الأسباب الاجتماعية للفساد الإداري
المؤلف:
صباح عبد الكاظم شبيب الساعدي
المصدر:
دور السلطات العامة في مكافحة ظاهرة الفساد الإداري في العراق
الجزء والصفحة:
ص 169-181
2025-11-02
52
رغم تشابك الأسباب الاجتماعية التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بظاهرة الفساد الإداري وتعددها، إلا أن هناك أسباب تبدو أكثر أهمية من غيرها وذات تأثير مباشر في انتشار ظاهرة الفساد الإداري ومن أهمها:
أولاً - التفاوت الطبقي - Social Difference
ليس كل تفاوت اجتماعي تفاوت طبقي، فإن الفرق بين أجر عامل غير متخصص وآخر متخصص لا يجعل منهما عضوي طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، إن التفاوت الاجتماعي يمد جذوره في بنية الحياة الاقتصادية وسيرها الطبيعي، وتحافظ عليه المؤسسات الاجتماعية والقانونية الرئيسية في عصره وتزيد من حدته (1) .
فهناك الكثير من أنواع الفساد التي ترتبط تأثيراتها بطبيعة المجتمعات التي تحدث فيها، فإذا ما تدفقت المنافع إلى أحدى الجماعات والتكاليف على جماعة أخرى، فأن ذلك يفاقم الصراع في المجتمع، فتجد الجماعات المستبعدة من النفوذ لأسباب عرقية أو حزبية أو طائفية لنفسها طريقاً مدفوع الثمن من خلال الأبواب الخلفية، وكما يشير (هنتينجتون) إلى أن الفساد قد يعمل في تلك الحالات بديلاً للعنف (2). وتؤكد النظريات الخاصة بالطبقات الاجتماعية على أنه لا يمكن القضاء على الفساد في المجتمع الذي تسود فيه الصراعات الطبقية، لأنه لا يمكن لطبقة من المواطنين الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة أن تؤثر على المسؤولين بهدف القيام بأعمال معينة لخدمة مصالحها المشتركة ، ومن جهة أخرى أن هذه الفكرة موجودة ضمنياً لدى أولئك الذين يرون في الصراع الطبقي ضرورة طبيعية للحضارة الحديثة. إن هيمنة صراع مصالح الطبقات من شأنه أن يوجه أعمال الإدارة وقراراتها في اتجاهات معينة بدرجة أو بأخرى، كما أن الروابط الاجتماعية المشتركة وصلات النسب والقرابة تلعب في بعض الأحيان دوراً رئيسياً في الفساد، حيث يكون نظام القيم الذي تدعمه جماعة تقليدية متعارض مع المصلحة العامة في معظم الحالات (3). وقد استرعى البعض الانتباه إلى العوامل الثقافية المتأصلة في قيم المجتمعات القديمة، حيث أن معظم ما ينظر إليه على أنه فساد قد يجد تبريره على أنه تكافل اجتماعي (4) .
إن التفاوت الطبقي كان وما زال عاملاً مهماً في انتشار الفساد الإداري في العراق، فقد كانت هناك طبقات الأغنياء والمتنفذين من الحكام والإقطاع والتجار مقابل طبقات الفقراء من العمال والفلاحين، الأمر الذي أدى بالطبقات الأولى إلى المحافظة على مراكزهم من خلال جمع الأموال على حساب الطبقات الأخرى، فتكون العملية ممارسة فساد وغنى في جانب، وفقر وتحين فرص في الجانب الآخر، حيث يعمل التفاوت الطبقي هنا بمثابة منشط للفساد وداعم له وليس سبب فقط، وظهر هذا التفاوت بين طبقة الحكام والمنتفعين، وطبقة أفراد الشعب الآخرين في ظل النظام السابق بصورة واضحة وازداد في فترة الحصار الاقتصادي 1990 - 2003، مما أدى إلى احتكار البعض التجارة وخاصة المواد الغذائية نظراً لشحتها، وحالات نهب وسلب للممتلكات العامة والخاصة نتيجة إحساس الطبقات المحرومة بالغبن والحرمان، وكذلك دفع هذا التفاوت صغار الموظفين إلى أخذ الرشوة مقابل تقديم الخدمات العامة، أو القيام بأعمال غير قانونية. وما زال هذا التفاوت عاملاً مؤثراً ورئيساً في استشراء الفساد الإداري في العراق، فبسبب الحرب والاحتلال وما تبعهما من عدم استقرار سياسي وإداري وأمني والفراغ التشريعي والفوضى الاجتماعية تكونت طبقة ثرية من خلال جمع الأموال بطرق غير مشروعة (رشوة، اختلاس... الخ) وبقيت شرائح مهمة من الشعب لم تحصل على شيء نتيجة فساد الطبقة الأولى وإفسادها للآخرين، الأمر الذي يحفز الطبقة الفقيرة لمنافسة الطبقة الغنية من خلال الأعمال غير المشروعة لأجل الحصول على المال، ومن ثم قيام الطبقة الغنية بأعمال تمنع هذه الطبقة من التسلل إلى مملكتهم حتى ولو بالعنف وهذا ما يفسر لنا تحول بعض المجموعات إلى (مافيات) (5). لذلك نرى ضرورة الإسراع في تحجيم دائرة المنتفعين والفاسدين لوقف استشراء الفساد ومنع الفقراء من الانجرار إليه من خلال تقليل عوامل الإغراء وزيادة عوامل المنع.
ثانياً- الهجرة Immigration
تعتبر الهجرة الداخلية أحد أسباب الفساد الإداري لما تحدثه من خلل في التركيبة الاجتماعية للسكان وإثارة مشاكل في السكن أو الخدمات أو الضغوط على الحكومة، أما الهجرة الخارجية فهي سبب في انتقال الكثير من الظواهر السلبية إلى المجتمع ونتناول ذلك على النحو الآتي:
1 - الهجرة الداخلية Immigration Internal
يؤكد البعض على أن هذه الهجرة من أهم الظواهر المؤثرة على التغير الاجتماعي والتركيب البنائي للمجتمع وما يتصل بذلك من تغيرات في الوظائف والنظم السائدة فيه، وتعد أحد الأنماط المعبرة عن الحراك السكاني لما لها من وزن ودلالة في جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية وما ينجم عنها من مشاكل تعبر عن سوء التنظيم أو الانحلال الاجتماعي أو الصراع الثقافي والقيمي (6).
وأهم حالات الهجرة هي من الريف الى المدينة ودوافعها كثيرة أبرزها: البحث عن فرصة عمل، إكمال الدراسة النقل الوظيفي، سوء الأحوال المعيشية في الريف سهولة الانتقال إلى المدينة ووجود المغريات المادية أو المعنوية فيها. إن الهجرة غير المنظمة إلى المدينة تدفع المهاجرين إلى السكن في مناطق لا تتمتع بخدمات صحية أو اجتماعية أو أمنية، وهذا يوفر مناخاً ملائماً لإفراز السلبيات والفساد وارتكاب الجرائم مما ينعكس ذلك على فئات المجتمع، وقد شهدت عدة دول عربية هذه الظاهرة مثل مصر والسودان(7) والمملكة العربية السعودية (8) وتونس(9). وللهجرة الداخلية مشاكل كثيرة أهمها صعوبة التكيف الاجتماعي أو البطء فيه ويترتب على ذلك تعارض أساسي بين السلوك المتوقع والسلوك الحقيقي ومن أبرز مظاهر ذلك ارتكاب أنماط من السلوك الانحرافي (10).
ولقد أكدت دراسة عن تحركات العمالة في جمهورية السودان، إلى أن للهجرة الداخلية علاقة مباشرة بسلوك العاملين وبخاصة أولئك الذين يلتحقون بوظائف عامة تتقيد بمواصفات محددة فأنهم عادة لا يلتزمون بسلوكيات الوظيفة من التزام وانضباط في مثل هذه المواقف. لذلك يوجد تعارض بين السلوك الانضباطي وبين السلوك الناتج عن صعوبة التكيف مع المجتمع الجديد، ومن هنا تبرز سلوكيات تتميز بالرغبة في الوظيفة من أجل العائد المادي فقط، وعدم الرغبة في أداء واجبات الوظيفة حسب ما هو معتاد، وتكون النتيجة ما تراه من سلبيات في الأداء الوظيفي والمتمثل في تفشي حالات الرشوة والاختلاسات وما إلى ذلك (11). ويطلق على هذه الظاهرة في العراق وظيفة الراتب" التي برزت بعد 4/9/ 2003 بشكل ملفت للنظر، فبسبب زيادة الرواتب بصورة مفاجئة إلى عشرات الأضعاف وغياب الرقابة والانفلات الأمني وعدم الاستقرار السياسي وانهيار جميع مؤسسات الدولة والفوضى الإدارية، تم تعيين أعداد هائلة في الأجهزة الأمنية والحمايات الشخصية والدوائر الرسمية على أساس تعاقدي أو دائمي خلافاً للضوابط التنظيمية ولكن بغطاء قانوني، وإعادة أعداد مماثلة ممن تركوا الوظيفة في وقت سابق لأسباب متعددة باعتبارهم مفصولين سياسيين، وكان الهدف الرئيس لغالبيتهم هو الراتب واذا كان صحيحاً أن الغرض من الوظيفة هو الحصول على المردود المالي فيجب أن لا يكون على حساب المصلحة العامة، فاذا تغلبت المصلحة الخاصة على المصلحة العامة أصبحنا أمام فساد إداري.
وما يحدث في مصر والسودان وغيرها يحدث في معظم مناطق التحضر في بقية الدول العربية، فعندنا في العراق حدثت عدة هجرات من الريف إلى المدينة، منها في العهد الملكي (12) ومنها في العهد الجمهوري بعد ثورة 14/تموز/1958 (13).
وكذلك أثناء الحرب العراقية الإيرانية حيث هاجرت أو هجرت أغلب المناطق القريبة من الحدود العراقية الإيرانية في محافظات شمال العراق وديالى وواسط وميسان والبصرة إلى المدن، مما أوجد أحياء سكنية تفتقر إلى الخدمات، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على سلوك الأفراد كما كان لإجراءات الدولة آنذاك أثراً كبيراً في ازدياد الهجرة من الريف إلى المدينة، حيث قامت بتوزيع أراضي سكنية للعسكريين وعوائل ضحايا الحرب والأسرى والمفقودين ومنحهم قروضاً مالية من المصرف العقاري مما شجعهم على ترك الريف والسكن في المدينة.
لكن أهم موجات الهجرة من الريف إلى المدينة هي ما بعد 2003/4/9 حيث قام الحاكم المدني (بول بريمر) بألغاء الخدمة الإلزامية نتيجة إلغاء وزارة الدفاع وحل الجيش وحل الأجهزة الأمنية و الكثير من الهيئات الرسمية، وانتهت بذلك جميع القيود التي كانت تحد من الهجرة إلى المدينة من متابعة وملاحقة ورقابة وتوقفت كافة إجراءات الضبط الإداري نتيجة الفراغ السياسي والأمني تحت شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الأنسان.
لهذه الأسباب وبسبب الحرمان الذي تعرض له المواطنون في الفترة السابقة نتيجة الحروب والحصار، كل هذا خلق مناخاً مناسباً لهجرة الكثير من الريف إلى المدينة والسكن في مباني المؤسسات الحكومية ومقرات الجيش والأجهزة الأمنية المنحلة والتجاوز على أراضي الدولة بل حتى على الشوارع والأرصفة، وتم توظيف الكثير من هؤلاء في الأجهزة الأمنية عند إعادة تشكيلها، و في الدوائر الرسمية بدون ضوابط قانونية أو إدارية. ومما زاد الأمر إشكالاً أن قوات الاحتلال أخذت تجند هؤلاء في سلك الشرطة ومنحهم رتب ضباط بدون أي مؤهل علمي بل الكثير منهم أميين، مما خلق لهم الفرص والإمكانات المادية والمعنوية والرسمية لتوسيع نفوذهم في توظيف أقاربهم ومحوسبيهم، وهكذا تشكلت هذه الأجهزة وخاصة الأمنية منها على أسس غير سليمة بل غير منطقية أصلاً، وتحول بعضها إلى شبكات وعصابات ومافيات، وقد أشار رئيس الوزراء إلى ذلك في حديثه عن قوة حماية المنشآت المعروفة اختصاراً (FPS) من أن بعض أفرادها تحولوا إلى عصابات (14) كما أشار وزير الداخلية إلى أن فترة ال(90) يوماً المقبلة ستشهد تطهير وزارة الداخلية من الفساد (15) .
إن الهجرة من الريف الى المدينة له علاقة مباشرة بسلوك العاملين وبخاصة الذين يلتحقون بوظائف رسمية تتقيد بمواصفات بيروقراطية معينة، وكما اشار (فيلبس براون) فأن الزراع والرعاة والبدو عند التحاقهم بوظائف عامة يواجهون بمشكلات تتعلق بالحضور والانصراف في مواعيد محددة، وسلوكيات تتصف بالالتزام والانضباط وهي مسائل مستحدثة بالنسبة لهذه الفئات التي اعتادت على القيام بأعمالها بالأسلوب الذي يرونه مناسباً، كما أنهم لم يعتادوا على تنظيم الوقت ولا المساءلة من قبل الرؤساء، في هذا الموقف نجد أن هناك تعارضاً اساسياً بين السلوك المتوقع والسلوك الحقيقي، مرده حالة الصراع الفكري والثقافي بسبب صعوبة التكييف مع الحياة الحضرية مما يخلق ازدواجاً في شخصية المهاجر ، وصراعاً حاداً بين تقاليده وأعرافه الريفية والحياة التي اخذت تسحق تلك التقاليد والأعراف تحت وطأة المتغيرات الاقتصادية والثقافية، وقد أفرزت هذه الظاهرة انتشاراً لسلبيات كثيرة أهمها التسيب والفساد الإداري(16).
ومن جانبنا نرى أن هناك استثناءات، فالكثير من المفكرين والقادة والإدباء والعلماء هم من إصول ريفية، وقد هاجروا الى المدن، لعدم استيعاب الريف لاختصاصاتهم ولو وجود البيئة والمناخ المناسبين في المدينة.
2 - الهجرة الخارجية External Immigration
إن الهجرة الخارجية من أهم المظاهر المؤثرة على التغير الاجتماعي أيضاً، وتعد البلدان العربية النفطية مناطق جذب واسعة للعمالة الوافدة من بلدان عربية أو أجنبية، لما تتميز به من انخفاض الكثافة السكانية وزيادة حجم الاستثمارات التنموية، وبذلك توفرت فيها فرص وظيفية كبيرة بأحجام ومهارات غير متوفرة في هذه الدول، وتميزت كذلك بثقافات ومعتقدات إلى حد ما تختلف عن المعتقدات والثقافات كالخليجية مثلاً. ومع المعايشة اليومية والتعامل مع ثقافات مختلفة في ظل تغيير اجتماعي و اقتصادي يحدث بسرعة كبيرة، برزت إلى السطح أنماط جديدة من الجرائم تركزت أساساً في فئات معينة من موظفي الدولة وأصحاب الأعمال، تمثلت معظمها في انحراف سلوكي وفساد إداري بصور متعددة. وعلى الرغم من الدور الحيوي الذي تلعبه العمالة الوافدة في كثير من الأحيان في المشاركة في عملية التنمية بالبلدان النفطية، إلا أن الفوارق في الثقافة والحضارة قد لعبت دوراً هاماً في ظهور جرائم غريبة على البلدان العربية مثلاً، فقد نقل الوافدون إليها عادات هي عادية في بلادهم ولكنها ضارة ويعاقب عليها القانون (17) . وقد اظهر المسح الاجتماعي الشامل للمجتمع المصري الذي قام به المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إن سياسة الانفتاح الاقتصادي وما صاحبها من هجرة الى الدول النفطية قد احدث تحولاً شاملاً في بنية المجتمع المصري شملت القوى الاجتماعية المسيطرة ، فسيطرت الرأسمالية الطفيلية على واقع البنية الاقتصادية، وانتشرت الأنماط الاستهلاكية حيث اصبحت قيمة رأس المال فوق كل قيمة وصاحب ذلك آثار اجتماعية وسوء توزيع الدخل نتيجة اعمال السمسرة والوساطة والمضاربة، واستشراء التضخم في الواقع المصري، مما كان له أثره السيء في إعادة صياغة الإنسان المصري، فعم الفساد وتكرس الانحراف والكسب غير المشروع نظراً لسيادة قيم الثراء الفاحش دون بذل جهد (18).
وقد تأثر العراق بشكل مباشر بهذه الظاهرة، فبعد تأميم النفط في الأعوام 1972 - 19 أصبح هناك فائض في موازنة الدولة أقترن بوضع خطط تنموية للفترات المقبلة مما تطلب أيدي عاملة ماهرة وغير ماهرة، فقد دخلت إليه أعداد كبيرة من المهاجرين لغرض العمل وبخاصة من (مصر) وازدادت في الأعوام 1978 - 1980 ونتيجة للحرب العراقية الإيرانية والتحاق معظم العراقيين إلى الجيش، بقي هؤلاء فترات طويلة امتدت ، نهاية الحرب عام 1988 واستمر قسم كبير منهم إلى ما بعد ذلك، إلا أن أعدادهم تقلصت بعد عام 1990 بسبب الحصار الاقتصادي وحرب الخليج الأولى، وقد نقل بعض هؤلاء الوافدين ممارسات سلبية كانت غريبة على المجتمع العراقي إلا أنها أصبحت عادية بمرور الزمن. وقد برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة خطيرة جداً في العراق هي ظاهرة التهجير لأسباب قومية أو دينية أو طائفية وربما لأسباب شخصية أو مادية لكنها وقعت خلف هذا الستار أو ذاك، ومن المؤكد أن هذه الظاهرة تؤثر بأصحابها تأثيراً مباشراً وسلبياً من خلال الآثار النفسية والمادية وتدفع بهم إلى العنف والانتقام كما تدفع الكثير منهم إلى ممارسات فاسدة انتقاماً من الطرف المقابل أو حتى من المجتمع أو السلطة (19).
وقد استغلت هذه الظاهرة بعد انتشارها وازديادها وفقدان أغلب الوثائق والبيانات الخاصة بالعائلة المهجرة من قبل الكثير من الانتهازيين سواء كانوا موظفين ذوي علاقة أو أشخاص يدعون بأنهم مهجرون لغرض الحصول على مساعدات أو امتيازات معينة أو الاستيلاء على الأراضي العامة المملوكة للدولة بحجة عدم وجود سكن، لذلك نرى ضرورة معالجة أسباب هذه الظاهرة وآثارها الإنسانية وحتى لا تكون سبباً للفساد الإداري يضاف الى الأسباب الأخرى.
ثالثاً - ضعف الحس الوطني National Feeling Weakness
تتفاوت المجتمعات وتتباين في تركيبها النفسي والأخلاقي والطبقي كما تتفاوت رؤية المجتمعات وفهمها لمعاني الوطنية والولاء والتفاني في أداء الأعمال، وبالنظر إلى واقع البلدان العربية فأن الدلائل تشير بوضوح إلى تفشي ظاهرة الفساد الإداري، ورغم أن أسباب تفشي هذه الروح السلبية بين المواطنين يعود إلى أسباب كثيرة، إلا أن أغلب هذه الظواهر يمكن إرجاعها - جزئياً - إلى ضعف مفهوم الانتماء أو الحس الوطني عند أغلب الشعوب العربية، والى سيطرة النعرات القبلية والعرقية والتي كان للاستعمار دور كبير في تنميتها، إن عدم اهتمام المجتمعات العربية بإشعار الفرد بأهمية انتسابه إلى المجتمع أدت إلى انهيار التألف الاجتماعي الذي من خلاله تنمو للفرد شخصية عامة بوصفه جزءاً في البناء الاجتماعي، بل على العكس فان تنمية هذه الشخصية تسهم بقدر كبير في زيادة حدة التضامن بين أفراد المجتمع الواحد وبقدر ما تسعى المجتمعات إلى تحقيق هذا الهدف بقدر ما يكون نصيب الأخير من الإصلاح والقوة والمناعة ضد كل صور الفساد، وهذا الانتماء والتآلف الاجتماعي إنما ينهض على أسس من التربية والتوعية بهدف بناء الفرد بناءً صحيحاً مما يؤدي إلى تكوين مجتمع متماسك يشعر كل فرد فيه برقابة المجتمع على تصرفاته، فيردعه عن الانزلاق في مزالق الفساد. إن ضعف الانتماء أو الحس الوطني الذي أصاب غالبية الشباب العربي انعكس على ولائهم للوطن، ومن ثم على أدائهم لأعمالهم في الوظائف، وأصبح الوعي بالملكية العامة ضعيفاً، فظهر الفساد وانتشرت السرقات والرشاوى(20).
ان ضعف أو غياب الانتماء والحس الوطني يولد آثاراً سلبية لها مردودها على تحديد النمط السلوكي السلبي للعاملين تجاه بلادهم وممتلكاتها، ويؤكد أحد الباحثين أن الفساد الذي يستشري حالياً في مؤسسات الدولة يرتبط اساساً بماضي وحاضر الاشخاص الذين تسول لهم انفسهم السطو على الثروة الوطنية، وهي قضية لها علاقة وطيدة بالوطنية العراقية، فمن خلع وطنيته وانحدر الى درك الفساد لا بد أن يكون قد نشأ في وسط آخر، ليس هو الوسط الذي اعتاده العراقيون حتي في ظل النظم الدكتاتورية الشمولية، فالأمر واضح بين السارق الذي عاش في مرحلة الماضي واحتل مواقع في الدولة ومارس السرقة للأموال العامة وبين من احتل مواقع متنفذة في النظام الجديد ولكنه هو الآخر يمارس السرقة والسطو على ثروة البلد، إن هؤلاء يلتقون في خصائص مشتركة، من بينها فساد الضمير او العقل الذي يدفعهم الى ارتكاب هذه الجرائم، لقد ماتت عند هم مشاعر الوطنية والقيم والاخلاق العراقية الاصيلة، حيث يقال أن عبد الكريم قاسم الذي نعته البعض بالدكتاتورية والتفرد، لم يجرأ حتى اعدائه على وصمه بأي صفة من صفات التلاعب بأموال العراقيين مات ولم يكن لديه سوى نصف دينار (21) .
إن العوامل المؤدية الى ضعف الحس الوطني كثيرة أهمها:
1. الحروب المتكررة والطويلة والتي تدفع الأفراد الى الهروب منه تخلصاً من مآسيها ومثالها سلسلة الحروب التي عاشها العراق خلال أقل من ربع قرن بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية التي أستمرت ثماني سنوات، وانتهاء بالحرب الأخيرة التي مازالت مستمرة من الناحية الواقعية ولو قد اعلن انتهائها في مايس عام 2003، وبالتالي يضعف الإحساس بالمواطنة نتيجة الملل والسأم من هذه الحروب.
2. السياسة التعسفية للسلطة، والتي تدفع الفرد الى التمرد عليها ونبذ كل ما يتصل بها حتى وإن كان مشروعاً، وتتولد لديه نظرة واحدة تجاه السلطة والوطن وخاصة عندما يستعمل النظام السياسي مفردة المواطنة في تيسير أعماله وتنفيذ سياسته (22).
3. ضعف السلطة وعدم تطبيق القانون، الأمر الذي يؤدي الى اللجوء الى القوى الأخرى، وبالتالي يكون الولاء للحزب أو القبيلة أو الطائفة بل حتى ربما العصابة. ويعتبر بعض علماء الاجتماع أن " الاغتراب " من أسباب الفساد، فالاغتراب جاء نتيجة انفصال الإنسان عن مجتمعه وثقافته والنظم السائدة فيه وانفصاله عن الآخرين فضلا عن الانفصال الذي يحدث في داخله، وهذا يؤدي الى الحالة التي لا يشعر فيها الفرد بأنه ينتمي الى مجتمعه أو أمته ومن ثم يكون اتصاله بالآخرين غير مستقر وغير مرضي وعليه ألا يكون منتمياً انتماء قوياً، وتكون استجابات الشخص معارضة لما تقره ثقافة المجتمع وتؤكد عليه، وأكدوا ارتباط الظاهرة الإجرامية بظروف الحياة الاجتماعية وببنية النماذج المختلفة، شأنها شان الظواهر الاجتماعية الأخرى وبذلك يؤكد هذا الاتجاه على الوظيفة الاجتماعية للفساد في دعم توازن المجتمع نتيجة للكشف عن جوانب التواتر في البناء والتي تخضع لمراجعة المجتمع (23)
4. ويشير بعض الباحثين الى (أن من اسباب ضعف الولاء الوطني في العراق في الوقت الحاضر هو طغيان الولاءات الضيقة الاخرى، مثل العشائرية والمناطقية والمذهبية والعرقية، مما ادى الى ضعف دور المواطن في مكافحة الفساد، فمن الواضح أن كثيراً من المؤسسات الحكومية تكاد تكون مغلقة لحزب ما أو طائفة معينة او قومية، ومن ثم فأن المهم هو الحلقة الضيقة التي ينتمي اليها الموظف والسعي الى تحقيق مصالحها بغض النظر عن المصلحة الوطنية العليا) (24).
رابعاً - ضعف الوازع الديني Religious Feeling Weakness
يعتبر ضعف أو غياب الوازع الديني من أهم الأسباب الرئيسة للفساد ذلك أن الوازع الديني يمثل رقابة ذاتية للفرد تمنعه من القيام بأي عمل سيء من تلقاء نفسه، وأساس هذه الرقابة هو (تقوى الله سبحانه) وعقابه الشديد للمسيئين بصفة عامة والفاسدين والمفسدين بصفة خاصة، قال تعالى:
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (25) ، وقال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)(26).
يميل الكثيرون من الفلاسفة والعلماء الى القول بان النفس البشرية تحتاج الى التدين مثلما يحتاج البدن الى الغذاء، أن التدين يشبه أن يكون غذاءً نفسياً للإنسان المهدد بالأخطار والمشاكل دائماً وهو يخشى الموت، فهو اذن بحاجة الى عقيدة وطقوس دينية تساعده على مواجهة تلك الامور المرعبة وعلى تقوية عزيمته وبعث الطمأنينة في نفسه تجاهها (27).
إن تعميق الأيمان بالله سبحانه وتعالى وبما أراده من سلام وخير في الأرض ينمي الوازع الديني في جميع الأديان السماوية، لكن الذي نراه مناقضاً لما يفترض أن يكون، فأغلب الفاسدين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويؤدون الفرائض ويمارسون الشعائر الدينية، وأكثرهم من المسلمين كونهم الأغلبية، رغم ما نشهده من صحوة دينية تتمثل في الارتباط بالمراجع الدينية في كل شيء حتى في الجانب السياسي، في حين ازدادت نسب الفساد من سرقة ورشوة واختلاس ونهب للمال العام... الخ، وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل هو: هل الخلل في التعاليم الإسلامية، أم فيمن يمارس هذه الأفعال؟ لا شك أن التعاليم الإسلامية ليس فيها خلل أو نقص، ولم يثبت خلاف ذلك حتى من قبل أعداء الإسلام، لأن الإسلام دين الكمال قال تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
واذا أردنا الحقيقة لوجدنا أن الشعوب المتحضرة في الغرب والشرق تمارس المبادئ والأخلاق والتعاليم الإسلامية رغم أنهم غير مسلمين لأنها متطورة وتنسجم مع حاجات الشعوب المتحضرة، مثل ـ من غشنا ليس منا، لا تتدخل في لا يعنيك احترام الغير وعدم التعدي عليه، احترام القانون والنظام، احترام المال العام الإخلاص في العمل - في حين ابتعدت عنها معظم الشعوب الإسلامية لهذا قال أحد المفكرين عندما زار الغرب (وجدت إسلاما بلا مسلمين ووجدت مسلمين بلا إسلام) (28).
لذلك فأن الخلل هو في المجتمع الذي يعتبر غير مكترث لمضمون وجوهر هذه المبادئ والقواعد، والاهتمام فقط بالشكليات والطقوس والشعائر لأنها غالباً ما تؤدي إلى التخفيف عن الكبت والانفعال وتستند الى العواطف والمشاعر فقط (29) ، وإلا بماذا نفسر تصرف شخص يبكي على استشهاد أحد الأولياء وفي الوقت نفسه يتجاوز على المال العام، أو شخص يمنع الآخرين من سماع الأغاني ويشترك في تهريب المشتقات النفطية (30)، أو شخص يطلب من النساء ارتداء الحجاب لكنه يعمل في السوق السوداء، أو شخص يدعي أنه مسلم ويفجر نفسه ليقتل المدنيين (31).
إن الأمر إذا طبقناه على حالة العراق الآن تعود بنا الذاكرة إلى ما قاله الدكتور علي الوردي: حول تناقض شخصية الفرد العراقي وازدواجيته والصراع بين قيم الحضارة وقيم البداوة (32) . لا شك أن للدين الإسلامي تأثيراً كبيراً على الأشخاص في تعاملهم مع الآخرين لما يحث عليه من قيم ومثل عليا، وما يحدده من تقسيم للحكم الشرعي (الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام) وعلى الإنسان المؤمن أن يلتزم بذلك. إن الرقابة في كل الأديان ذاتية، أي أن الأنسان رقيب على نفسه في علاقته مع الخالق ( سبحانه وتعالى) وحتى في علاقته مع الآخرين رغم وجود السلطة الدينية أو الزمنية وهذا ما يسمى "الوازع الديني" الذي يمنع الإنسان من ارتكاب الخطأ خوفاً من العقاب الالهي، وكلما كان هذا الوازع قوياً كلما ابتعد الإنسان عن الذنب وكل ما كان ضعيفاً كان ارتكاب الذنب سهلاً، ولكن المفارقة أن يكون الإنسان في ظاهرة متدين ويمارس الفساد في الخفاء، أو كل ما يفهمه من الدين هو الشعائر والطقوس أو العبادات فقط، علماً أن الدين الإسلامي هو دين ،أخلاق، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (33) . وقال تعالى مخاطباً الرسول الكريم (ص): (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(34). وجاء في الحديث الشريف: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وبما أن الفساد بكل أنواعه هو إنحراف أخلاقي، اذن لا يجوز للمسلم وفقاً للنصوص أعلاه أن يمارس الفساد تحت أي ذريعة أو مبرر، ومع أن الفساد السياسي هو أساس كل أنواع الفساد الأخرى فإن السلطة بحسناتها وعيوبها ليست سوى إفراز لمجتمع قائم يعاني من أمراض اجتماعية تربوية فرضت حضورها على المشهد السلوكي العام. وهنا لا بد من التأكيد على أننا مجتمع يدعي التدين ويتمسك بالقيم الدينية كالأمانة " وعدم أكل مال "الحرام" ويدافع عن مقدساته الإسلامية، ولكن هذا الادعاء ليس إلا ادعاء نظرياً لا يقوى على مجابهة الواقع لدى العديد من أفراده في ممارستهم اليومية، فإذا وجدت هذه القيم طريقها إلى التطبيق فكيف يتم تقبل الرشوة والسطو على الأموال العامة التي يمارسها البعض ويتعايش معها البعض الآخر، وكيف يمكن أن نفسر وجود الآلاف من الموظفين الذين لا يعملون ومسجلين ضمن فئة "مفرغ"، ويتلقون رواتبهم في نهاية الشهر دون أن يقوموا بأدنى عمل أو أدنى تواجد زمني في أماكن العمل، وكيف يمكن تعليل الاستيلاء على الأراضي العامة والخاصة، وإذا كنا ندعى الفضيلة كشعب مؤمن فكيف يمكن تفسير انتشار الرشوة والمحسوبية في تقلد الوظائف العامة، فحتى وظيفة جامع قمامة أو العمل في مشروع بطالة لا يتجاوز عدة أشهر لا يمكن أن يتم بدون واسطة أو رشوة (35).
خامساً: العادات والأعراف والتقاليد customs & traditions Habits
تمثل البيئة مجموعة العوامل الخارجية التي يتأثر بها الفرد منذ ولادته وحتى مماته، والبيئة الاجتماعية تمثل الاطار الاجتماعي العام بقوانينه وقيمه واتجاهاته ومعاييره المؤثرة على النشاط الانساني، وتضم هذه البيئة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية (الحضارية والسياسية، ان الثقافة او الحضارة هي ذلك المركب المعقد من اللغة والمعرفة والمعتقدات والفنون والاخلاق والقوانين والعادات والقيم والاعراف والتقاليد، وان الانسان في بيئته يواجه عوائق ومحددات مادية واجتماعية عديدة، لذلك سيكون مضطرا الى ان يعمل جاهداً لتحقيق التوافق بين ما يريد وبين امكانات وقيود البيئة، كما قد يكون مضطرا في كثير من الاحيان للخضوع والاستجابة للقيود والمحددات التي تفرضها البيئة عليه فيكيف ويعدل سلوكه او يؤجل اشباع وتحقيق بعضا من حاجاته واهدافه كيما تتاح له ظروفاً افضل وقد يسلك وسائل ملتوية واحيانا غير مشروعة مستهدفا اشباع حاجاته وتحقيق اغراضه(36).
إن للعادات والأعراف والتقاليد أثر في انتشار الفساد الإداري اذا ما كانت مبنية على فهم خاطئ للعلاقة بين السلطة والشعب، ويزداد تأثيرها اذا كان المجتمع متخلفاً، فمن الطبيعي أن تكون متخلفة ايضاً، فلا يعقل أن ينتج المجتمع المتخلف قيماً إيجابية، لذلك تسود مفاهيم البطولة والتمرد على السلطة والكسب السريع وجمع الأموال الطائلة، وكلها قيم بدوية قبلية توجد في المجتمعات التي يكون للقبائل فيها نفوذ، ويساعد عدم تطبيق القانون وضعف السلطة على انتشار المفاهيم القبلية، لأن الفرد يريد من يحميه فإذا لم تكن هناك سلطة توفر له الأمن والحماية يلجأ الى القوى الأخرى وأقرب هذه القوى وأكثرها رسوخاً في فكر المجتمعات الشرقية والعربية بوجه خاص هي القبيلة أو العشيرة، وتزداد الحالة في المجتمعات البدوية أو التي تتصارع فيها قيم البداوة والحضارة - كما هو حال العراق - فالبدوي تسيطر عليه نزعة (التغالب) لذلك يود أن يكون ناهباً لا منهوباً ومعتدياً لا معتدى عليه وطالباً لا مطلوباً، لذلك يرى أن الخضوع للدولة نوع من أنواع الذل(37).
إن القبائل على الرغم من ميلها الآن الى الخضوع الى الحكومة والانصياع لأوامرها لا تزال تحمل نحوها بعض بقايا العداء والضغينة القديمة، فالقبائل لم تتعود بعد على اعتبار الحكومة رمزاً للاستقرار والخير للبلاد فهي لا تزال تعتبر الحكومة رمزاً للضريبة والسوط والسجن والقهر والتسخير، إن هذا التراث تمتد جذوره الى مئات السنين وليس من السهل إزالته من النفوس دفعة واحدة (38).
فقد بينت إحدى الدراسات الميدانية أن أفراد العينة متفقون على أن القيم القبلية والعشائرية سبب للفساد الإداري في العراق، وأن أغلب الموظفين الفاسدين لا يشعرون بالخجل ولا يدانون على فعلهم من المجتمع، وأن الأشخاص الذين ساهموا في الكشف عن الفساد تعرضوا للمساءلة من عشائر الموظفين الفاسدين، وأن نسبة كبيرة من المجتمع لا تنظر الى المفسدين على أنهم مجرمون طالما أنهم لم يتجاوزا على الأموال الخاصة (39).
ويرى بعض الباحثين أن الحياة في المدن تشجع على التفسخ الخلقي وذهب ابن خلدون الى هذا الرأي فعندما قارن بين أخلاق البدو واخلاق الحضر وجد فرقاً كبيراً بينهما فالبدوي في نظره افضل أخلاقاً من الحضر إذ هم بعيدون عما في الحضارة من ترف وتكالب على المادة وانهماك في الشهوات فقد قال: (وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً ..... في حاجات العوائد والتلون بالوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها فلذلك يكثر منهم الفسق والشر ... على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه) وساعدت النظرة الاجتماعية الضيقة الى الوظيفة على انتشار الفساد الإداري في العراق، فقد كانت الوظيفة منذ العهد العثماني محتكرة من قبل طبقة معين هي (الأفندية) وكانت ذات مكانة اجتماعية عالية ومغرية لما فيها من نفوذ ومرتب مضمون، لكن رجال الدين حرموها واعتبروها من قبيل التعاون مع الكفار منذ الاحتلال البريطاني، لذا نشأ صراع نفسي لدى بعض الناس حيث وقعوا بين دافعین متناقضين أحدهما يغريهم بقبول الوظيفة والآخر يردعهم عنها، وكان هناك صراع ادى الى اختلاف النظر الى الوظيفة العامة، فمنهم من يراها غنيمة أو مكسب ومنهم من يراها حرام أو ذل أو غير ذلك(40). نستنتج من ذلك أن للفساد الإداري أسباب متعددة، وبما أن القضاء على أي ظاهرة سلبية يبدأ من القضاء على اسبابها بالوقاية منها لا مجرد علاج آثارها، لذلك يقع على عاتق المجتمع مسؤولية مكافحة ظاهرة الفساد الإداري، وبما أن السلطة بهيئاتها الثلاث هي الممثل للمجتمع والتي تقوم بإدارة شؤونه، إذن هي المسؤولة عن هذا الدور، وهذا مانراه في الفصول القادمة إن شاء الله.
__________
1- أنظر: عبد الغني اليعقوبي، التفاوت الاجتماعي والتفاوت الطبقي مقال منشور على الموقع:
http://www.rezgar.com
2- مايكل جونستون، المسؤولون العموميون والمصالح الخاصة والديمقراطية المستدامة، محرر كمبرلي أن اليوت، مصدر سابق، ص 99.
3- أنظر الفساد في الحكومة تقرير الندوة الإقليمية التي عقدتها دائرة التعاون الفني للتنمية ( DTCD ) ومركز التنمية الإجتماعية والشؤون الإنسانية (CSDHA ) بالامم المتحدة، لاهاي، 1989، ص 129
4- أنظر الفساد في الحكومة تقرير الندوة الإقليمية التي عقدتها دائرة التعاون الفني للتنمية ( DTCD ) ومركز التنمية الإجتماعية والشؤون الإنسانية (CSDHA ) بالامم المتحدة، لاهاي، 1989، ، ص 6.
5- كنا قد ذكرنا عام 2005 في حديث خاص عن الفساد الإداري من أن الأمر إذا أستمر دون علاج سوف تتحول المجموعات الفاسدة الى ( مافيات ) وهذا ما حدث بالفعل فقد أصبح الحديث شائعاً عن ذلك.
6- للمزيد من التفصيل انظر الموقع .www.eimmigration.org/arabic
7- ففي مصر أدت هذه الهجرة إلى ضغوط شديدة على العاصمة وظهرت المباني العشوائية وانتشر السكن في المقابر، ووفر ذلك مناخاً لكل أنواع الفساد وقد أظهرت العمليات الأمنية عن اتخاذ معظم المجرمين هذه الأماكن وكرا لهم، انظر:- د. صلاح الدين فهمي محمود الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، 1994 ص 127 وما بعدها.
8- وزارة التخطيط السعودية خطة التنمية الرابعة، الرياض، 1405 - 1410، ص 93.
9- انظر الموقع http://www.edunet.tn/ressources
10- حمزة الحاج الهجرة الداخلية تدمير للريف و معضلات للمدينة، انظر الموقع.
http://www.an.nour.com/old/
11- انظر: د. محمد عثمان الجعلي تسيب العاملين منشورات المنظمة العربية للعلوم الإدارية، 1980ص 20.
12- أنظر عن هجرة الفلاحين من الريف إلى المدينة بعد التوسع في إنتاج النفط وحصول العراق على نسبة 50% من الأرباح وازديادها في الستينيات والسبعينيات ماريون فاروق سلوغلت وبيتر سلوغلت من الثورة إلى الدكتاتورية، العراق منذ 1958، ترجمة مالك النبراسي، منشورات الجمل 2003، ، ص65 و 323.
13- كان أغلب المهاجرين في بغداد يسكنون منطقة ( الميزرة ) في أكواخ من الطين أو القصب ( صرائف )، وفي الذكرى الأولى لثورة 14 تموز، كان في فقرات الاحتفال نموذج لأحد الأكواخ، فنزل إليه عبد الكريم قاسم وهدمه، وقرر أن لا يبقى الأكواخ، لذلك قام بتوزيع الأراضي على أصحاب الصرائف في منطقة ( الثورة ) ( مدينة الصدر (حاليا) أنظر:- د. غزوان هادي، سياسة عبد الكريم قاسم مقال منشور في جريدة الصباح، العدد 886 في 15 تموز 2006 ص 10 و 11.
14- تصريح السيد رئيس الوزراء بتاريخ 2006/7/12/ من قناة العراقية الفضائية.
15- مؤتمر صحفي للسيد وزير الداخلية، قناة العراقية الفضائية، 15 / 7 / 2006.
16- انظر: د. صلاح الدين فهمي محمود الفساد الإداري كمعوق لعمليات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الامنية والتدريب بالرياض، 1994 ، ص 71.
17- د. محمد هاشم عوض المشكلات الأمنية في البلاد سريعة النمو ، منطقة الخليج، دار النشر بالمركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب، 1408هـ ، ص 15 وما بعدها.
18- انظر: سهير عبد المنعم اسماعيل الحماية الجنائية لنزاهة الوظيفة العامة، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 1995 ، ص ج.
19- للمزيد من التفصيل عن هذه الظاهرة، أنظر د غزوان هادي حقيقة التهجير القسري، مقال منشور في ملحق جريدة الصباح، العدد 880،8 تموز 2006 ص 11.
20- أنظر : د. صلاح الدين فهمي محمود، مصدر سابق، ص 133 وما بعدها.
21- للمزيد أنظر: فيصل الشيخ رضا الزركان، سرقة المال العام بداية ضياع السياسيين مقال منشور في جريدة الزمان العدد 2141 في 20 / 6 / 2005
22- د. عبد الرضا فرج بدراوي، الفساد الإداري في العراق، الأسباب ووسائل المعالجة كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة البصرة، 2004، ص 16.
23- للمزيد من التفصيل -أنظر د. السيد علي شتاء الفساد الإداري ومجتمع المستقبل، المكتبة المصرية الاسكندرية، 2003، ، ص 89 وما بعدها.
24- أنظر عامر عبد الجبار إسماعيل، الفساد الإداري وبناء الدولة شركة المارد العالمية، النجف ،2007 ، ص 27
25- سورة القصص الآية /77 ، وأنظر الآية / 64 من سورة المائدة،
26- سورة النحل، الآية / 88 ، وأنظر الآية / 25 من سورة الرعد.
27- أنظر د. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي مؤسسة السيدة معصومة ط1 1426هـ ، ص 222
28- جمال الدين الأفغاني، تخليص الإبريز في رحلة باريز.
29- يؤكد البعض أن غياب الوازع الديني واستعمال العنف والفساد هو بسبب الجهل في الدين، أنظر الموقع: www.amin.org/look/article
30- للمزيد من التفصيل عن الفتاوى الدينية بشأن هذه الممارسات - انظر عامر عبد الجبار إسماعيل، الفساد الإداري وبناء الدولة شركة المارد العالمية، النجف ،2007 ، ص 51 وما بعدها.
31- أنظر فتوى شيخ الأزهر الذي أكد أن هذه الأعمال "أسوأ أنواع الفساد في الأرض"، كما أكد بأن "كل من يشارك في عمليات القتل والتفجير والتخريب التي تجري على أرض العراق يستحيل أن يكون مسلما، بل هو مخرب ويجب التصدي لهؤلاء المفسدين، فالوقوف في وجه هؤلاء أمر واجب شرعا"، أنظر الموقع: http://www.nahrain.com/d/news
32- أنظر د. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، مؤسسة السيدة معصومة، ط1،1426 هجري، ص 14.
33- سورة الأحزاب، الآية /21 .
34- سورة القلم / الآية / 4
35- أنظر:- د. خالد محمد صافي، هل انتشار الفساد يعبر عن انفصام ديني ووطني، شبكة الانترنيت للأعلام العربي، 2 شباط 2005
36- أنظر: عبد الكريم محسن باقر وكريم محمد حمزة علم النفس الإداري، بغداد، دار التقني للطباعة والنشر، 1984 ، ص 84 وما بعدها.
37- أنظر د علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي مؤسسة السيدة معصومة ط1 1426هـ ، ص 41.
38- أنظر د. علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، مؤسسة السيدة معصومة، ط1،1426 هجري ، ص176.
39- أنظر د عبد الرضا فرج بدراوي، الفساد الإداري في العراق، الأسباب ووسائل المعالجة كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة البصرة، 2004 ، ص 17.
40- انظر:- د. علي الوردي، مصدر سابق، ص 309 وما بعدها.
الاكثر قراءة في القانون الاداري
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة