النواحي العامة في عهد الخلفاء الراشدين
المؤلف:
احمد السباعي
المصدر:
تاريخ مكة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع
الجزء والصفحة:
ج1، ص 95- 99
7-10-2020
1345
النواحي العامة في عهد الخلفاء الراشدين
الناحية الدينية والعلمية:
توسعت ثقافة مكة في هذا العهد على ضوء دينها الجديد، وبالرغم من أن قبائل العرب في كثير من جوانب الجزيرة تراءى لها أن ترتد على أثر موت الرسول لولا أن أدركها حزم أبي بكر فان مكة ثبتت على ما تعلمت.
وعندما ندب فريق كبير من رجالها للاشتراك في تأديب العاصين من مرتدي القبائل أو اختير للعمل في المدينة بجانب بيت الخليفة ظل الكثير من شيوخها عاكفا على ما علمه القرآن وظل شبابها يتدارس ما حفظه من آياته وزاد عدد الكاتبين الذين حفلوا بتدوين ما تلقنوا من آياته عن شيوخ الصحابة وكبار المهاجرين.
وظل المسجد الحرام على صغره يزدحم في هذا العهد برجال الحديث والقراء وأصحاب الفتوى، وظلت حلقاتهم تناقش تفسير الآيات وتقارن بينها وبين ما عرفت عن القواعد في لغة آبائهم من قريش ويتضاعف اتساع الحلقات في مواسم الحج ويشتد تنافس الطلب كلما هبط من المدينة أحد الصحابة المشهورين بترددهم على مجالس رسول الله.
الناحية الاجتماعية:
اتسعت في هذا العهد هجرة المكيين باتساع الفتوح وعظم ثراؤهم، فبدأت رؤوس الأموال تتضخم عما كان عليه الأمر في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، وبدأت تجارة قريش في مكة تتجاوز الحدود التي كانت تعرفها في عهد رحلتي الشتاء والصيف.
وتدفق المهاجرون من أنحاء الأمصار المفتوحة وتدفق بتدفقهم شيء من لغاتهم وكثير من عاداتهم فعرف المكي في طعامه بعض الألوان الجديدة واتخذ بعض الأردية التي قلدها في أواخر العهد الجاهلي بعد أن حذف منها الحرير الذي علمه القرآن تحريمه واستعاض عنه بالمبالغة في التصبيغ وتلوين الأثواب بالأحمر والمورد والأصفر الفاقع.
وبدأت مجالس السمر التي كان يتفنن المترفون في اعدادها تأخذ اشكال الحلقات يدرس فيها بعض العلوم وتتلى المواعظ ويحدث فيها أصحاب السير والمغازي أو يتبسط المتمولون في أحاديثهم فيها عن التجارة وأصناف السلع المجلوبة. وتعلمت مكة في هذه الأثناء معاني التوحيد في الحكم فنسيت التعصب لشيوخها في البطون والقبائل ودانت جميعها أول ما دانت لحكم عتاب بن أسيد فاعتبرته مصدرا وحيدا للأوامر والنواهي بعد القرآن والسنة بعد أن كانت في جاهليتها موزعة بين عشرات الشيوخ يحكمونها بشتى أنواع الحكم.
ودأب عتاب على الحدب عليهم وتوزيع عدله بينهم بالتساوي بصورة لم يعرفها المجتمع في مكة قبله ، وكان لهم من حلمه وتواضعه ما غمرهم به في بحبوحة من الأمن لا يخشون فيها عتوا من مستبد ولا ارهاقا من ظالم وظل الأمر على ذلك طيلة العهود التي تولاها عمال الخلفاء الراشدين فقد كان هؤلاء العمال يعرفون قربهم من مركز الخلافة وعلاقتهم بأصحاب الشأن في المدينة.
الناحية العمرانية:
وتكاثف زحام البيوت في هذا العهد حول المسجد لأن الأغلبية من مهاجري الآفاق كانوا يفضلون قربه فأخذ وسط أم القرى شكل المدينة المكتظة وتركت الأطراف للقبائل التي تنزلها تؤدي معاني الضواحي للبلدة.
ولم يزد الاكتظاظ في طول البلدة عن «المدعي» من الناحية الشمالية وعن أوائل الهجلة وقبل الشبيكة من الناحية الجنوبية أما شرقها الى غربها فقد كان تكاثف السكان فيهما من أوائل مدخل أجيادين الى القشاشية الى النواحي القريبة من سوق الليل وشعب بني هاشم ومن سويقة الى قرارة المدحي الى الجزء القريب مما نسميه الشامية.
وبدأت الثروات في عهد عثمان تزيد أرقامها في مكة عما عهدنا في عهد الشيخين ذلك لأنه أضيف الى نشاط مكة التجاري مصدر جديد من مصادر الثراء ذلك هو عطاء عثمان وليس غريبا أن يكون عطاء عثمان مصدرا للثراء فقد كان قبل خلافته من أجواد العرب الممتازين ونوادره في هذا معروفة مشهورة فلما انقادت اليه الخلافة وكانت الفتوحات قد اتسعت وغنائم الأمصار قد انهمرت على المدينة كان لا بد لجود عثمان أن يتسع مداه ولا بد لجلة قريش وكبار أهليها من ذويه وأقاربه أن ينالهم جوده الواسع ، ذكروا أنه أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلحة مائتي ألف وأعطى غيرهم مثل ذلك فتدفقت الأموال على مكة إلى جانب ما تدفق اليها من غنائم الحروب وجلب الرقيق اليها من أطراف الأرض المفتوحة شراء أو اهداء فأينعت الحضارة وكثرت الأيدي العاملة في المزارع المحيطة بمكة وأنشئت الجنات في بعض ضواحيها وحفرت الآبار واتخذت السدود من مياه الأمطار ووجدت الاقطاعات الضخمة في أراضي الطائف ، وأكثرها ملك للقرشيين وانتقل الى هذه الاقطاعات كثير من قريش يسهرون على غلاتها وقد ظل كثير من بطونهم يعيش الى اليوم في بعض ضواحي الطائف.
وماجت مكة على أثر هذه الحركة بسكانها من القبائل النازحة اليها والموالي المجلوبين من الفرس والروم وبدأت تستقبل فى عهد عثمان كثيرا من الذين نزحوا عنها في عهد الشيخين للالتحاق بالجيوش الفاتحة.. عاد إليها البعض بما كسبه من غنائم كما عاد البعض الآخر بما في صدورهم من العلوم فحفلت مكة بحلقات المعلمين كما حفلت أسواقها بمتاجر أهل الثراء ولم تشترك مكة في فتنة عثمان التي اشتركت فيها أهم أمصار الإسلام وإذا كان بعض المهاجرين من أهلها في المدينة اتصلوا بالفتنة من بعض أطرافها فذلك بحكم بقائهم فيها واشتغالهم بالسياسة العليا في حكومتها.
ولعلنا لسنا في حاجة الى استقصاء الأسباب التي عصمت مكة من مزالق الفتنة لأننا ألمعنا فيما سلف من بحثنا في عهد عثمان ان مكة بحكم جوارها بالمدينة واتصال عائلاتها بكبار المهاجرين هناك كانت تتمتع في حكومة عثمان بمعاملات خاصة لا أثر فيها للتذمر الذي يدعو الى القلاقل والفتن. وعندما نادت عائشة بقيامها لم يتبعها من مكة إلا الأقلون وأكثرهم من أشياع بني أمية واتباعهم وبعض المشتغلين بالسياسة العليا وهؤلاء لا يكونون الرأي العام في البلاد.
وكما تعاونت مكة مع ولاة عثمان مدة خلافته وساعدت في تنشيط الحركة العمرانية لعهده رضيت بولاة علي وأخلصت الود لهم ولما أراد قثم بن العباس ان يحارب الترف الذي بدرت بوادره كنتيجة لتضخم الثروات التي أشرنا اليها كادت أن تسلس له القياد وتصيخ الى دعوته ، واني أكاد أجزم انه لو طال عهد قثم.
الاكثر قراءة في مكة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة