الناحية الفنية لمكة في زمن الدولة العباسية
المؤلف:
احمد السباعي
المصدر:
تاريخ مكة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع
الجزء والصفحة:
ج1، ص 177-179
4-11-2020
1257
الناحية الفنية :
واذا انتقلنا الى اوساط المتظرفين والماجنين واللاعبين وجدنا مكة تعج بترفهم ومجالي الانس كما كان الشأن في العهد الاموي ، كما يرى ان مدى هذا التظرف والفن لم يدم طويلا في العصر الذي ندرسه لان الغنى الذي كان يتمتع به الحجازيون طيلة العهد الاموي وصدرا من العهد العباسي الاول بدأت موارده تنضب بفعل التحول السياسي الذي اقتضته ظروف الحياة في الحجاز فقد كانت سياسة الامويين كما علمنا فيما سلف تقتضيهم ان يغدقوا على الحجازيين الأموال الطائلة والهبات العظيمة ليشغلوهم بها عن التطلع الى الخلافة فأثرت مكة من هذه الهبات واثرت المدينة ، وانغمس المترفون منهم فيما انغمسوا ، فلما جاء العباسيون لم يكن لهم هم الا العناية بالفرس مؤسسي دولتهم فتحولت الهبات الحكومية الى القادة والعظماء من مدن العراق او خراسان وبذلك ضعف شأن الحجاز بالتدريج وبدأ الفقر يأخذ طريقه الى بيوتاته المترفة ، ولم يبق لهم من تلك الهبات الطائلة الا نفحات الحجاج من الخلفاء او العظماء وبعض الصلات اليسيرة ، يضاف الى هذا ان الحجازيين لم تتحسن علاقاتهم جيدا مع العباسيين فقد كانوا ـ كما مر بنا ـ مصدر تعب طويل لاقى العباسيون فيه كثيرا من العناء وبذلوا الكثير في سبيل اخماد ثوراتهم ، ويصح لنا ان نضيف الى هذه الثورات خروج البدو في خلافة الواثق واعلانهم الفساد والاذى ولا يكفينا ان نعتذر لهذا الفساد بفقر البادية او جوعها لان الحاكمين بأمرهم من بني العباس لم يكونوا بالذين تعنيهم فلسفة الاخلاقيين بقدر ما يعنيهم تدعيم دولتهم وتوطيد اركانها فالخارجون بأي الاسباب ومن اي الألوان لا يستحقون الا الحرمان والموت.
كل هذه الاسباب مجتمعة تركت اثرها في الهبوط بمستوى الثروات في الحجاز، وساعد الاسراف في الترف، والبذل في تجنيد الثائرين، وجدب البلاد الطبيعي على ضعف الحياة فيه ثم ما لبثت ان جرته الى الفقر وادت به الى موارد الحاجة.
ولعل البقية الباقية من بيوت الترف وأصحاب الفنون ضاقت بالفاقة التي انقلب اليها الحجاز فتسللت في ارض الله بحثا وراء المتعة وسعيا الى التكسب فقد حدثنا صاحب الأغاني عن مشاهير كانوا يكتسبون بفنونهم في العراق منهم يحي المكي (١) وابن جامع (٢) ويزيد حوراء (٣) ودنانير (٤) ، وجميعهم مكيون هجروا بلادهم الى العراق ونقلوا اليها معهم فنونهم ويذكر صاحب الأغاني ان ابراهيم الموصلي (٥) وهو من أشهر المغنيين في العهد العباسي اخذ فنه عن رجل من أهل الحجاز وفي هذا ما يدل على مبلغ ما استفاده العراق من هجرة الحجازيين كما يدل على ان الهجرة بالفن الغنائى كانت امرا واقعيا دعت اليها حاجة المغنيين للتكسب.
ويلوح ان هبوط مستوى الثروات في مكة في هذا العصر وارتحال اصحاب الفن من المغنيين واللاعبين والمترفين ترك اثره في الحياة العامة فقد انكفأ الاهالي فيها على المنهل الوحيد الذي بقي لهم بين خلقات العلماء ومجالسهم فهيأ ذلك الى اتجاه تعلموا فيه الزهد والتقشف والرضا والرغبة في ثواب التعلم والتفقه فكانت الحركة العلمية التي اشرنا اليها في صدر بحثنا والتي رأينا أجلة العلماء بسببها يبرزون في التفسير والحديث والافتاء.
وتبع هذا ان اشتهرت مكة في هذا العصر بكثير من عبادها وزهادها وبدأ المهاجرون من هذه الطبقة يجدون في مكة مأوى يفرون إليه من زيف الحياة في الامصار متفيئين بظل الكعبة منقطعين للعبادة حولها وتبع ازدياد المنقطعين واكثرهم من طبقات فقيرة ان احتشد الفقر باحتشاد هذا الصنف من الناس وبدأ المحسنون يبنون لهم التكايا ويرتبون لهم الصدقات، وبذلك خطت مكة خطوتها الاولى في هذا العصر نحو العيش في ظل التكايا وقد ظهر أثر ذلك واضحا في العهد العباسي الثاني.
_______________
(١) يحيى بن مرزوق المكي من الموالي ، أديب من المغنين المشهورين ، نشأ بمكة في العصر الاموي ، توفي سنة ٢٢٠ ه (الأعلام طبعة قديمة ج ٣ ص ١١٥٥).
(٢) المكي : مغن مشهور كان خبيرا بالألحان له أخبار مع الرشيد وأدباء زمانه. توفي حول سنة ١٨٧ ه (٨٠٩) م المنجد.
(٣) من الموالي كنيته أبو خالد : مغن من طبقة ابراهيم الموصلي ولد ونشأ بالمدينة ودخل العراق في عهد المهدي.
(٤) جارية يحيى البرمكي ، من اشهر المغنيات في القصر العباسي ماتت حول ١٩٣ ه (٨١٥) م الموسوعة الميسرة.
(٥) ابراهيم بن ميمون التميمي النديم الموصلي أوحد زمانه في الغناء واختراع الالحان. توفي سنة ١٨٨ ه (الاعلام طبعة قديمة ص ١٩)
الاكثر قراءة في مكة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة