع الموعظة بهدف اندفاع الروح وكسب الحافز للعمل.

إن رؤية الناس بشكل عام تجاه موضوع الدين وما يدور في فلكه غير صائبة

هنا أدعي ادعاءً في محضركم وهو أن رؤية الناس بشكل عام تجاه الحسن والصلاح غير صائبة. وإن رؤيتهم تجاه الدين غير دقيقة، إن لم أقل إنها غير صائبة. إن رؤية الناس بشكل عام تجاه الحياة وفلسفتها غير صائبة. كذلك هم غير صائبين في رؤيتهم تجاه الهدف السامي والراقي الذي يجب أن يختاروه.

طبعا إن إثبات هذا الإدعاء بحاجة إلى بحث متسلسل طويل، وإلا فإن أكتفي بالادعاء فقط، تواجهوني بسؤالين صعبين وسوف لا أستطيع الجواب بسهولة. وهي: ما هي رؤية الناس الخاطئة؟ ثم ما هي الرؤية الصائبة في رأيك؟

إن تبيين رؤيتنا بحد ذاته هو أمر عسير، فما بالك إن أردنا تبيين الرؤية الصائبة. إن ما أدعيه خلال هذه الأبحاث هو أن رؤيتنا تجاه التربية ومسار العبودية والسير والسلوك إلى الله وكذلك رؤيتنا تجاه الحياة وفلسفتها وفلسفة كل ما يجري ويحدث في الحياة ليست برؤية صائبة، أو على الأقل ليست دقيقة. فما نصبو إليه خلال هذه السلسلة هو تغيير الرؤى. فلابد أن تمتزج مجموعة ومنظومة من المعلومات والمعارف معا لتنهض بتغيير رؤية الانسان وتغيير قبلته واتجاهه. وأنا أعلم أن هذه الكلمات والعبارات هي كلمات كلية وعامة لا يمكن إحساسها ولمسها.

ما معنى تغيير الرؤى؟

فلأشرح قليلا ما هو المقصود من تغيير الرؤى. إن لمست بيدك أعضاء فيل في الظلام الدامس، ماذا تشعر بهذا اللمس وما سيكون انطباعك عن هذا الكائن الذي لمسته بيدك؟ فمرة تمس بطنه ولعلك تزعم أنه سقف صلب، وأخرى تمس رجله فتتصور أنه عمود محكم، ثم تلمس جنبه وجسمه، فقد تشعر أنه جدار عال. فهل سوف تحصل على صورة كاملة وواضحة لهذا الفيل إن لمست باقي أعضائه؟ فهل تستطيع أن ترسم صورته؟! كلا أبدا.

أما إن ابتعدت عن الفيل قليلا وفُتح لك المصباح، تستطيع أن ترى الفيل بنظرة واحدة، وعند ذلك تعرف حقيقة الأعضاء التي لمستها بيدك وسوف تعرف شانها وموقها من كل جسم الفيل وما تؤدي من دور في هذا الحيوان ككل. فان الصورة التي تلقيتها من الفيل في ذاك الظلام الدامس مع أنها لا تخلو من الصحة تماما ولكنها لم تعطك رؤية صحيحة. وأنا أقول لكم إن كثيرا من معلوماتنا المتناثرة عن الدين صحيحة ولكننا لم نستخرج من هذه الأجزاء صورة مركبة صحيحة عن الدين فلم نحصل على رؤية صائبة تجاهه.

إن الحصول على رؤية صائبة وصورة متكاملة تجاه الفيل أمر يسير، لكن تعالوا إلى الدين فما هي الصورة التي لابد أن نحملها عنه؟ أعدّوا فهرسا عن آيات القرآن التي تزيد عن ستة آلاف آية بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الوصايا الأخلاقية، فمن أين نبدأ وإلى أين ننتهي؟! وما علاقة بعضها ببعض؟ فهل يمكن أن نربط جميع معارف الدين كخرز السبحة في خيط واحد؟

لابد من تنظيم معلوماتنا المتناثرة عن الدين في نطاق منظومة واحدة. لابد أن تكون لنا رؤية شمولية وجامعة وصائبة عن مجموع المعارف الدينية بحيث تشخص الرابط والعلاقة بين مختلف أجزاء الدين.

أحد آثار هذه الرؤية، اتضاح تكليف الإنسان

ما فائدة هذه الرؤية؟ أرجو أن تسمعوا هذه العبارة بتمعن. من أهم فوائد هذه الرؤية الشمولية والصائبة هي أنها تشخص تكليف الإنسان بشكل دقيق. إنه لادعاء كبير جدا، وهو أنه ليس لنا في كل الحياة سوى تكليف واحد. فلابد أن نراقب شيئا واحدا فقط. وسوف نعي هذه الحقيقة إن شاء الله. فليس المطلوب هو أن نقوم بمئة عمل ولأن أن نزيل مئة عيب ونحصل على مئة حسنة، فكلها أمر واحد.

فلابد أن نعرف ذاك الأمر الواحد الذي تشتمل عليه كل الأعمال الصالحة، إذ إن جميع الحسنات والصالحات بدء من الحد الأدنى من القضايا الأخلاقية إلى أقصى مراتب عشق الله وعشق أوليائه، هي صور لهذا الأمر الواحد الذي لا آخر له. فان عرفت هذا النظام وصحت رؤيتك واتجاهك، عندئذ ترسم خطاً مستقيما من موقعك الذي أنت فيه إلى نقطة الهدف، وسوف تعلم ماذا عليك وما الذي يجب أن تقوم به.

أما إن لم يقدر الإنسان على رسم هذا الخط المستقيم، يبقى في حيرة بين مختلف الفضائل والرذائل فلا يدري أيصلح حسده أم يراقب بخله أم يقضي على حب المقام أم يزيل حب الراحة؟! أفهل هي عيب واحد أم عيبان؟ بل هي آلاف، فما يصنع هذا الإنسان المسكين الضائع بين عيوبه ورذائله؟!

إن هذه الحيرة ليست بحالة جيدة، فليس من الصحيح أن يكون الإنسان في حيرة من أمره لا يعرف حاجته الأولى من بين مختلف الصفات الجيدة، من قبيل الصدق والصبر والتواضع والكرم وغيرها. إن هذه الحالة هي حالة الحيرة المذمومة.

قد يقول البعض أن الجميع مبتلون بهذه الحيرة. أقول: فهل تصبح حالة جيدة إن ابتلي بها الجميع؟! فأين موقع معرفة النفس إذن، وكيف نتمكن من محاسبة النفس؟ فإن لم تكن رؤيتي صائبة تجاه الطريق الذي أريد أن أسلكه وإن لم أعرف تكليفي الرئيس ولا أميز بين التكليف الأصلي والفرعي، لن أستطيع أن أحاسب نفسي أبدا.

من آثار هذه الرؤية، تبلور الحكمة في قلب الانسان

إن دور النبي (صلى الله عليه وآله) هو أن يعلّم الناس الكتاب والحكمة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. فما معنى الحكمة؟ إن الكتاب هو علم يدخل في قلب الانسان من الخارج، أما الحكمة فهي علم تغور من داخل القلب. فالحكمة هي إنتاج العلم لا تعلمه. فكأن الله أراد من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أن يربي أفراد أمته لكي يصيروا حكماء.

من خصائص الانسان الحكيم هي أنك عندما تقرأ عليه الروايات، يتقبلها بكل رحابة صدر ويؤيدها بقلبه. فهو يدرك صحتها ويعرف موقعها من الدين. فتجده يتحدث بمضمون الروايات قبل أن يسمعها أو يعثر عليها في كتب الحديث. فتأتي الآيات والروايات مؤيدة لما كان يشعر به في قلبه.

متى يصل الانسان إلى هذه الحكمة؟ عندما يشاهد الفيل كله بنظرة واحدة. أما إن لم ير الانسان هذا الفيل وكانت معرفته به عبر بعض اللمسات المتفرقة وحسب، لا يستطيع أن يصدق أو يستوعب كثيرا من كلمات المتحدث عندما يتحدث عن الفيل. فإذا تحدث عن ذنبه أو تحدّث عن خرطومه يتلقى هذه المعلومات كمعلومات جديدة غريبة على قلبه وقد لا يستطيع الاستيناس بها.

أما الحكيم فهو الذي قد رآى الفيل كله. فعن أي عضو من أعضاء الفيل تتحدث معه، يتفاعل معك ويكمل كلامك وحتى قد يزيدك ببعض المعلومات. فالحكيم هو ذاك الإنسان الذي تلصق الروايات بفؤاده لشدة انسجامها مع ما طبع عليه قلبه، ثم يعرف موقع الروايات من الدين وما هو دورها في حركة الإنسان الدينية. هذا هو أحد أبعاد الحكمة.

من خصائص الحكيم هي أنه يكون على بصيرة من نفسه. فهو يعرف داءه وعيوبه. ذات يوم قال لي رجل من أولي البصائر والالباب: إن بيني وبين الخميني بونا شاسعا. فاستغربت من قوله وقلت في نفسي: أمن الفنّ أن يعرف الإنسان أن بينه وبين الخميني بعد المشرقين؟! ولكني ما كنت أستطيع أن أبدي استغرابي له إذ كنت أحترمه كثيرا. ثم زال استغرابي في جملته التالية حيث قال: ولكني أعلم السبب والداء الذي جعلني أتأخر عن مقامه. فعرفت أنه يتحدث بحكمة ووعي. وإلا فأنا أيضا أدعي أن هناك بون شاسع بيني وبينه، ولكني لا اعرف الامراض التي أخرتني عن ذاك المقام، ولكنه قال إني أعرف العلة والداء الذي سبب هذا البون الشاسع.

هذه هي الحكمة. فإنها تجعلك تفهم وتعلم أكثر مما سمعت. وهذا هو أثر الرؤية والمشاهدة، حيث إنك تشاهد مشهدا عبر لحظة واحدة، ولكنك تقدر على كتابة ما شاهدت في مئة صفحة. وكلما رأيت المشهد من زاوية جديدة، تستطيع أن تكتب حقائق جديدة عن المشهد. فينبغي أن نرى الدين بطريقة نتمكن من شرح مختلف أبعاده للناس وأن نعطيهم صورة صحيحة عن الدين. لابد أن ندرك ماهية علاقتنا بالدين جيدا ولا نخدع أنفسنا.

لقد خلق الإنسان بصفته قادرا على إيجاد التغيير في وجوده، فتم القرار على أن يكون الإنسان قادرا على ترقية نفسه وتحسينها. لا يتم هذا الارتقاء عبر ازدياد المعلومات وحسب، إذ إن مجرد ازدياد المعلومات لا يحسن شيئا في العالم. وسوف تتضح أحقية هذا الإدعاء من خلال الأبحاث التالية.

إن الارتقاء والتطور منوط بأن تشتمل أنت على رغبة أو رغبات، ثم تتخلص من بعض رغباتك عبر صراع شديد بين الرغبات، إلى رغبات أخرى. أو أن تغير هواك في خضم تضارب الأهواء. فهذا الارتقاء منوط بتغيير ثمين.

فان كنت تحب شيئا ما ثم تعمد إلى أكله أو لبسه أو اتخاذه تلبية لهواك، فإنك لم تتغير. وسوف يكون شأنك كشأن الملائكة الذين يحبون الله ويسبحون بحمده بمقتضى طبيعتهم، فإنهم لا يقدرون على إيجاد تغيير في داخلهم. فإنهم صالحون ويبقون صالحين. ولكنك لست مثلهم إذ المفترض منك أن توجد تغييرا وأن تتكامل وتكسب الصلاح عبر عملية التغيير. هنا قد يتبادر في ذهنكم سؤالا وهو لماذا وجب ذلك وما السبب من اختصاص الانسان بهذا التغيير.

لقد قدر للإنسان أن يكون قادرا على تغيير نفسه ويكسب الصلاح عبر هذا التغيير، لا أن يكون موجودا صالحا من الأول كما هو الحال في الملائكة. بل لابد أن يترقى ويصلح من خلال صيرورة وتغيّر. فإن نجح إنسان في هذه العملية واستطاع على إنجاز ذلك فقد سبق الملائكة وتفوق عليهم. ولا سبيل لنيل هذا الهدف سوى أن تكون مشتملا على رغبات متعددة، وتعطى حق الاختيار من بين أهواء ورغبات شتى وكذلك تعطى قدرة الاختيار، ثم تصرع رغبة وتختار أخرى.

هذا هو الحدث الرئيس الذي خلقت إنسانا من أجله. وقد بدأت حياتك الإنسانية من هذا المنطلق. وصار الإنسان إنسانا لما يشتمل عليه من أهواء متضاربة لابد أن يختار بعضها دون الأخرى وهذا هو شأنه إلى آخر عمره. أما ما هي الرغائب التي لابد أن يصرعها الإنسان وما التي يجب أن يختارها وكيف يكون مسار هذا الصراع، فلابد أن نتحدث حول هذه المواضيع في المستقبل.

فلسفة خلق الإنسان / هوية الإنسان الرئيسة / حقيقة الدين

السؤال الذي لابد أن نجيب عنه بادئ ذي بدء ونهضمه جيدا هو أن لماذا جئنا إلى هذه الدنيا

أساسا؟ لقد جئنا إلى الدنيا لنرغب ونشتهي بعض الأشياء ثم لا نمد أيدينا إليها. جئنا لنحب بعض الأشياء ثم نعاني من حرمانها. جئنا إلى الدنيا لنجاهد شهواتنا. ثم ما قيمة العلم في هذه الظروف؟ العلم خادم لهذا الحدث وهذه الملحمة. العلم خادم لهذا الجهاد. هذه هي قيمة العلم. فلا قيمة للعلم بالأصالة بل هو خادم لهذا الجهاد ويسهل عملية الجهاد على الانسان. إنه يهدي الانسان ويخدمه في هذا المسار. فان استخدمته في هذا السبيل يكون علما نافعا قيما، وإلا فيصبح مدعاة لهبوط مستواك وقلة قيمتك.

وكذلك الحال في العمل، فالعمل القيم هو ما كان ناتجا من هذا الجهاد. أما إذا كان من قبيل عمل النحل في عملية إنتاج العسل فلا فائدة له. إذ يطير النحل ويجلس على الأزهار ويمتص شهدها ثم ينتج العسل بمقتضى غريزته وطبيعته. فهل يستحق الأجر والثواب والجنان بهذا الإنتاج؟! كلا، إذ لا قيمة لهذا العمل ولأن الله لم يعلمها عملا آخر، ولم تتردد النحلة بين خيارين قط حين طيرانها في البساتين والحدائق، ولم تهش نفسها إلى الميتة مثلا لتبقى مترددة بين امتصاص دم الميتة أو شهد الزهور! فبسبب هذا الفارق الأساسي، صار الزنبور زنبورا وصرت أنت آدميا. فمنذ أن عزم الله على أن يجعلك إنسانا، شاء لك أن تجاهد أهواءك فقد اخذ عنوان (مخالفة الأهواء) كعنصر محوري في تعريف هويتك الإنسانية.

لعلك تسأل: أي الرغائب أحاربها؟ ولكن قبل أن تطرح هذا السؤال حاول أن تثبت هذه الحقيقة في ضميرك، وهي أن قد خلقت من أجل مخالفة أهوائك. فحاول أن ترسخ هذه الرؤية وتثبتها جيدا، ثم يأتي الله ويعطيك البرنامج، إذ إن الدين هو برنامج جهاد النفس. فإن لم تكتبوا العبارة مئة مرة هذه الليلة، فعلى الأقل اكتبوها بخط كبير مرة واحدة وانصبوها أمامكم.

إن الدين عبارة عن برنامج لجهاد النفس ومخالفة بعض الأهواء. هذا هو برنامج الدين، ولكن قبل أن يكون جهاد النفس برنامج الدين، كان جزء من هوية الانسان وكان يمثل فلسفة خلق الانسان. كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (في خلاف النفس رشدها) (تحف العقول / ص 91). فان هوية الانسان وصلاحه، في هذا الجهاد بغض النظر عن أحكام الله ويوم القيامة، بل قد صبت تركيبة الانسان على هذا الأساس. فمن لم يجاهد نفسه يخرج عن تعادله ويترنح يميناً وشمالا.

لم يفهم الكثير معنى الدين ومعنى الحياة

أتذكر في أيام الصبى حيث كنا نذهب إلى المدرسة في طهران، كان المعلمون يمارسون الضرب ويؤدبون الطلاب بهذا الأسلوب. ذات يوم أحضر الأستاذ الطالب وقال له: ارفع يدك وبدأ يضربه. فكان الطالب يصرخ ويقول: (أوجعتني العودة، لا تضرب يا أستاذ)! فرد عليه المعلم متعجبا وقال: أنا أضربك لتتألم وتشعر بالوجع. يبدو أنك لا تعرف معنى هذا الضرب ولا تعرف سببه، إذ إن الغاية من الضرب هو الالم! فكلما كان الطالب يتأوه ويصرخ ويقول: أوجعتني وألمتني...، كان يقول المعلم: إنني جئت أضربك من أجل هذا الوجع والالم. فإن كنت غير راض، حاول أن لا أضربك أبدا، لا أن تعترض على وجع الضرب. فكانت نظرة هذا الطالب تجاه ضرب المعلم وتأديبه نظرة خاطئة.

وكذلك الحال في من يستدل على عمل ما لكونه يعجبه، ففي الواقع إن رؤيته للحياة غير صحيحة. فقد زعم أن الحياة هي مثابرة للحصول على الاهواء والمشتهيات. في حين أن الحياة على عكس ما يزعم تماما.

فقد جئنا في هذه الدنيا لنخالف أهواءنا ومشتهياتنا المتنوعة والمتضادة والمتعارضة ولابد لنا من أن نضحي ببعضها في سبيل بعض أخر وتعسا لي إذ دائما أضحي برغباتي الفطرية والإلهية في سبيل الشكلاتة والحلويات وأمثال هذه التوافه وطوبى لكم إذ تضحون بمشتهياتكم الدنيوية في سبيل رغائب أسمى وأعلى.

لعلك تسألني ألا يمكن أن يكون الدين بالنحو الذي يوفر لنا ما نرغب وما نشتهي ولا يعارضها؟ لعلك لم تعِ القضية جيدا، ولم تفهم السبب من خلقك إنسانا. فإن أدرك الناس هذه الحقيقة، بعد ذلك لا يمكن لأحد أن يغضب في الشارع أو البيت. فهذا الذي يغضب وينفعل بمجرد أن يزعجه أحد، لم يفهم معنى الحياة. فهو يتصور أن المفترض والقاعدة هي أن لا ينزعج ولا يتألم في حياته. فلا يعلم المسكين أن فلسفة الحياة هي أن يتألم ويلاقي مختلف الإزعاجات.

أكتبوا هذه الآية المباركة؛ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، فقد خلق الله الإنسان في كبد، لا أنه مجرد قد اقترح عليه أن يكابد. فما معنى الكبد؟ يعني الشدة والأحداث التي لا تلائم هواه. هذه هي فلسفة الحياة، وليست أحداث جاءت بها الصدفة. فقد خلقت لهذا العناء وتجزع هذه الآلام.

لابد من تربية الأولاد على هذا الأساس

متى يبدأ الوالدان بتعليم الكبد والعناء لأولادهم؟ لا أن يفرضوا عليهم العناء ويصعبوا عليهم الحياة حتى يتعقدوا ويفروا من العناء. إن تربية الولد بمعنى أن ترحب صدره لاستقبال الكبد والعناء. فلابد أن يصبح الولد أهلا لتحمل الآلام والمشاكل. لابد أن تتحدث أمه معه بكل سهولة عن المشاكل والآلام والمحن التي سوف تنهال عليه في حياته. فكلما شعر الولد أنه تخلص من مشاكل الدنيا وآلامها لابد أن تنبهه على اشتباهه وتقول له: لا تنخدع عزيزي فسوف تأتيك سهامها وآلامها ومحنها، فلا تخف إذ هذه هي قاعدة الحياة. يروي يونس بن يعقوب يقول سمعت الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (ملعون كل بدن لا يصاب في كل أربعين يوماً قلت ملعون قال ملعون قلت ملعون قال ملعون فلما رآني قد عظم ذلك عليّ قال يا يونس إن من البلية الخدشة و اللطخة و العثرة و النكبة و الهفوة و انقطاع الشسع و اختلاج العين و أشباه ذلك إن المؤمن أكرم على الله من أن يمر عليه أربعون يوما لا يمحصه فيها من ذنوبه و لو بغم يصيبه لا يدري ما وجهه و الله إن أحدكم ليضع الدراهم بين يديه فيزنها فيجدها ناقصة فيغتم بذلك ثم يعيد وزنها فيجدها سواء فيكون ذلك حطا لبعض ذنوبه) (التمحيص / ص 31).

فان صببت كل نشاطك في الحياة الدنيا من أجل إزالة الآلام والمتاعب عن حياتك فأنك مشتبه تماما وتهدف إلى غاية لا تنالها أبدا. وإن دلت مساعيك العقيمة على شيء فأنها تدل على أنك لم تفهم معنى الحياة.

ما الذي نستطيع أن نغيره في خضم الآلام والمحن؟

الشيء الوحيد الذي تقدر عليه في خضم هذه الحياة المليئة بالمحن هو أن تختار نوعية محنتك وترفع مدى انتفاعك بمحنتك. بمستطاعك أن تحسن الاستفادة من ألمك كما بإمكانك أن تستقبل وتتلقى وتحتضن المحن التي اخترتها. فاستقبل المحن إذ قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل: (لا يمكن الفرار من حكومتك). ما معنى عدم إمكان الفرار من حكومة الله؟ أحد أوجه حكومة الله هي هذه السنن التي تتحكم في حياة الإنسان ومن أصول هذه السنن هو المحنة وكوني عاجزا عن محو المحن والآلام في الحياة.

فإني باق في المحن وسأعيش في خضم الآلام، ولكن إلهي! أعنّي على تحمل أفضل الآلام وأرقاها، لا أن أعاني وأتألم بسبب الحسد. لماذا نعاني من الحسد؟ فلنختر المعاناة والآلام الراقية والسامية إن كان لابد لنا منها.

أحد خيارات الالم والعناء التي أمامكم هو ألم الحسد، فان ألم الحسد وحزنه شديد جدا وحتى قد يصيب الإنسان بأمراض غريبة. والخيار الآخر هو ألم الحسرة، وذلك أن تتحسر على ما فقدته وضاع منك، فهو حزن يحكي عن خلل عقائدي، إذ قال الله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]. هذه نماذج من الآلام والأحزان التعيسة والسلبية.

وهناك آلام جيدة، مثل ما لو تفضلت على أحد ورأفت به، ثم ينكر فضلك ولا يقدرك. أو أن تقوم بعمل أو إنجاز ما فيأتي آخرون ويشهرونه باسمهم. كيف تريد أن تحترق ويتألم قلبك، بالحسد أو بسرقة جهدك ونشاطك؟! أما أن تقول لي: لا أريد أن يحترق قلبي مهما كان السبب، فهذا ما لا يمكن. فلا تفر واختر أحدهما فلا يمكن أن يصلح الإنسان إلا أن يغصبوا حقه. إذ إن راقب الإنسان جميع الناس وجميع الشؤون حتى لا يظلمه أحد ولا يغصبه أحد ولا يأكل حقه أحد، فهو أشبه شيء بالذئب من الإنسان. فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ليس من الإنصاف مطالبة الإخوان بالإنصاف) (أمالي الطوسي: 280).

هل تظن أن الله يسمح لك بالفرار من هذا القانون وأن تعيش حياة هادئة بلا أن يظلمك أحد. فما إن تسلك سبيل الصلاح وتحاول أن تحسن نفسيتك وروحيّتك، وإذا يبتليك الله بأشخاص لا يقدرون فضلك وإحسانك فتندم من كل فضل وإحسان!

لا يمكن الفرار من الحزن والعناء فاختر ما شئت من أنواعها. أيهما أفضل التحسر على ما فاتك من الدنيا، أو حزن الخجل والندم بين يدي الله؟ فاذا كنت ممن يتحسر على الدنيا، لن تتمكن من البكاء والتحسر على فرص التقرب إلى الله، ولن تقدر على بكاء التوبة أبدا، إذ قد انشغل لبك بالأحزان الاولية الدنيوية.

كيف كانت مراقبة أولياء الله

لقد آمن أولياء الله بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] فأخذوا يراقبون قلوبهم، لكي لا يعتريها حزن سيء للحظة واحدة، وفي المقابل لا تخلو قلوبهم من حزن جيد. لقد جعلوا حياتهم على أساس أن لا تخلو من الأحزان الجيدة. وأنا أعرف بعض أولياء الله الذين كانوا يؤذون وحتى يضربون من قبل زوجاتهم. هذا هو قانون الحياة، إذ قد أعد الله المرارة والعناء والحزن والبلاء للجميع.

إن استطعت أن تجعل أحزانك أحزانا راقية جيدة، تزدهر وتنمو. سلام الله على الحسين (عليه السلام) إذ كل ما اشتدت عليه المصائب والأحزان يوم عاشوراء ازداد وجهه إشراقا. كما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (وكان الحسين ـ عليه السلام ـ وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم) (معاني الأخبار/ 288).

لمّا عفا الله النبي إبراهيم (عليه السلام) عن ذبح ابنه إسماعيل، حزن إبراهيم وتمنى ان لم يؤمر بذبح الكبش. إنه كان يحب إسماعيل (عليه السلام) ولكنه حزن بعد هذا الإعفاء، إذ فاتت منه فرصة التضحية وتقديم القربان. ما معنى القربان وتقديم الأضحية أيها الإخوة؟ هو أن تذبح شيئا تحبه في سبيل الله وبأمر الله. فحزن إبراهيم لأنه لم يوفق لتقديم الأضحية في سبيل الله، إذ لم يقدم ابنه إسماعيل. وكان إبراهيم صادقاً في حزنه واكتئابه.

أسألكم سؤالا؛ هل أن الله قد خفف الحزن والبلاء على إبراهيم بإعفائه عن ذبح إسماعيل؟ هل تتصورون ذلك؟! كلا، إذ لم يخفف الله على إبراهيم أبدا. إنه قد عفاه عن ذبح ابنه إسماعيل ولكن كشف له عن حدث مفجع آخر لا تساويه فجيعة ذبح مئة إسماعيل. لقد قال الله سبحانه له: (يا إبراهيم من أحب خلقي إليك فقال يا رب ما خلقت خلقا هو أحب إلي من حبيبك محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ فأوحى الله تعالى إليه أفهو أحب إليك أم نفسك قال بل هو أحب إلي من نفسي قال فولده أحب إليك أم ولدك قال بل ولده قال فذبح ولده ظلما، على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي قال يا رب بل ذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبي) وكان إبراهيم صادقا في هذه الاجوبة. ثم نقل الله قلب إبراهيم إلى كربلاء وإلى جانب حفرة مقتل الحسين (عليه السلام)، فكأن كل هذه القصة كانت مقدمة لمجلس عزاء الحسين ثم قال له: (يا إبراهيم فإن طائفة تزعم أنها من أمة محمد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما وعدواناً كما يذبح الكبش ويستوجبون بذلك سخطي) (الخصال، ج 1، ص 58]. فهل قد خفف الله على إبراهيم؟ كلا بل أوجع قلبه بألم وحزن أشد. فلو كان قد ذبح إسماعيل لما انفجع قلبه بهذه الشدة، إذ لم يأخذ إسماعيل موقع الحسين (عليه السلام) من قلب إبراهيم (عليه السلام).

توبوا إلى الله من أحزانكم الرخيصة

لابد أن نبحث عن الآلام والأحزان الراقية والبناءة. ولنتب إلى الله سبحانه في هذه الليلة من الآلام السيئة التي تحمّلناها وبذرنا بها طاقاتنا وأتلفنا بها قوانا فقضينا بها على إنسانيتنا وسوّدنا بها قلوبنا ولم نحصل بذلك غير الألم والعناء. فلنتب من هذه الآلام التعيسة، ونتقرب بهذه التوبة إلى درجة الاستغفار.

كيف كان أولياء الله، وكيف عاشوا وما كانت آلامهم وأحزانهم؟ فكل أحزانهم كانت في خدمة الله وفي سبيل الله وبسبب ما كانوا يشعرون به من البعد عن الله والبطؤ الذي كانوا يشعرون به في مسيرتهم نحو الله. فهذا كان حزنهم وألمهم وكانوا يزدادون حزنا وألما يوما بعد يوم.

كان يتجلّى لهم الله سبحانه بشيء من جماله وآلائه، فكانوا يحزنون من بعدهم عن الله وطول المسافة بينهم وبين الله، مع قربهم واتصالهم بالله. وكلما يتجلى لهم الله سبحانه يأخذهم الخجل والحياء والحزن والحسرة، إذ يرون أنفسهم عاجزين عن أداء شيء من حق الله عليهم. ولهذا يبكون ويضجون ويسكبون الدموع ويطيلون الوقوف بين يدي الله.

لماذا لا نقدر على تجرّع هذه الآلام والأحزان؟ لأننا غرقنا في مستنقع الحياة الدنيوية وانشغلنا بآلامها وأحزانها وعنائها عن تلك الأحزان الراقية. ينقل السيد أحمد ابن الإمام الخميني أن الإمام كان يمسح دموعه في آخر سنة من عمره بالمنشفة وما كان يكفيه المنديل! وهذا حزن لا علاج له، إذ مهما أجابه الله ولطف به وتجلى في قلبه، يبقى يشعر بمدى بعده عن الله وتبقى دموعه تنهمر من شدة هذا الحزن الجميل والرائع.

أما نحن التعساء فلا نشعر بهذا الحزن. إذ أردنا أن نفر من الأحزان والغموم ولم نخضع لقاعدة الحياة وفلسفتها. فما زلنا نعترض على خلقنا وفلسفة خلقنا، ونفر من الآلام والمتاعب كالأطفال.

صلى الله عليك يا أبا عبد الله

يا أبا عبد الله! إن ما شاهده إبراهيم الخليل من مسافة آلاف السنين وفجع به طيلة حياته، قد شاهدته العقيلة زينب من مسافة أمتار. ساعد الله قلب زينب، فيا لها من امرأة عظيمة. ألهي في هذا الشهر المبارك وفي هذه الجلسات عرفنا على عظمة مقام العقيلة زينب.

لا أدري، فلعل قد خطر لإبراهيم هذا السؤال أن من الذي رأى الحسين (عليه السلام) في آخر لحظات حياته، ومن الذي ودعه آخر مرة. ألا يا إبراهيم! العقيلة زينب هي آخر من ودعت الحسين (عليه السلام) هي التي حيرت عقول الرجال بصبرها وطاقتها على تحمل هذا المصاب العظيم. وأنا لا أدري أين كانت زينب حينما رفع رأس الحسين (عليه السلام) على الرماح؟

ألا لعنة الله على القوم الظالمين.. 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي