الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
محمد عبده والثورة العرابية
المؤلف:
عمر الدسوقي
المصدر:
في الأدب الحديث
الجزء والصفحة:
ص:290-292ج1
1-10-2019
1337
كان محمد عبده يختلف مع جمال الدين في طريقه الإصلاح، فبينما الأول يريد أن تقفز الأمة قفزًا، وتتمتع بالشورى والحرية على يد مجلس نيابي يشرع لها القوانين, وتكون الحكومة مسئولة أمامه، كما تكفل في ظله حرية الفرد الشخصية؛ إذ بمحمد عبده وأصحابه يرون أن الإصلاح لا ينتج إلّا إذا تربت الأمة وتعلم أبناؤها كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم, وأن يسير الإصلاح تدريجًا في كل ناحية، حتى في العادات، "وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها, ثم يطلب بعض التحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة, فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلّا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون(1).
وكان يرى أن الشرق إنما ينهض على يد مستبد عادلٍ يحكمه خمس عشرة سنة, يصنع فيها ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا, مستبد يكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويقهر الجيران على التناصف، ويحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يجملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، عادل لا يخطو خطوة إلّا ونظرته الأولى إلى شعبه الذي يحكمه, وإن هذا رأي رياض باشا.
وانقسمت الأمة فريقين، فريق النهضة السريعة والإصلاح العاجل, ويتزعمه شريف باشا, وهو كما صوره محمد عبده "من أقوى عوامل النهضة التي انقلبت إلى فتنة" في رأيه، ومن ألسنة هذا الفريق وأسلحته البتارة أديب إسحق، وفريق يود النهضة البطيئة المتدرجة, ويتزعمه رياض باشا, ويناصره في رأيه محمد عبده(2).
(1/290)
ولما قامت الثورة على يد العسكريين, وتزعم عرابي مطالب الذين يريدون المجلس النيابي، وانضم إليه كثير من زعماء الأمة, وفي مقدمتهم سلطان باشا، وعبد الله نديم، وامتزجت مطالب الجنود بمطالب الأهالي، وطلب العدالة بين الضباط بطلب الحكم النيابي بإلغاء الاستبداد، لم يكن محمد عبده من المحبين لهذه الثورة أو العاملين فيها؛ لأنه كان يكره عرابي باشا، ويعتقد أنه شهم في الكلام, ضعيف في الحرب، أليق به أن يكون واعظًا للعوام من أن يكون زعيم أمة، ويقول فيه: "كان أحمد عرابي ينظر إلى رؤسائه من الجراكسة نظر العدو إلى عدوه، وكان يحتقرهم في نفسه لاعتقاده إنهم دونه في المعرفة، ويرى أنه أحق منهم بالرتب العالية التي كانوا يتمتعون براتبها ونفاذ الكلمة فيها، وربما لم يكن مخطئًا في الكثير منهم، وكان أجرأ إخوانه على القول وأقدرهم على إقامة الحجة" ونسي محمد عبده أن عرابي كان يبادل هؤلاء الجراكسة احتقار باحتقار، لأنهم كانوا ينظرون إلى المصريين دونهم في كل شيء, وحرمهم المناصب العالية، وأنهم السادة وهم الخدم.
وكذلك كان مناوئًا للثورة في أول الأمر, ويعترف بذلك صراحة فيقول: "كنت معروفًا بمناوأة الفتنة واستهجان ذلك الشغب العسكري، وتسوئة رأي الطالبين لتشكيل مجلس النواب على ذلك الوجه، وبتلك الوسائل الحمقى.. مررت ببيت "طلبة" ثالث يوم عيد الفطر فسمعة جلبة، ورأيت بعضًا من صغار الضباط يجولون من جانبٍ إلى آخر من البيت, فدخلت للزيارة فوجدت عرابي، وجمعًا غفيرًا من الضباط، ووجدت معهم أحد أستاذة المدرسة الحربية، فجلست واستمر الحديث في وجهته، وكان موضوعه: الاستبداد والحرية وتقييد الحكومة بمجلس النواب، وأن لا سبيل للأمن على الأرواح والأموال إلّا بتحويل الحكومة إلى مقيدة دستورية, فأخذت طرفًا من البحث، فأقمنا على الجدل ثلاث ساعات، كان عرابي والأستاذ في طرف والكاتب في طرفٍ وهما يقولان: إن الوقت قد حان للتخلص من الاستبداد، وتقرير حكومة شورية، والكاتب يقول: علينا أن نهتم الآن بالتربية والتعليم بعض سنين, وليس من اللائق أن نفاجئ البلاد بأمر قبل أن
(1/291)
نستعد له، فيكون من قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد يفسد المال، ويفضي إلى التهلكة"(3).
فأنت تراه يسمي الثورة فتنةً وشغبًا عسكريًّا، ووسائل حمقى، ويعارض في قيام حكومة دستورية، ويرى أن الأمة غير مستعدة للحياة النيابية في ذلك الحين.
لم يكن محمد عبده مشايعًا للثورة في أول الأمر؛ لأنه لم يكن معتقدًا بها ولا في صلاح الأمة لأن تتولى أمورها بيدها، وأخذ يناهضها ويقول: "ليس من الحكمة أن تعطي الرعية ما لم تستعد له، فذلك بمثابة تمكين القاصر في التصرف بماله قبل بلوغه سن الرشد وكمال التربية المؤهلة والمعدة للتصرف المفيد" ويقول مرة أخرى، وكأنه كان يتكلم بلسان القدر: "إن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركة الحكومة في إدارة شئونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنًى، فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع؛ لأنه ليس تصويرًا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالًا أجنبيًّا يسجل على مسببه اللعنة إلى اليوم القيامة"(4).
ولم يكن محمد عبده من الموالين لتوفيق باشا حتى يُتَّهَمَ بأنه ناهض الثورة من أجله، ولكنه كان مستقل الرأي، وبعد مدةٍ لم يستطع أن يقف مسلوب اليد والأمة كلها في صف واحد، وهو وفئة قليلة في صف، ورأى المسألة تتعلق بكرامة الأمة, بعد أن تدخل المواثيق ويحرر بيانات الثورة للشعب وللدولة، ويحض قومه للتجنيد ويحمسهم للقتال، ولا يدخر في سبيل ذلك وسعًا، وكان يستعين بالوقائع "وهي الجريدة الرسمية" على نشر أفكار الثورة(5), وصار يرى أن مصر أصحبت صالحةً لحكم نفسها بنفسها, وأن الثورة قد علَّمت الناس الاتجاه نحو المنافع العامة, فلم يعودوا في حاجة إلى تربية وتعليم".
(1/292)
وأخيرًا أخفقت الثورة وسجن محمد عبده مائة يوم، وحُقِّقَ معه, وحكم عليه بالنفي, فاتخذ بيروت ملجأً(6).
__________
(1) من مقالة الأستاذ الإمام تحت عنوان "خطأ العقلاء". انظر تاريخ الأستاذ الإمام, ج2 ص123.
(2) كتب محمد عبده مقالات في الشورى, وقد كانت من وحي جمال الدين, ولم يكن مؤمنًا بها, بل كان يرى أن تنشأ أولَا المجالس البلدية, ثم بعد سنتين تأتي مجالس الإدارة لا على أن تكون آلات تدار, بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار, ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية.
(3) مذكرات محمد عبده عن الثورة العرابية وتاريخه, رشيد رضا ج1 ص217.
(4) المنار ج7 ص412 وما بعدها.
(5) المنار ج8 ص416.
(6) تاريخ محمد عبده جـ2 ص217