بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين، واله الطاهرين.
الإمام أبو الحسن، موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، سابع أئمة أهل البيت عليهم السلام الذين تجسدت في شخصياتهم جميع مقومات العظمة، فكانوا مثالها الرائع ومنهلها الأصيل.
3- زهده عليه السلام:
لا شكّ أن الأئمة على نحو العموم من أزهد الناس في حُطام هذه الدُّنيا أبعدهم عن زخارفها ومفاتنها، كان الإمام الكاظم (عليه السلام) زاهداً في الدنيا، ومعرضاً عن مَبَاهجها وزينتها، فآثرَ طاعة الله تعالى على كل شيء.
وكان بيته (عليه السلام) خالياً من جميع أَمتِعَة الحياة، وقد تحدث عنه إبراهيم بن عبد الحميد فقال: "دخلت عليه في بيته الذي كان يصلي (عليه السلام) فيه، فإذا ليس فيه شيء سوى خصفة، وسيف مُعلَّق، ومصحَف"1.
وكان (عليه السلام) كثيراً ما يتلو على أصحابه سيرة الصحابي الثائر العظيم أبي ذر الغفاري الذي طلّق الدنيا، ولم يحفل بأي شيء من زينَتِها قائلاً: (رحم الله أبا ذر ، فلقد كان يقول : جَزى الله الدنيا عني مَذمّة بعد رغيفين من الشعير ، أتغذّى بأحدهما ، وأتعشّى بالآخر ، وبعد شملتي الصوف ائتزرُ بأحدهما وأتَردّى بالأخرى)2.
لقد وضع الإمام الكاظم (عليه السلام) نصب عينيه سيرة العظماء الخالدين من صحابة جَدِّه سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) يشيد بسيرتهم، ويتلو مآثرهم على أصحابه وتلاميذه، لتكون لهم قدوة حسنة في حياتهم.
وفي وصيته لهشام بن الحكم، تجده عليه السلام يبين أن الزاهد من لا يسمح لمُتع الدنيا أن تتحكم في نفسه، وألا تُمثل الدنيا عنده غاية يسعى اليها، قال عليه السلام: "يا هشام إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك. وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك.
يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب. وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.
يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة لانّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه. ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.
يا هشام من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين فليتضرّع الى الله في مسألته بأن يُكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه ومن قنع بما يكفيه استغنى ومن لم يقنع بما يكفيه لم يُدرك الغنى أبداً"3.

4- حلمه وتسامحه:
من أشهر ألقابه عليه السلام التي يُعرف بها هي هذه الصفة: الكاظم، وإنما سُمي بها لكثرة تجاوزه وحلمه وتسامحه وعفوه عمن كان يسيء إليه.
قال عَنْه مُحَمَّدٍ بْنِ طَلْحَةَ الشَّافِعِيِّ المتوفي 652 هجرية فِي كِتَابِهِ :
( هُوَ الْإمَامُ الْكَبِيرُ الْقَدْرِ، الْعَظِيمُ الشَّأْنِ، الْكَبِيرُ الْمُجْتَهِدُ الْجَادُّ فِي الْاِجْتِهَادِ، الْمَشْهُورُ بِالْعِبَادَةِ الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ، الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْكَرَامَاتِ، يَبِيتُ اللَّيْلَ سَاجِدًا وَقَائِمًا، وَيَقْطَعُ النَّهَارُ مُتَصَدِّقًا وَصَائِمًا، وَلِفرْطِ حُلْمُهُ وَتَجَاوُزُهِ عَنِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ دُعِيَ كَاظِمَاً، كَانَ يُجَازِي الْمُسِيءَ بِإحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَيُقَابِلُ الْجَانِيَ بِعَفْوِهِ عَنْهُ، وَلِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ كَانَ يُسَمَّى بِالْعَبْدِ الصَّالِحِ، وَيُعْرَفُ بِالْعِرَاقِ بَابَ الْحَوَائِجِ إِلَى اللهِ لِنَجْحِ مَطَالِبِ الْمُتَوَسِّلِينَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِهِ، كَرَامَتهُ تُحَارُ مِنْهَا الْعُقُولَ، وَتَقْضِي بِأَنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى قَدَمَ صِدْقٍ لَا تَزُلْ وَلَا تُزَولْ)4.
وكظم الغيظ هي صفة أخلاقية هامة تحدث عنها القرآن الكريم وجعلها من جملة صفات المتقين، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}5.
وأصل الكظم: شدّ رأس القِربة عن ملئها، تقول: كظمت القِربة إذا ملأتها ماءً ثُمَّ شددت رأسها. وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً حزناً وكذلك إذا كان ممتلئاً غضباً ولم ينتقم 6. وكَظْم الغيظ: حَبْسه 7.
ولذلك فقد جعل الله كظم الغيظ من علامات وصفات المتقين، واستحق الكاظم لغيظه من الله سبحانه وتعالى عظيم الثواب والأجر، لأنه تصرف على خلاف ما تمليه عليه طبيعته وغريزته وانفعالاته، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه واله): "من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءاً يوم القيامة"8.
يعني يُقبل على الله يوم القيامة وهو يرجو مغفرته ورحمته.
وعنه (صلى الله عليه واله) في حديث آخر: "ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله"9.
وكظم الغيظ يدل على قوة الإرادة، والقدرة على السيطرة والتحكم بالمشاعر والانفعالات والأعصاب، وهذه القدرة هي أهم من قوة العضلات وقوة الجسد.
ويؤكد كلامنا الحديث الوارد عن أنس بن مالك: قال: "إن النبي (صلى الله عليه واله) مرَّ بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا قالوا: فلان ما صارع أحداً إلا صرعه، فقال (صلى الله عليه واله): ألا أدلكم على من هو أشد منه
رجل كلمه رجل فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه"10.
لقد جسد الإمام الكاظم (عليه السلام) هذا الخلق الرفيع في سيرته وحياته حتى أصبحت هذه الصفة لقباً ملازماً لاسمه، فقلما يقال للإمام (عليه السلام): موسى بن جعفر، بل يطلق عليه غالباً لقب: الإمام الكاظم، لأن صفة كظم الغيظ أصبحت جزءاً من شخصيته.
ويذكر المؤرخون العديد من الشواهد والمواقف التي ضرب الإمام عليه السلام فيها أروع الأمثلة على كظم الغيظ في تعامله الشخصي مع الآخرين، وهو عليه السلام يحث الآخرين على ألتزام صفَة الحِلم والتّسامح عند الإساءة، كعُنصر من عناصر المُعاملة الطيبة بينهم، لأن الحلم والتسامح، عند توفر إمكانية الرَّد والقصاص تُعبر عن قوّة التّماسك الغضبي عند الإنسان، وسيطرته على اندفاعاته النّفسية حينما يُواجه بالتحدي، وهذا ما يبعث على التّقدير والإكبار له من الآخرين، وخصوصاً اذا كان ذلك مُتقمصاً لمسؤوليات الحُكم، رُوي أنه أدخل رجل على المأمون وأراد ضَرب عُنقه، وكان الامام الرضا عليه السلام حاضر، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن
فقال عليه السلام:" أقول إن الله لا يزيدك بحُسن العفو إلاَّ عزّاَّ ... فعفا عنه"11.
هذه بعض الخصائص والمُميزات، التي تُعطينا بعض ملامح الصّورة الشخصية للإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ولا يسعنا أن نقف على تمام مقُوماتها الأصلية التي تُمثّل لنا المُحتوى الواقعي لها، لأن ذلك يحتاج الى الارتفاع الى مستواه البعيد المنال وهو أمر يقصر عنهُ القلم، ويعيا البيان عن استيعاب بُعده، راجياً أن يمنحني القبول، ولأن يتلطف عليَّ بالرضا، وان تنالني شفاعته يوم الوفادة على الله عزوجل.

حرره الاحقر السيد عبدالله مرتضى محمد تقي ليلة 25 من رجب الأصب 1444ه
المصادر:
1- بحار الانوار، المجلسي(رض): ج11ص265.
2- الكافي لثقة الإسلام الكليني(رض): ج2ص134.
3- حياة الامام موسى بن جعفر(عليه السلام)، باقر شريف القرشي(ره): ج1 ص212.
4- مَطَالِبُ السَّؤُولِ فِي مَنَاقِبِ آلِ الرسول (صلى الله عليه واله): ج 2ص 120.
5- سورة آل عمران، الآية 133-134.
6- مجمع البيان، ج:2، ص:835.
7- مفردات الراغب، ص:449.
8- أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) برقم (6026).
9- أخرجه أحمد برقم (6114) واللفظ له، والطبراني: ج13ص249ح13994.
10- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حِجر - ج ١٠ ص ٤٣٠.
11- بحار الانوار، المجلسي(رض): ج49 ص172 ح10.