x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

الخطابة والمواعظ والنثر الصوفي

المؤلف:  د .شوقي ضيف

المصدر:  تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني

الجزء والصفحة:  ص :527ـ535

8-7-2019

7604

 

ضعفت الخطابة السياسية في هذا العصر، كما ضعفت الخطابة الحفلية، فكلاهما أصبح شيئا نادرا، وحتى ما بقى منهما إنما هو شظايا قليلة كتلك الشظايا

ص527

التي حكاها الطبري عن صاحب الزنج، بل لقد أجمل ما رواه من خطبه (1) بحيث لا نكاد نتبينها في وضوح. وضعفت الخطابة الدينية على ألسنة الخلفاء وإن ظلت مزدهرة في المساجد وفي خطب الجمع والعيدين، فقد أصبح من المعتاد ألا يخطب الخليفة يوم الجمعة إلا ما كان من الخليفة المهتدى الورع الذي ظل في الحكم نحو عام، فإنه كان يذهب إلى المسجد الجامع بسامرّاء في كل جمعة ويخطب الناس ويؤمّهم (2)، ويروى أن الخليفة المعتضد حاول أن يخطب في بعض الأعياد، فأرتج عليه ولم تسمع خطبته (3)، ولم يخطب خليفة بعده في العصر سوى الراضي، ولم تؤثر خطبه.

ولكن الخطابة الدينية إن كانت قد ضعفت على ألسنة الخلفاء فإنها نشطت نشاطا عظيما في المساجد فقد كانت تعقد حلقات للوعاظ والقصّاص وكان الناس يتحلّقون من حولهم فيما يشبه احتفالات الأعياد، وكان منهم الرسميون الذين تعيّنهم الدولة للخطابة في أيام الجمع ومنهم غير الرسميين، وهم الجمهور الأكبر. وكانوا يستمدّون في وعظهم وقصصهم من القرآن الكريم والحديث النبوي وقصص الأنبياء والمرسلين، ومنهم من كان يقرأ القرآن الكريم ويفسره، وكانوا يعنون بعون الضعفاء والمساكين واليتامى وبالجهاد وحرب الأعداء مستعينين في ذلك بأعمال البرّ. وكثير منهم كان يذهب مع الجيوش المجاهدة للوعظ في الحرب وبثّ روح الحماسة الدينية في نفوس المجاهدين من مثل أبى العباس الطبري الذى مرّ ذكره والذى كان يعظ ويقصّ على المجاهدين في طرسوس. ولم يكن يخلو يوم من أيام رمضان من واعظ أو قاصّ بعد الصلاة. وكانت العامة تشغف بهم شغفا شديدا، حتى ليحكي عن الطبري أنه تعرّض لقاصّ ببغداد ينكر عليه بعض ما يقوله، فصاحت به العامة ورموا باب داره بالحجارة. ولا بد أن نفرق بين هؤلاء القصاص الوعاظ وبين قصّاص آخرين كانوا يجلسون للشباب والغلمان في الطرقات ببغداد ويقصّون عليهم نوادر الأخبار والحكايات الهزلية، وكانوا يسلكون في المشعوذين، ويضطرب بعض المستشرقين فيخلط بينهم وبين القصّاص الوعّاظ،

ص528

ولا صلة بين الطرفين إلا في الاسم، وهؤلاء هم الذين كانت الدولة تطاردهم أحيانا كما مرّ بنا في غير هذا الموضع، أما قصّاص المساجد الوعّاظ فكانوا موضع رعاية الدولة منذ عصر بنى أمية، وظل ذلك بعدهم، حتى لنجد بعض من يسند إليهم القصص في المساجد يسند إليهم القضاء (4). أما الوعّاظ فكان منهم دائما خطباء المساجد في الجمع والأعياد وائمتها في الصلاة، وكان منهم كثيرون فصحاء بلغاء، فكان الناس يحتشدون حولهم، مكبرين لهم إكبارا عظيما.

وكانت المساجد دائما مفتوحة ليلا ونهارا، ودائما يوجد فيها الناس للصلاة وتوجد فيها حلقات التدريس، فكان الواعظ يختار أي وقت يشاء لموعظته، وإن كان عادة يجعلها تالية لبعض الصلوات. ومن كبار الوعاظ الذين شهدتهم بغداد في العصر أبو الحسن على بن محمد الواعظ المصري المتوفى ستة 338 وكان يحضر مجلس وعظه الرجال والنساء.

وأخذت تنشأ منذ أوائل العصر طبقة جديدة من الوعّاظ، كانوا يسمّون بالمذكّرين، ويسمّى مجلسهم باسم مجلس الذكر أي ذكر الله وتسبيحه، وكانوا من الصوفية، بل كانوا خطباءهم ووعّاظهم الممتلئين صلاحا وتقوى وورعا، وكانوا يعظون الناس في المساجد وفى الزوايا، خالطين الخوف بالرجاء، مستشهدين ببعض آي القرآن وبعض الحديث، وقد يفسرونهما ويعلقون عليهما، مضيفين من حين إلى حين عباراتهم الصوفية التي تأسر العقول والقلوب. ومن وعّاظهم في العصر يحيى بن معاذ الرازي المتوفّى عام 258 ويروى أنه جاء إلى شيراز، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فأول ما بدأ به قوله:

مواعظ الواعظ لن تقبلا … حتى يعيها قلبه أوّلا

وانهال الناس عليه بعد ذلك انهيالا. ومن أكبر وعّاظهم في العصر أبو حمزة الصوفي المتوفى سنة 269 وهو-كما مرّ بنا في الفصل الثاني -أول من تكلم على رءوس المنابر ببغداد خالطا مواعظه باصطلاحات

 

ص529

الصوفية وأفكارهم من صفاء الذكر وجمع الهمّ والمحبة والعشق والأنس. وكان هؤلاء الوعّاظ يجذبون إليهم الناس بأكثر مما يجذبهم الوعّاظ العاديون لقيام حياتهم على الزهد والتقشف ورفض كل متاع.

وتكوّنت حول هؤلاء الوعّاظ من المتصوفة سريعا حكايات كثيرة تصوّر جهادهم العنيف في قمع شهوات النفس ولذاتها وكيف كان الصوفىّ يفرض على نفسه عناء شاقّا مضنيا لا يطيقه إلا أولو العزم. وعادة تحتوى القصة أو الحكاية ما يلفت الصوفي إلى تقصيره وأن عليه أن يتحمل أهوالا ثقالا، فمن ذلك ما يروى عن بشر الحافي المتصوف المتوفى قبيل هذا العصر سنة 227 من أنه مرّ ببعض الناس فسمعهم يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل كله ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام مرة، فبكى حين سمعهم يردّدون هذا الكلام. وسأله سائل:

ما يبكيك؟ فقال: إني لا أذكر أنى سهرت ليلة كاملة، ولا أنى صمت يوما ولم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقى في القلوب أكثر مما يفعله العبد لطفا منه سبحانه (5) وكرما. ويحكى عن السّرىّ السقطي المتوفى سنة 251 أنه كان إذا أفطر كل ليلة ترك لقمة، فإذا أصبح جاءت عصفورة، وأكلت تلك اللقمة من يده، وذات يوم اشتهى أن يأكل الخبز بالقديد (لحم مقدّد) فامتنعت العصفورة من أكل اللقمة التي تعودت أكلها، فعاهد نفسه ألا يتناول أبدا شيئا من الإدام (6)! .

ويروى ابن أخته الجنيد أنه دخل عليه يوما، فوجده يبكى، فقال له:

ما يبكيك؟ فقال: جاءتني البارحة الصبية، فقالت: يا أبت هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أعلّقه ههنا، ثم إني نمت فرأيت جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء فقلت لها: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد في الكيزان، فتناولت الكوز، فضربت به الأرض فحطمته (7). وهما خبران رمزيان يصوران ما كان يأخذ به السّرىّ نفسه من الشظف في العيش والحرمان الشديد. ويحكى عن رويم بن أحمد المتوفى سنة 303، وكان مجردا من الدنيا زاهدا ورعا، أنه اجتاز في بغداد وقت الهاجرة ببعض الطرقات وهو عطشان، فاستسقى من دار، ففتحت

ص530

الباب صبيّة ومعها كوز ماء، فأخذه منها وشرب، فاستدارت له قائلة: صوفيّ يشرب بالنهار! فما أفطر بعد ذلك اليوم قط (8).

وهذه الحكايات الصوفية أخذت تكوّن ضربا من ضروب الآداب الشعبية العربية، إذ كان الناس يتداولونها رجالا ونساء وشيبا وشبّانا، وكأن التصوف كان عاملا قويّا في ظهور تلك الآداب وطبعها بطوابع الشعب ولغته وألفاظه. وتتصل بها الحكايات التي أخذت تؤثر عن كرامات المتصوفة، ومرّ بنا في الفصل الثالث أن الحكيم الترمذي المتوفى سنة 320 صنّف في تلك الكرامات كتابا سمّاه «ختم الولاية» يريد ولاية الصوفية وأنهم أولياء الله في أرضه، ولذلك تظهر على أيديهم كرامات كثيرة. وممن تكثر إضافة الكرامات إليه في هذا العصر بنان الحمّال المصري المتوفى سنة 316، فقد قيل إن خمارويه أمر بأن يطرح بين يدى سبع، فطرح وبقى ليلته. وجعل السبع يشمه ولا يضره. فلما أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسّبع بين يديه. وعجب خمارويه، فأطلقه واعتذر إليه (9). وحكى أنه كان لرجل على آخر دين: مائة دينار، بوثيقة. فطلب الرجل الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بنان ليدعو له، لعله يجد الوثيقة الضائعة، فقال له بنان: أنا رجل قد كبرت وأحب الحلواء، اذهب إلى قريح (حلواني) فاشتر رطل حلواء واثتنى به، أدعو لك، ففعل الرجل، وجاءه. فقال له بنان: افتح ورقة الحلواء، ففتحها، فإذا هي الوثيقة. فقال: هذه وثيقتى. فقال بنان: خذها، وأطعم الحلواء صبيانك. ولم يكن يؤمن بمثل هاتين الكرامتين إلا عوامّ المتصوفة، وهو ما يعنينا، إذ دارت حكايات هذه الكرامات على ألسنة العامة، وبذلك كان التصوف عاملا قويّا في العصر على ذيوع لون شعبي جديد من الأدب، وهو لون قصصي، وقد أخذت تؤلف فيه المصنّفات مثل كتاب «ختم الولاية» الآنف ذكره، وكانت بدورها مصنفات شعبية تتداولها كثرة من الأيدي. ولعله من المهم أن نعرف أن خاصة المتصوفة وكبارهم في العصر كانوا ينكرون هذه الكرامات إنكارا باتّا، فيحكى عن أبى يزيد البسطامي المتوفى سنة 261 أنه قيل له إن فلانا يمشى في ليلة إلى مكة، فقال:

ص531

الشيطان يمشى في ساعة من المشرق إلى المغرب في لعنة الله. وقيل له: فلان يمشى على الماء ويطير في الهواء، فقال: الطير يطير في الهواء والسمك يمر على الماء (10).

وجاء رجل إلى سهل التستري المتوفى سنة 273. فقال له: إن الناس يقولون إنك تمشى على الماء، فقال له: سل مؤذّن المحلّة، فإنه رجل صالح لا يكذب، قال: فسألته، فقال المؤذن: لا أدري هذا. ولكنه نزل حوض الماء في بعض الأيام ليتطهر، فوقع في الماء، فلو لم أكن أنا لبقى فيه (11). ويروى عن بعض الصوفية أنه قال: كان في نفسى شيء من هذه الكرامات، فأخذت قصبة من الصبيان وقمت بين زورقين، ثم قلت: وعزّتك لئن لم تخرج لي سمكة قدرها ثلاثة أرطال لأغرقنّ نفسى. قال: فخرجت لي سمكة قدرها ثلاثة أرطال، فبلغ كلامه الجنيد. فقال: كان حقه أن تخرج له أفعى تلدغه.

والمهم أن التصوف نشر بهذه الحكايات المتصلة باحتمال المتصوفة لأثقال الشظف وما اعتقدته العامة فيما جرى على أيديهم من الكرامات أدبا شعبيّا قصصيّا كان يدور بين الناس. ولون ثالث من هذه الحكايات كان يقص أخبار المتصوفة لعل خير ما يصوره كتاب أخبار الحلاج. وهو أخبار وحكايات عنه بألسنة تلاميذه. تحمل أحواله وآراءه ومعتقده، فمن ذلك ما رواه تلميذه إبراهيم الحلواني.

قال (12):

«دخلت على الحلاج بين المغرب والعشاء. فوجدته يصلي، فجلست في زاوية الميت. كأنه لم يحسّ بي لاشتغاله بالصلاة. فقرأ سورة البقرة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية آل عمران، فلما سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها.

فلما خاض في الدعاء رفع صوته كأنه مأخوذ عن نفسه، ثم قال: يا إله الآلهة ويا ربّ الأرباب ويا من {(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)} ردّ إلىّ نفسى لئلا يفتتن بي عبادك، يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنّيّتي (وجودي) وهويّتك إلا الحدوث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إلىّ وضحك في وجهى ضحكات. ثم قال: يا أبا إسحق أما ترى أن ربي ضرب قدمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قدمه، فلم

ص532

يبق لي صفة إلا صفة القديم، ونطقي في تلك الصفة. والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدوث. ثم إذا نطقت عن القدم ينكرون علىّ ويشهدون بكفري ويسعون إلى قتلى، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون».

والحكاية تصور عقيدة الحلاج في أنه بتحمله للآلام الثقال أصبح-كما يزعم- في مرتبة عليا، بحيث ارتسمت الصورة الإلهية فيه، إذ ظهر فيه اللاهوت، وأصبح لا يفرّق بين نفسه وربه، فقد امتزج الحدث أو الحداثة فيه بالقدم، بل إنه لم تبق فيه صفة إلا صفة القدم، بخلاف من حوله من الناس، فهم جميعا يستشعرون الحدوث، أو قل كلهم حادثون، وهو وحده الذي أصبح يستشعر القدم، فلماذا ينكرون عليه التكلم عن القدم. مع أنه هو-كما يزعم-والقديم شيء واحد! .

وله عبارات تدل على أنه كان في بعض أحواله يؤمن بتنزيه الذات العلية عن التشبيه بالمخلوقات وفى أخباره عن أحمد بن سعيد الإسبينجانىّ قال (13):

سمعت الحلاج يقول: ألزم (الله) الكلّ الحدوث لأن القدم له. والذي بالجسم ظهوره العرض يلزمه. والذي بالإرادة اجتماعه قواها تمسكه. والذي يؤلفه وقت يفرّقه وقت. والذي يقيمه غيره الضرورة تمسّه. والذي الوهم يظفر به التصوير يرتقى إليه. ومن آواه محل أدركه أين. ومن كان له جنس طالبه كيف. إنه تعالى لا يظلّه فوق ولا يقلّه (يحمله) تحت. ولا يقابله حدّ ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف ولا يحدّه أمام. ولا يظهره قبل ولا يفيته بعد. ولا يوجده كان، ولا يفقده ليس (عدم). وصفه لا صفة له. وفعله لا علّة له. وكونه لا أمد له. تنزّه عن أحوال خلقه. ليس له من خلقه مزاج، ولا في فعله علاج، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم».

ويستمر الحلاج في مثل هذا التنزيه لله، فهو لا يشبه الكائنات في شيء ولا يشبهونه في شيء، تفرّد بذاته وصفاته عن ذواتهم وصفاتهم فهم حادثون وهو قديم، لا يلزمه شيء ولا يمسكه شيء، كلّ واحد لا أجزاء له، لا تمسه ضرورة ولا يلحقه وهم، ولا يؤويه مكان ولا تحتويه صفة، لا شيء فوقه ولا آخر تحته، لا يحدّه حدّ ولا جهة من الجهات، موجود قبل كل وجود، ولا يلحقه عدم

ص533

ولا فناء، ولا يصفه وصف لا يسأل عما يفعل، أزلي أبدي، ليس كمثله شيء، قديم والخلق جميعا حادثون. ومرّ بنا أنه ربما كان أول صوفي دعا للانفصام بين الحقيقة (التصوف) والشريعة، وفي أخباره أنه قال في رسالة له أرسل بها إلى بعض تلامذته (14):

«اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مواقف التوحيد، فإذا وصل إليها سقطت من عينه الشريعة واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق، فإذا ترادفت عليه اللوائح وتتابعت عليه الطوالع صار التوحيد عنده زندقة والشريعة عنده هوسا، فبقى بلاعين ولا أثر. إن استعمل الشريعة استعملها رسما. وإن نطق بالتوحيد نطق به غلبة وقهرا».

وواضح أنه يجعل الشريعة للناس العاديين، أما أهل الحقيقة من أمثاله فإنهم يسقطون الشريعة ويسقطون معها الفروض الدينية! فلا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة، بل إن المتصوف إذا ظل راقيا في مراقي الحقيقة العليا، سقطت عنده لا الشريعة وحدها، بل كل شيء حتى التوحيد! . ولعل في الفقرة الأخيرة من كلامه ما يشير إلى لون رابع من ألوان النثر الصوفي، هو تصوير الصوفية لمعتقداتهم في مصنفات خاصة، على نحو ما يلقانا في كتاب الطواسين له، ويحسن أن نعرض منه قطعة أو فقرة تصوّر كتابته الصوفية، ولتكن القطعة التي كتبها عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في مستهل الفصل الأول من كتابه، وهي تجري على هذا النمط (15):

«طس سراج من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلّى من بين الأقمار، برجه في فلك الأسرار، سمّاه الحق أميّا لجمع همته، وحرميّا لعظم نعمته، ومكيّا لتمكينه عند قربه، شرح صدره، ورفع قدره، وأوجب أمره، فأظهر بدره. طلع بدره من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة. . {(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)}. أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، همّته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم. . . وهو سيد البرية الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، كان مشهورا

ص534

قبل الحوادث والكوائن والأكوان ولم يزل، كان مذكورا قبل القبل وبعد البعد، هو الذي جلا الصّدأ عن الصدر المغلول، وهو الذي أتى بكلام قديم لا محدث ولا مقول ولا مفعول. . . فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت وأشرقت وأمطرت وأثمرت. العلوم كلها قطرة من بحره، والحكم كلّها غرفة من نهره، الأزمان كلها ساعة من دهره، هو الأول في الوصلة، والآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة».

و«طس» تبتدئ بها سور معروفة في القرآن الكريم، وقد اختار جمعها اسما لكتابه! وهو يشيد بالرسول عليه السلام متمثلا فيه فكرة اللاهوت، بل إنه ليجعل نوره المحمدي أول شيء خلقه الله. وقد ظل يظهر في نبوات الأنبياء منذ آدم، وليس ذلك فحسب. فهو مبدأ الوجود وروحه، وهو منبع العلم والعرفان والحكمة، أو هو الأول السابق في الوجود لكل وجود، وهو الآخر في النبوات وبين الأنبياء.

وكأنه الحقيقة الإلهية السارية في الوجود كله. فمنها يستمد الكون وجوده وكل نبي نوره. بل إنه هو المشاهد في كل نور. وذكر أن الرسول عليه السلام أتى بكلام قديم، وبذلك خالف المعتزلة مخالفة صريحة في قولهم بأن القرآن كلام الله ليس قديما بل هو مخلوق وحادث.

وواضح أن الحلاج كان يستخدم في كتابه الطواسين السجع. وبذلك لاءم بين أسلوبه وأسلوب الكتابة في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع فإن السجع أخذ يعم في الكتابات الأدبية. وربما كان في اختياره لهذا الأسلوب ما يدل على أنه أراد أن يرتفع بكتابه الطواسين عن الطبقة العامة إلى الطبقة الخاصة محاولا أن يؤثر فيها بما حشده فيه من السجع تارة ومن الشعر تارة ثانية، وكأنه كان يعرف قبل غيره أن العامة لن تفهم أفكاره الصوفية المعقدة، فقدّمها إلى الطبقة الخاصة مودعا فيها من السجع والشعر ما يفسح للرمز والتأويل.

ص535

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الطبري 9/ 414 وما بعدها.

(2) مروج الذهب 4/ 96.

(3) الطبري 10/ 31.

(4) الولاة والقضاة للكندي (طبعة جيست) ص 427

(5) رسالة القشيري (طبعة سنة 1346 هـ‍ بمصر) ص 20.

(6) القشيري ص 10.

(7) القشيري ص 11.

(8) القشيري ص 21.

(9) انظر في هذه الحكاية وتاليتها النجوم الزاهرة 3/ 221.

(10) القشيري ص 163.

(11) القشيري ص 164.

(12) أخبار الحلاج ص 20.

(13) أخبار الحلاج ص 31.

(14) أخبار الحلاج ص 73.

(15) الطواسين ص 9 – 14