x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
القصة
المؤلف: عمر الدسوقي
المصدر: في الأدب الحديث
الجزء والصفحة: ص:391-408ج1
17-9-2019
2196
وموضوع القصة موضوع طويل وشائق، فهناك تاريخ القصة ونشأتها في العالم، وأنواع القصة من: خرافة ومثل، وحكاية, وأقصوصة, ورواية, ثم ألوان الرواية من: واقعية أو خيالية أو تاريخية أو نفسية, إلى آخر هذه الأبحاث، ثم هناك شروط القصة وكيفية بنائها, وما يشترط في المقدمة والحوادث والعقدة والجو والحل، وهل تخالف القصة القصيرة في تركيبها وإنشائها الرواية؟ وبعد ذلك كله
(1/391)
هناك القصص الأوربي، والقصص العربي، وهل الأدب العربي كما يزعم بعض الباحثين مجدب من القصة؛ كل هذه موضوعات كنا نود البحث فيها، وإيفاؤها حقها(1), ولكنها كما ترى طويلة وتحتاج إلى كتاب خاصٍّ نتناول فيه القصص منذ نشأته إلى اليوم، يتعرض للقصص العربي بالتفصيل مبتدئًا بالعصر الجاهلي, والموازنة بين خرافات الجاهلية وأساطير اليونان والرومان؛ ثم يتكلم على قصص القرآن، ثم القصص الإبداعي في العصر الأموي, أي: قصص الحب العذريّ، ثم تأثر الأدب العربي بالآداب الأجنبية، ولا سيما الأدب الفارسي, وظهور كليلة ودمنة، وقصص ابن عبدوس الجهشياري، والصادح والباغم, ثم ظهور المقامات، وبعد ذلك كله ظهور ألف ليلة وليلة, ومقدار ما به من فن، ومنزلته في عالم الأدب، ويتعرض الباحث في الأدب العربي حين يكتب في كل هذا للأثر العربي الخالص في هذه القصص، وللتأثير الأجنبي فيها؛ ليستخلص من كل ذلك حكمًا على العقلية العربية، وعلَّك قد رأيت من إثارة هذه الموضوعات أمامك أنها تحتاج إلى كتاب خاص، يتكلم عنها بإسهاب ويوفيها حقها من البحث والتمحيص، ولعل ذلك يكون قريبًا.
أما الآن فإني أتعرض للقصة من ناحية واحدة، دعاني إليها كثرة ما ترجم من أدب الغرب وقصصه في أخريات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ودعوى الغربيين بأنها نتاج يصعب على العرب إخراج مثله؛ إذ ينقصهم الخيال المبتكر والعقل الخالق.
يدعي هؤلاء أن السبب في فقدان القصة من الأدب العربي هي البيئة التي عاش فيها العرب دهورًا طويلة في صحرائهم المجدبة، التي قلما يطرأ على بساطها تغير، فشمسها ضاحية, وهواؤها راكد، لا غابات فيها تشق أشجارها أجواز الفضاء، وتتلون أوراقها ألوان مختلفة تبعًا لتغير فصول السنة، ويشعر من يغشاها برهبة تملأ جوانحه، وقشعريرة تسري في بدنه، ولا كهوف فيها تتحدث عن شعوب اتخذتها مسكنًا أمدًا غير يسير، ثم هجرتها، بعد أن تحضرت، وخلفت
(1/392)
فيها آثارًا لا تزال ناطقة, ولا سماء صاخبة متقلبة مزمجرة هادرة، ولا جبال يكسوها الثلج فيخطف البصر ويظهر جبروت الطبيعة؛ فلا بدع إذا جاء الخيال الساميّ صورة من هذه الصحراء، وعلى العكس من ذلك البيئة التي عاش فيها الآريون قبل أن يدخلوا إلى أوربان وهي شمال بلاد الهند، فإن الطبيعة فيها قاسية قسوة عارمة، والمناظر متنوعة، والغابات كثيفة دكناء, والجو متلقب لا يستقر على حال, فالرعود القاصفة، والريح العاصفة, والمطر الهطال, والبروق الخطافة, والسحب تتراكم في السماء كأنها جيوش يدفع بعضها بعضًا, وقد بثت هذه الطبيعة في نفس الإنسان الذي عاش في أحضانها شيئًا من الخشية والرعب وألهمته الأساطير والخرافات، فكان ذلك بدء القصة، وقد اختزن العقل الأوربي من صور هذه الحياة الأولى شيئًا غير قليل، وكان له بهذا الخيال المجنح والعقلية الخصبة، والنظرة الفاحصة، وهذه المواهب هي القصة.
فالقصة في نظرهم الصورة المثلى التي يتجلى فيها الخيال وتظهر العبقرية، وخلوّ الأدب العربي منها فيما يزعمون دليل على ضعف العقلية العربية، وقد جاراهم في هذا بعض أدبائنا غير مدركين ما في هذه الدعوى من خداعٍ وأخطاء، استمع إلى الأستاذ أحمد أمين وكيف يجعل قلمه صدًى لهذه الفكرة الخاطئة فيقول عن العربي: "إن خياله محدود وغير متنوع، وقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته، وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف المثل الأعلى، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله، قلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنًى جديدًا, ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب": ويقول في موضوع آخر: "والمزاج العصبي يستتبع عادة الذكاء، وفي الحق إن العربي ذكي يظهر ذكاؤه في لغته, فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة، والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلّا أن يفجأ بالأمر فيفجؤك بالجواب الحسن، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى
(1/393)
الواحد على أشكالٍ متعددة فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل: إن لسانه أمهر من عقله"(2).
هذا هو ما يقول الأستاذ أحمد أمين، ويقول مثله توفيق الحجيم(3) وعباس العقاد في الفصول(4) ونسي الأستاذ أحمد أمين حين أنكر أن العرب عرفوا المثل الأعلى, أو أشاروا إليه, قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (6) وأما أن المثل الأعلى كلمة واحدة أو كلمتان, فهذا لا يقدم في القضية ولا يؤخر، فلا الكلمة الواحدة تدل على عمق الخيال ولا الكلمتان تدلان على تقصيره، وهذا الكلام -وللأسف- صدًى لما يفتريه الشعوبيون على العرب، وما يقدمونه للانتقاص منهم والغض من شأنهم قديمًا وحديثًا.
ولنعد إلى القصة وإلى هذه الخرافة -خرافة العقلية السامية والعقلية الآرية- فالقصة الفنية لم تعرف في الأدب العربي إلى سنة 1740م؛ حيث ألف "رتشردسن" قصته "باملا"(7)، وعدها النقاد قصة فنية, بل عدوها القصة الأولى، واشترطوا في القصة الجديرة بهذا الاسم شروطًا أهمها أن تكون واقعية، وفرقوا بين القصة وبين الشعر في هذا الباب بقوله: "الشعر صوت ينطق بما هو خارق للمألوف، وبما هو أسمى من مجرى الحياة المعهودة, وبالإحساس النادر الذي لا يلم بالإنسان إلّا قبسات متباعدة، فهو على الجملة يتحرك في مجال أعلى من مجال الحياة الواقعية، أما النثر فهو -على نقيض ذلك- أداة تعبر عن كل هذه الأشياء تعبيرًا أدق وأوفى مما يستطيع الشعر.. من هنا كان النثر أداة ملائمة للتعبير عن حوادث الحياة اليومية التي تجري على المألوف، ولا تكون عظيمة
(1/394)
المغزى, ولما كانت القصة حكاية تروي بالنثر وجهًا من أوجه النشاط والحركة في حياة الإنسان، فخير لها إذا أن تقص قصة عادية عن الإنسان العادي الحقيقي, كما تجري حياته في عالم الواقع المتكرر كل يوم".
"الحكاية النثرية المثلى" -أي القصيدة- هي التي تشتمل كل ما للنثر من قدرة على التعبير، وقد علمت أن النثر من شأنه أن يعالج الواقعي المألوف، وإذًا فروعة القصة وبراعتها أن تروي حكاية الحوادث المألوفة الواقعية الجارية.. ولا يمكن لقصة بمعناها الصحيح أن تنشأ إلّا إذا اهتم الناس أولًا بأجزاء الحياة وتفصيلاتها اهتمامًا يحول التافه إلى شيء ذي وزن وشأن، وإلّا إذا أخذوا يستمتعون بمطالعة أوجه الحياة المألوفة كما تقع كل يوم".
"على أن القصة الفنية الصحيحة تختار بطلها رجلًا عاديًّا ممن أهملتهم صحائف التاريخ ووقائعه، إذًا ليست القصة بحاجة إلى الرجوع إلى الماضي لانتقاء أبطالها من أعلام التاريخ, وأولى لها أن تقصد إلى تصوير هؤلاء الناس الذين نعيش بينهم. أضف إلى ذلك أن معرفة الدقائق التي أحاطت بحياة البطل التاريخي متعذرة أو مستحيلة"(8) هذه هي القصة في عرف النقاد الغربيين تعنى بالوقائع وبالجزئيات وبالتفاصيل, وتبعد عن الخيال كل البعد، وإذا كان الأمر يحتاج إلى خيال وإلى مثلٍ أعلى, فالشعر هو وسيلة التعبير، وهذا الرأي الذي قررنا هو رأي المدرسة الواقعية في الأدب, والتي ابتدأت تتجه نحو واقع الحياة منذ القرن الثامن عشر، ولها اليوم السيطرة على الأدب الغربي كله، وقد فصلنا الكلام عن المذهب الواقعي في كتابنا "المسرحية" وأظنك أدركت الغرض الذي من أجله سقنا لك رأي نقاد الغرب في القصة؛ لأن العرب إذا لم يبرزوا في هذه القصة بمعناها الفني عند الغربيين فذلك لسببين:
"إلى قوة الخيال عند العرب، وسطوة ذلك الخيال، فهو دائمًا مجنح يسبح في عالم المثل العليا -لا كما يقول الأستاذ أحمد أمين- ويأبى أن يعنى بالتوافه وبالحياة الواقعية وبالتفصيلات والجزئيات، وبالرجل العادي الذي أهمله التاريخ,
(1/395)
والذي لا يأبه له الناس, وإنما يعمد دائمًا إلى ما هو أسمى من ذلك وأجل شأنًا، ولذلك كان الشعر أعلى صور البيان عند العرب، ومفخرة أدبائهم.
ومن العجب أن يرجع الأستاذ توفيق الحكيم عن تعظيم شأن القصة، ويفرق بينها وبين الأدب بقوله: الفرق بين الأدب وبين القصة؛ كالفرق بين المناطق العليا في الإنسان والمناطق الأخرى, وإذا كانت القصة تصور الإنسان في حياته، فإن الأدب يصور الفكر في حياة الإنسان، ذلك أن الإنسان ليس مجرد شخصية تتحرك في محيط البيئة المادية من ريف أو حضر أو منزل أو مقهى أو مكان عمل, مما درج القصاصون على تسميته بالحياة الواقعية، ولكن الإنسان أيضًا فوق ذلك وأكثر من ذلك عقل يتحرك في عوالم فكرية مرتفعة، وهي روح يسبح في معانٍ شعرية سامقة، فالعناية بحياة هذا الجزء الأعلى من الإنسان هو من اختصاص الأدب، ولكن انتشار القصة باعتبارها مطالعة سهلة, قد دفع الكثيرين إلى اختصار الطريق، والهرب من الجهد، واتخاذ القصة مركبًا هينًا، لا يكلف أكثر من سرد حوادث محلية، وحبك مواقف، ووصف أشخاص، ورسم مناظر من الحياة الجارية بأي أسلوب اتفق، ليطلق على هذا العمل الزهيد، بعدئذ اسم الأدب المبتكر والخلق الأصيل(9)".
إذًا فالقضية على عكس ما يدعي الشعوبيون، ومن انخداعٍ بأقوالهم، ويؤيد قولنا هذا أن العربيّ لما اتصل قديمًا بآداب الفرس والهند لم يعجبه منها إلّا النوع الخياليّ المجنح الذي ينطق الحيوان، ويشخص الجماد، ويحلق بعيدًا عن مستوى الحياة الواقعية وأفعال الناس وأقوالهم، وقد أخذ العرب يحاكون هذا النوع من القصص حتى برعوا فيه، وعد ابن النديم في الفهرست من كتب الأسماء والقصص التي ألفها العرب على نمط كليلة ودمنة والصادح والباغم لابن الهبارية مائة وأربعين كتابًا.
ولما ترجمت المجموعة الأولى من كتاب ألف ليلة وليلة، كانت تحتوي ألف خرافة فارسية وتسمى "هازار إفسانه" غير فيها العرب وبدلوا، وأضافوا إليها
(1/396)
أشياء كثيرة, حتى خرج من كل ذلك كتاب ألف ليلة وليلة، وهو ما هو عند الغربيين في الخيال الغريب والتأليف العجيب، والأجواء الساحرة، والافتنان في تصوير الشخصيات, وأنواع الملذات, فصار مضرب المثل، ومنبعًا ينهل منه كل من يريد أن يوصف بسعة الخيال، وشروده وجموحه، وقد أثر هذا الكتاب كثيرًا في الأدب الغربيّ منذ ترجم إلى اليوم -كما مر بك، مع أن جمهرة أدباء العرب لا يعترفون بسمو أدبه، ولا يقرون بعبقرية فنه، بل يعدونه أدبًا شعبيًّا يصلح للعامة في أسمارهم، والنساء في أويقات سرورهن، والأطفال في لهوهم وأحاديثهم، وفي العصر الحديث حين اتصل العرب بالأدب الغربيّ لم يرقهم منه إلّا الأدب الإبداعي "الرومانطيقي(10)" الذي يصور الأبطال، ويغرب في الخيال, ويترجم عن العواطف الجياشة, وظلوا حتى اليوم يعربونه ويحاكونه معرضين عن الأدب الواقعي إلّا القليل، مع أن الغربيين قد نفضوا أيديهم من هذا اللون الأدبي منذ مائة سنة، وعمدوا إلى الأدب الواقعي التحليلي كي يعالجوا به مشكلاتهم الاجتماعية المعقدة، وقد حاولت مدرسة لطفي السيد الأدبية أن تدخل الأدب التحليلي الواقعي، وظهرت لذلك آثار لم ترق بعد إلى المرتبة التي وصل إليها المنفلوطي أو الزيات في الأدب الرومانطيقي(11)".
كل هذا يدلنا على أنه ليس الخيال العربي، وعدم عمقه هو الذي حال بين العرب وبين القصة الواقعية التي لا يعترف النقد الحديث في أوربا بسواها, بل الخيال العربي المجنح وما به من عمقٍ هو الذي ربأ بالعرب عن أن ينزلوا إلى هذا القصص الواقعي.
وثمة أمر آخر حال بين العرب وبين هذ اللون من الأدب، وهو أن الأدب الواقعي يعالج مشكلات اجتماعية وأخلاقية، ويتخذه المفكرون والمصلحون الاجتماعيون مطيَّةً لبثِّ أفكارهم، وعرض مقترحاتهم في المشكلات القائمة بمجتمعاتهم، ويعرضون حلولًا يعتقدون أنها تذلل هذه المشكلات، وتنير لأولي الأمر السبيل حين يشرعون أو يطبقون القوانين، ويعمدون أحيانًا إلى المسرحية
(1/397)
ويظهرون الشخصيات التي تمثل الناس في حياتهم المألوفة، وأحيانًا يلجؤون إلى القصة الواقعية أو الأقصوصة, ويدعون الشخصيات التي يصورونها تتحدث كما هي في الحياة من غير أن يظهر المؤلف عواطفه أو يبرز شخصيته، حتى تكون قصته أقرب إلى الحقيقة وأدنى من الواقع, ولم يكن المجتمع الإسلامي في العصر الذهبي للأدب العربي أيام العباسيين, وأيام أن عرفوا شيئًا من القصص الفارسي وغيره بحاجة إلى من يحل له مشكلاته الاجتماعية والخلقية, ويشرع له القوانين ويبين له كيف يطبقها، فقد كان الشرع الإسلاميّ قائمًا, وهو تشريع من عند الله, يعتقد الناس أنه الحق والعدل، وأنهم في غنًى عن سواه من القوانين، وأن كل قضاياهم تحل على ضوئه، ولا يجوز لأحد أن يقترح تشريعًا مخالفًا أو حلًّا لا يوافق الشرع، ولذلك بطلت حاجتهم إلى مثل هذا القصص الواقعي الذي يصور الرجل العادي في حياته المألوفة ويحل مشكلاته ومشكلات مجتمعه.
إن أسطورة العقل الآري وفضله على العقل السامي, التي طالما رددها أدباؤنا من غير أن يفطنوا إلى ما فيها من شعوبية كامنة، ومن غير أن يتبينوا وجه الصواب بعد أن غشى عليهم الحق ما عليه الشعوب العربية من هوان وضعف، فاعتقدوا باطلًا أن الحق مع القوة, وأن العقلية الآرية لابد أن تكون متفوقة ما دام أصحاب هذه العقلية هم المسيطرون على شعوب الأرض, إن هذه الأسطورة تنم عن تعصبٍ مكينٍ في نفوس قائليها, وعلى مغالطة ظاهرة، فهذا "أرنست رينان" وهو من غلاة الشعوبيين وأشدهم قسوةً على العرب ودينهم, والساميين وعقليتهم, يقرر ما أورده أحمد أمين, ويحقر من العقلية السامية(12) ويقول: "يبدو أن التفكير الفلسفيّ للبحث عن الحقيقة كان وقفًا على الجنس المسمى بالهندي الأوربي, أو الآري الذي يمتد من الهند إلى أقصى الغرب, وإلى أقصى الشمال، والذي كان يبحث منذ أقدم العصور إلى الآن في تفسير الله والإنسان والعالم تفسيرًا عقليًّا, وقد ترك وراءه في كل مراحل تاريخه آثارًا فلسفية خاضعة لنواميس تطور منطقي، أما الساميون فإنهم بدون تفكير أو تدليل -أي بدون
(1/398)
فسلفة- وصلوا إلى أصفى وأنقى صورة دينية عرفها التاريخ.. والساميون تنقصهم الدهشة التي تدعو إلى التساؤل والتفكير؛ لأن اعتقادهم في قدرة الله يجعلهم لا يدهشون لشيء".
ثم ينتقل إلى الخصائص الأدبية التي ميزت العرب بالشعر, ووصمت غيرهم بالقصة, فيقول: "والتوحيد أثر أيضًا في الشعر العربي؛ لأن الشعر العربي يعوزه الاختلاف، فموضوعات الشعر -أي: أغراضه- محدودة، قليلة العدد جدًّا عند الساميين، والشعر العربي الذي تمثله القصيدة يعبر عن إحساس شخصي، وعن حالة نفسية خاصة, والأبطال في هذه الشعر نفس منشئيه، وهذه الصفة الشخصية التي تجدها في الشعر العربي والشعر الإسرائيليّ ترجع إلى خاصية أخرى من خصائص النفس السامية، وهي انعدام المخيلة الخالقة، ومن هنا لا نجد عندهم أثر للشعر القصصي أو التمثيلي"(13).
ولقد أردت بهذا النص الذي سقته لك من "رينان", أن أبين التعصب الذميم الذي يوحي إلى هؤلاء الشعوبيين مثل هذا الكلام، فيسلبون أممًا قويةً لها مجدها التاريخيّ والأدبيّ كل الفضائل العقلية -وهم في ذلك على باطل- ويتبعهم وللأسف فئة من أدبائنا، فيكونون حربًا على قومهم، ليس ثمة فرق -كما رأيت- بين كلام "رينان" وكلام "أحمد أمين", إن رينان ينعى على العقلية السامية أنها لم يكن لها "ميثولوجيا" أي: خرافات دينية كما عند اليونان، وليس أبعث على الضحك من التنويه بعظم العقلية اليونانية وما رزقته من عبقرية؛ لأنها آمنت بالخرافات، وألَّهَت الأشخاص والأبطال، والتمست الطريق إلى الحقيقة فضلت سواء السبيل، وأمعنت في الأساطير دون أن تصل إلى الله(14) لقد جعل
(1/399)
هؤلاء الباطل حقًّا، وأشادوا باليونان لأنهم أخفقوا في الاهتداء إلى وحدانية الله التي آمن العالم بها فيما بعد على يد موسى وعيسى ومحمد -عليهم السلام, والتي أمنت بها أوربا الآرية، وكفرت بآلهة "الأولب" وميثولجيا اليونان.
ولعلك تعجب إذا قررنا لك أن المدنية الأوربية الحديثة بنظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, وحياتها العلمية هي من أثر العقلية السامية قديمًا؛ حين تتلمذوا على العرب وشروحهم للفلسفة اليونانية والطب والكيمياء والجبر والهندسة وغيرها، وحديثًا ممثلةً في بني إسرائيل الذين نزحوا إليها من مئات السنين بعد أن عاشوا طويلًا في الصحراء، ولو كانت البيئة الصحراوية لا تنتج إلّا عقولًا مجدبة وخيالات ضحلة، وفكرًا غير قادر على الخلق والابتكار، ونفسًا لا تعرف الفلسفة ولا تقدرها, لظل اليهود كذلك في رحلتهم الدائمة بأوربا مهما تغيرت بهم البلاد والبيئات، ولكنا نرى الأوربيين في كثير من الأحيان يعترفون للتوراة بالفضل، وللشعب الإسرائيلي وليد الصحراء بالعبقرية والنبوغ، والعقلية السامية متكافئة في اقتدارها وعالميتها، واللغة العربية والعبرية توأمان نشأتا من أصل واحد, وهذا "رينان" يقول: "ليس في ماضي النوع الإنساني ما يثير اهتمام الفكر الفلسفيّ سوى تاريخ ثلاث شعوب، تاريخ إسرائيل، والتاريخ الإغريقي، والتاريخ الروماني".
وما بالنا نقص عليك أقوال الأوربيين، ولا نسوق لك الأمثلة الحية الصادقة على أن اليهود هم الذين أسسوا الحضارة الأوربية الحديثة، وهم قادة الفكر فيها حتى اليوم، على الرغم من أنهم قلة مضطهدة.
إن الفلسفة في ألمانيا ابتدأت من القرن التاسع عشر حين ظهر فيها الفيلسوف اليهودي باروخ "سبونزا"(15) في أمستردام، بعد أن درس ما جاء به فلاسفة قومه من أمثال ابن ميمون، وابن عزرا، وفلسفة ابن جبريل الصوفية،
(1/400)
وموسى القرطبي وغيرهم من فلاسفة اليهود بالأندلس، وهو الذي يقول فيه هيجل الفيلسوف الألماني "لن تكون فيلسوفًا إلّا إذا درست سبونزا أولًا"(16).
وكما بدأ سبونزا الفلسفة الحديثة في ألمانيا، وبنى على نظرياته أو حاول الرد عليها من أتى بعده من فلاسفة الألمان؛ أمثال: "كانت، وهجل، وشوبنهور، ونتيشه" فإن كارل ماركس 1818، وماكس نوردو 1849 اليهوديين قد توجا هذه الفلسفة النظرية التي ابتدأت تؤتي ثمارها في القرن العشرين, فهيجل الألماني وكارل ماركس اليهودي- واضع كتاب رأس المال, ومنشئ أول جمعية شيوعية ثورية، ومؤسس جماعة العمل الدولية، ومؤلف المتن الاشتراكي في السياسة الاقتصادية -قد بعثا الشيوعية، وفي كارل ماركس اليهودي يقول برناردشو الفيلسوف الإنجليزي المعاصر: "لا يدعي نبي الشيوعية عيسى أو محمدًا أو لوثر أو أغسطين، ولكنه يسمى كارل ماركس، وتبتدئ فلسفتهم بالفيلسوف الألماني هيجل، وفيورباخ، ويتوجها كتاب كارل ماركس: رأس المال، وهو توراة الطبقة العاملة وإنجيلها، ويصفونه بأنه ملهم ومعصوم، ومحيط بكل شيء خبرًا"(17) ولم يتجرد كارل ماركس -الذي اعتنقت روسيا بأسرها وعشرات الملايين في العالم تعاليمه، من يهوديته، فقد كان عضوًا بالجمعية اليهودية بباريس، وما نورد صاحب كتاب "لانحلال" فكان في بودابست من أكبر أعوان "تيودر هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، ووضع خطة إنشاء الدولة اليهودية بفلسطين.
وإذا أردنا أن نعد فلاسفة اليهود ومفكريهم الذين أثروا في الحركة الفكرية بأوربا أعجزنا الحصر، ولكن لا ننسى "فرويد" واضع فكرة التحليل النفسية، وصاحب نظرية العقل الباطن، وناهيك بما لها اليوم من مكانة في عالم الفكر، ولا ننسى "برجسون" اليهودي الفرنسي شيخ الفلسفة الحديثة وصاحب نظرية
(1/401)
مقاومة المادية في أوربا(18), وبرنادشو أشهر الفلاسفة المعاصرين مدين بفلسفته وآرائه لأستاذه اليهودي "صمويل بتلر" صاحب المبادئ العائلية الثورية، التي نادى فيها بإعطاء أفراد الأسرة من: الأم والفتيات والغلمان حق التصرف حسب أهوائهم على الرغم من إرادة الأبوين.
و"أينشتين" صاحب نظرية النسبية، وأكبر علماء العصر الحديث يهودي قح، و"توماس مان" و"إميل لودفج" الكاتبان الألمانيان المشهوران من نبغاء اليهود في العصر الحاضر.
إن جامعات أوربا تغص بالأساتذة الإسرائيليين، ويسيطر اليهود على شئون المال والاقتصاد والطب وصناعة الأفلام وإخراجها, والصحافة بأنواعه، حتى لا تخلو صحيفة في أوربا وأمريكا من نفوذٍ يهوديٍّ إما في رأس المال أو التحرير، وهكذا يستولي اليهود اليوم وقبل الحرب الأخيرة، وفي القرن الماضي على عقلية الشعوب الأوربية؛ فيقرؤون ما يريد اليهود، ويشاهدون في الخيالة ما يخرج اليهود، وهذا هو السر في أن هذه الفئة القليلة من الناس هي التي تتحكم في سياسة أوربا وأمريكا، وتخضعها لمشيئتها، وهذا هو السر في انتصار أوربا لهم في القضية الفلسطينية، وذلك لشدة سيطرتهم على الرأي العام الأوربيّ والأمريكي على السواء.
فهل بعد ذلك يفخر الجنس الآري بالخلق والابتكار, وهو خاضع لسيطرة أدنى العنصرين الساميين؟ ولو كانت المسألة ترجع إلى البيئة الأولى التي خرج منها الجنس السامي, ما كان لهؤلاء اليهود شأن يذكر في قيادة الفكر الأوربي، وقيادة الشعوب الغربية وإخضاعها لسلطانها، على الرغم من قلة عددهم وهوان أمرهم(19).
(1/402)
وأما المثل الأعلى الذي يدعي الشعوبيون أنه مفقود عند العرب, فحسبنا أن نقول في الرد على دعواهم: إن الحياة العربية في الجاهلية كانت مليئة بأمثلة الوفاء والكرم والشجاعة، كانت الفضائل والذكر الحسن هي الغاية التي يصبو إليها كثير من أبناء الصحراء, وكلها مُثُلٌ عليا, لو سارت عليها الإنسانية لسعدت(20)، ولقد برهنت لك على أن الكلمة موجودة في اللغة العربية وفي القرآن الكريم الذي نزل على عرب الجاهلية، ولو لم يعرف العرب هذه الكلمة ويفهموا مدلولها ما نزل بها القرآن الكريم، على أن الغرب لا يعرف في لغة من لغاته كلمات كثيرة تملأ الحياة العربية، وتفخر بها الإنسانية فكلمات "العرض" و"المروءة" و"النجدة" ليس لها ما يقابلها في الأعجمية.
وإذا عدنا إلى الناحية الأدبية وجدنا الشعر العربي -وهو مفخرة العرب ومجتلى بيانهم- تكثر فيه ألوان الحكمة مصوغة صياغة متقنة، وما الحكمة إلّا حقيقةً مجردة تدل على تفهم لأسرار الوجود، وعلى الخيال الشامل الذي ينتظم طبائع البشر وأحوالهم, ويصدر عليهم حكمًا يصلح لكل زمان ومكان, وينطبق على كثير منهم مهما اختلفت عصورهم وبيئاتهم.
وبعد فلنسأل سؤالًا آخر وهو: أحقًّا توجد فوارق عقلية أصيلة بين الشعوب، يمتاز أحدها بالذكاء الغالب، والعقلية الخالقة، والخيال المبتكر، وتسلب الطبيعة أحدها, فهو فدم في جملته بطئ التفكير، ليس له قدرة على الخلق والابتكار وإن أجاد التقليد؟؟ وإذا وجدت الفروق العقلية بين الشعوب كما يدعي المتعصبون لأجناسهم، والمنساقون وراء عواطفهم، فهل هذه الصفات لازمة للشعب لا تتغير بتغير البيئة والزمان؟ وعلى أي أساس وجدت هذه الفروق العقلية؟ أهي نتيجة للبيئة الطبيعية أم البيئة الاجتماعية؟
يقول سرل برت C.Burt في كتابه كيف يعمل العقل(21): إن هذه التعميمات التي تشغف بها بعض الجهات لتفضيل ما يسمونه الأجناس الآرية
(1/403)
على السامية، والشعوب البيضاء على الصفراء والسوداء, لا يمكن الأخذ بها على علاتها، حقيقةً إن ذكاء الزنجيّ المتوسط في الاختبارات التي طبقت إلى الآن لا يبلغ إلّا تسعة أعشار المتوسط من الشعوب البيضاء, ولكن الصينيين واليابانيين لا يقلون عن مستوى الغرب، وقد قام اثنان من طلبتي باختباراتٍ أثبتا بها أن ذكاء اليهود أعلى من ذكاء غيرهم.. ونتائج الباحثين في الولايات المتحدة تؤيد هذا, على أن هذه الفروق بين الأجناس مهما تميزت وتحددت فإنها ليست قط على درجة من العظم، فما لاحظناه قبل بين الذكور والإناث ينطبق هنا أيضًا على الأجناس المختلفة، فالفروق الواسعة في الذكاء بين الأفراد المنتمين إلى شعب واحد أوسع وأبعد مدى من الفروق بين شعب وآخر, فإذا أردنا فروقًا بينةً بين قوم وآخرين, فلنبحث عنها في الطبع أو المزاج؛ وهنا لا نجد مقاييس علمية نستعين بها، ولكنا نعتمد على الملاحظة، وما تكونه من فكرة عامة وهما دليلان غير مأمونين".
ويقول بعد استعراض أجناس أوربا المختلفة، وما بينها من خلافات في شكل الجمجمة وتركيب الأجسام ولون الشعر والعيون، وما يوصف به رجل الشمال من أنه مخلوق عمليّ، ورجل وسط أوربا بميله إلى الحقيقة، ورجل الجنوب بميله إلى الجمال: "ولكن العالم المدقق لا يكاد يسمع مثل هذه الدعاوى العريضة حتى يبدو عليه القلق والحذر، فإن حقائق الطبيعة الإنسانية قلما تخضع لمثل هذا التقسيم الحاد"(22).
وبعد دحض هذه الآراء المبنية على التعصب الجنسي والفخر الكاذب؛ كدعوى الألمان أنهم "من الشعوب الآرية أنبل الناس جميعًا" قال: "والآن أظن أن النقطة التي نستطيع التسليم بها هي أنه لا الجنس وحده، ولا البيئة الجغرافية وحدها بمستطيعة تعليل التفاوت البيِّن بين المدنيات المتعاقبة(23)".
(1/404)
لقد أقرَّ من طعنوا في الأجناس السامية وانتقصوا عقليتهم بذكاء هذه الأجناس, فـ "رينان" يقر للعربي بالذكاء وحضور البديهة كما مر بك، وأحمد أمين يعلل لهذا الذكاء بأن العربيّ عصبي المزاج، "والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة, كما يظهر في حضور بديهته(24)" وقد رأيت منذ لحظة ما أثبتته اختبارات "برت" وتلاميذه من ذكاء اليهود وتفوقهم في ذكائهم.
"والذكاء العظيم هو الركن الأساسي في النبوغ في أيِّ ميدان من ميادينه، وليس من الضروري أن نفترض أن موهبة الخلق الأدبي، أو الاستمتاع بالأدب تتوقف على ملكة أخرى خارقة أو خارجة عن حياته العادية" هذه هي النتيجة التي وصل إليها وارتضاها "برت" في بحثه لطرائق سلوك العقل في الفن, فقال: "كل هذه النواحي من البحث أدت إلى نتيجة واحدة، فالفنان -من حيث موهبته على خلق العمل الفني- كالمقدرة على تذوقه, لا تتوقف على ملكة إضافية خارجة عن مجرى حياتنا اليومية، وهي في درجاتها العليا ليست إلّا إحدى ثمرات الحياة العقلية الطبيعية(25)".
فإذا تقرر أن الأجناس السامية على نصيب كبير من الذكاء، وأن الذكاء العظيم أساس النبوغ في أيِّ ميدان من ميادينه، وأن موهبة الخلق الأدبيِّ لا تتوقف على ملكة أخرى خارقة، فالعربي بفطرته ومواهبه مهيأ للخلق الأدبي والنبوغ، وليس من الضروري أن يكون النبوغ هو ذلك القصص شعرًا ونثرًا, وقد عرفت منزلة القصص وأيّ لون من ألوان الأدب هو، وأدركت أن القصة لا تتطلب خيالًا جامحًا محلقًا عميقًا، وأن العرب صدفوا عنها لما وهبوه من خيال واسع، ولأن دينهم أغناهم عن النظر في حلول المشكلات الاجتماعية التي تعنى بها القصة, وقد مهر العربي في ألوان أخرى من الأدب، بل في أعلى أنواع التعبير وأسماها وهو الشعر. وليست القصة إلّا أحد مظاهر الخيال كله، "فالفخر
(1/405)
الحماسة والغزل والوصف والتشبيه والمجاز, كل هذا ونحوه مظهر من مظاهر الخيال(26), والخيال كما نعلم هو وضع الأشياء في علاقات جديدة، وهو نوعان: تفسيري وابتكاري، ويتمثل التفسيري في تلك الصيغ البيانية العددية، أما الابتكاري فيتثمل في خلق أشياء ومناظر وشخصيات ليس لها وجود، وكلا النوعين يغص به الأدب العربي على طريقته الخاصة، وقد أفضت في بيان ذلك في غير هذا الكتاب(27), ومع ذلك فالشعر العربي في كل عصوره مليء بالقصص المحبوكة العقدة الرائعة الخيال(28), ولا يمنع أنه من الشعر الوجداني, فقد مرت بأوربا فترة ساد فيها الشعر الوجداني, ولا تزال له السيطرة, وبطل عهد الملاحم والمسرحيات الشعرية.
ثم هناك سؤال آخر علينا أن نسأله قبل أن ندع الكلام في هذا الموضوع، وهو: أحقًّا تبتدئ الحضارة الإنسانية بعلوم اليونان وثقافتهم، لم يسبقهم في ذلك سابق، وأن هذه الديانات والميثولوجيا والقوانين والفلسفة هي كلها من ابتكار اليونان، وحدهم وبذلك احتلوا هذه المكانة السامية في التاريخ، وبهم تميزت الشعوب الأوربية وفاقت غيرها؟
كثير من الناس الذين لم يبحثوا الموضوع أو بحثوه بحثًا سطحيًّا, يقولون في غير تردد: أجل! هذه المدنية والثقافة والفلسفة التي رويت عن اليونان هي من ابتكارهم، والإنسانية مدينة لهم بالشيء الكثير في هذا المضمار.
ولكن هناك من شك في ذلك, بل هناك من أثبت بأدلة يقينة أن اليونان في دياناتهم، آلهتهم، وأسماء بعض هذه الآلهة، وما تتطلبه الديانة من طقوس, ثم في قوانينهم، وفي آدابهم تتلمذوا على المصريين القدماء وأخذوا عنهم وأثبت أن
(1/406)
هوميروس في الإلياذة اقتبس كثيرًا من القصص المصرية بأشخاصها وخيالاتها وأجوائها، بل أخذ قصصًا مصرية معينة وأدخلها في ملحمته، وليس هؤلاء العلماء الذين قاموا بهذه الأبحاث من المتجنين على اليونان أو المبغضين لهم، بل على العكس هم من المعجبين بهم والمعنيين ببحث آثارهم وترجمتها إلى لغاتهم وشرحها والتعليق عليها، ولكن اطلعوا على أشعار مصرية, وآثار قديمة, وقرؤوا المصرية التي عثروا عليها فوجدوا التشابه بل التطابق.
ومن هؤلاء العلماء فيكتور بيرار Victor Berard الفرنسي مترجم الإلياذة وشارحها، ثم جولنيشيف M.W.Golenicheff الروسي أحد علماء المصرولوجيا، وقد أثبت عبد القادر حمزة باشا(29) النصوص المصرية القديمة التي عثر عليها هذان العالمان، والتي لها مشابه في الإلياذة، كما أورد الأدلة القاطعة التي لا يأتيها الشك على تلمذة اليونان للمصريين، ومن علمائهم ومشرعيهم وأدبائهم ومؤرخيهم أتى مصر وتأثر بما فيها من علوم ومعارف, ودرس على أساتذتها وكهنتها, وهو فصل ممتع حقًّا ولولا خشية الإطالة للخصناه تتمة للبحث، ولكن هذا الجزء أوشك على الانتهاء وهناك بعض نقط تحتاج إلى نظرة قبل أن نفرغ منه، وحسبنا أن نقول كما قال الأستاذ العقاد(30) في بدعة السامية والآرية واختلاف العقليتين، وكيف ظهرت هذه البدعة: "ونشأت في إبَّان ذلك بدعة الآرية والسامية، وهي تلك البدعة التي تقضي للآريين بالسبق والرجحان في كل فضيلة من فضائل الأمم أو فضائل الأفراد، وقد ظهر بطلانها الآن، أو ظهر على الأقل أن الحاجز الذي أقامه مبتدعوها بين أجناس الشعوب مصطنع ملفق لا يسلم من ثغرة شك هنا أو ثلمة ضعف هناك، بل هو ينعكس في أحوال شتّى, فتصبح المزية للساميين من حيث أرادها القوم للآريين، ولكن البدعة قد خدعت أناسًا كثيرين في إبان نشأتها, فتحدثوا عنها كتحدث الناس بالغرائب والملح المستطرفة، ومازالت تجني على الأفكار، حتى أوغل فهيا بعض الغلاة من دعاتها
(1/407)
فاستخرجوا منها دليلًا على رجحان بعض الأمم الأوربية على بعض، واستئثار جماعة من تلك الأمم بشرف السيادة والابتكار, وشعائر الحضارة والثقافة دون الجماعة الأخرى, فتصدى لها يومئذ من الأوربيين من ينكرها ويزيفها ويبالغ في السخر بها, بعد أن كانوا يتفقون على تروجيها، والإغضاء عنها حين كانت معرفتها لاصقة بالشرق وحده موقوفة عليه دون غيره".
وبحسبي الآن ما سقته من أدلة(31) على أن أسطورة العقلية السامية والآرية لا تثبت أمام الأدلة العلمية، وأن القصة، على الرغم من وجودها في الأدب العربيّ كما هي موجودة عند كل الأمم، وإن لم تأخذ القالب الفني الذي لم يظهر بالقصص الأوربي إلّا في أواسط القرن الثامن عشر, لا تحتل هذه المكانة الممتازة في عالم الأدب، ولا يوصف من لم ينبغ في تأليفها بعقم الخيال وجمود العاطفة وضحالة الفكر.
وكم كان بودي أن أفيض في أدب القصة, وأبين أصولها وكيفية إنشائها, ولكن هذا يحتاج إلى كتاب قائم بنفسه, وإنما دعاني إلى الخوض في القصة على هذه الطريقة إقبال المترجمين في العهد الذي نتحدث عنه عليها إقبالًا زائدًا، وتأثر الأدب العربي الحديث بها بعد ذلك تأثرا بالغًا، حتى دعا ذلك إلى القول بأنها لم يكن موجودة عند العرب, وأن العقلية السامية لا تستطيع إنتاج القصة لما بها من فقر في الخيال, وقد مر بك قبل عند كلامنا على الترجمة الجهود التي بذلت في سبيل ترويج القصة الغربية، وأن هذا الطور هو طور النقل والتمثيل, ولم يكن قد بدأ بعد طور التقليد والمحاكاة, ولا سيما في الرواية, وإن ابتدأ في المسرحية مبكرًا نوعًا ما, وسنعود إلى الكلام في توسع عن القصة في الأدب المصري الحديث في الأجزاء التالية -إن شاء الله, أما المسرحية فقد أفردنا لها كتابًا خاصًّا هو الآن بين أيدي القراء.
(1/408)
__________
(1) راجع دراسات أدبية ج1 المؤلف, ففيه فصل ضافٍ عن أدب القصة.
(2) راجع فجر الإسلام, ص46-47.
(3) في كتابه تحت شمس الفكر, ص63-84.
(4) راجع كتاب: الفصول للعقاد, وما نقله عنه Widmer في راسته عن محمود تيمور القصاص المصري ص15, وانظر كذلك خليل مطران في المقتطف م82ج, إبرايل 1933 ص500.
(5) سورة 16 الآية 62.
(6)سورة 30 الآية 26.
(7) راجع: Encyclopedia Britanica:
(8) راجع فنون الأدب تأليف تشارلتن, وتعريب الدكتور زكي نجيب محمود, من ص115 إلى 140.
(9) من مقال للأستاذ توفيق الحكيم بجريدة الأخبار بتاريخ 28/ 3/ 1948.
(10) راجع الدكتور إسماعيل أدهم في كتابه عن توفيق الحكيم الفنان الحائر ص14-25.
(11) المصدر نفسه.
(12) راجع Historire Generale et Systeme Compare, des Langues Semitiques par Ernest Renan. p. 1/ 18.
(13) ويقول رينان في موضع آخر: "الجنس السامي أدنى من الجنس الآري إذا قورن به، ذلك أن الجنس السامي ليست له هذه الروحانية التي عرفها الهنود والألمان، وليس للجنس السامي هذا الإحساس بالجمال الذي بلغ حد الجمال عند اليونان، وليس له هذه الحاسية الرقيقة التي هي الصفة الغالبة عند الكلتيين "سكان فرنسا وبعض البلجيك" وإنما يختص الساميون بالبديهة الحاضرة، ولكنها بديهة محدودة, وهم يفهمون الوحدة بشكل غريب، فالتوحيد هو أهم خصائصهم، وهو الذي لخص ويفسر جميع صفاتهم، ففخر الساميين في كونهم أول من عرف التوحيد، وعنهم أخذ العالم الديانات، والصحراء هي ملهمة الواحدانية لمنظرها الواحد المتشابه".
(14) راجع في أسباب تعدد الآلهة عند اليونان القدماء:
The Martyrdom Of man. y. Winwood Read, 144
(15) سبونزا Spinoza 1632م -1677, ولدة من أسرة برتغالية يهودية هاجرت إلى هولندا بسبب الاضطهاد الديني الذي لقيه اليهود بعد أن رحل العرب عنها، ومات سبونزا في سن الأربعين بعد أن لاقى في سبيل فلسفته عناء كبيرًا، راجع قصة الفلسفة الحديثة ج1 ص28.
(16) قصة الفلسفة الحديثة ج1 ص 128.
(17) راجع The Interligent Woman's Guide to Socialism, Sovictiem And Fascism. by G.B.
(18) قصة الفلسفة الحديثة, ص560
(19) لامني بعض الأصدقاء عند ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب على كتابة هذا الفصل عن اليهود وإظهار سلطانهم الفكري على أوروبا، ولقد سقت هذه الأمثلة، كما يرى القارئ لدحض تلك الفرية -فرية السامية - التي يتغنى بها الأوربيون المتعصبون.
وإذا كان اليهود علماء ومفكرين, فهذا لا يمنع أنهم من أردأ شعوب الأرض أخلاقًا، ولطالما حملت عليهم حملات شعواء على صفحات مجلة الرسالة في سنوات عديدة.
(20) راجع كتابنا "الفتوة عند العرب" فقد وفينا هذا الموضوع بحثًا ثمة.
(21) الجزء الثاني, ترجمة الأستاذ محمد خلف الله, ص165.
(22) كيف يعمل العقل ج2 ص167، وراجع بحثًا لنا في مجلة "نهضة أفريقية" 14 فبراير 1909 عن الفروق العقلية بين الأجناس.
(23) نفس المرجع ص180.
(24) فجر الإسلام ص44 طبعة ثانية.
(25) راجع "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده" للأستاذ محمد خلف الله ص33.
(26) فجر الإسلام, ص43.
(27) راجع كتابنا الفتوة عن العرب.
(28)خذ مثلًا قصيدة الحطيئة التي مطلعها:
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ... ببيداء لم يعرف بها ساكن رسمًا
وقصيدة زهير في الصيد: "وغيث من الوسمى حو تلاعه" وقصيدة امرئ القيس ويومه بدارة جلجل ومعلقة عمرو بن كلثوم، ومعظم شعر ابن أبي ربيعة ولا سيما قصيدته الرائية "أمن أل نعم أنت غاد فمبكر" وقصيدة البحتري في الذئب كلها من الشعر القصص.
(29) في كتابه على هامش التاريخ المصري القديم, ج1 ص 125-171.
(30) في كتاب سعد زغلول سيرة وتحية, لعباس العقاد, ص13-14 في فصل عن العقلية المصرية وطبيعتها.
(31) إذا أردت المزيد فاقرأ مقالة مجلة الأنصار بالعدد 46 السنة الرابعة، شوال 1363، وكتابنا "النابغة الذبياني" فقد تكلمت فيه عن موضوع القصة من زوايا جديدة, وأضفت إلى ما نفقده هنا براهين أخرى, ثم كتابنا "الفتوة عند العرب" وفيه فصل ضافٍ عن ميزة العقل العربيّ وتفوقه, مدعوم بالحجج العلمية القوية.