حسن الهاشمي
يا لها من معاملة فريدة، يا لها من معاملة مذهلة، الطرف الأول فيها العبد وهو المعطي، والطرف الثاني فيها المعبود وهو الآخذ، أما السائل هو الواسطة بين العبد والمعبود، فريدة لأنها تتمّ بين المخلوق والخالق، بين المحتاج والغني عن العالمين، مذهلة لأنها وبالرغم من ان المعطي والعطاء كله من فضل الله على الانسان، بيد أن لها معطيات تنهمر على المعطي انهمار السيول على الأرض الجدباء، فيها دفع البلاء ودفع القضاء ودفع ميتة السوء، فيها زيادة العمر واستجلاب الرزق، لا يقتصر عطائها في الدنيا فحسب، بل يتعداها الى الآخرة ففيها فسحة القبر في البرزخ، والاستظلال بظلّ الله تعالى يوم القيامة يوم لا ظلّ الا ظلّه، هذا كلّه يأتي من بركات الصدقة التي قال تعالى عنها: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) التوبة: 104. فأكرم بالمعطي والآخذ، فالأول يغدق من عطاء الله، والثاني لا يزيده كثرة العطاء الا جودا وكرما لعباده المخلصين، هذه هي المعاملة الناجعة ودونها خرط للقتاد، وطالما تطأطأت كلّ معاملات الدنيا اجلالا لها واكراما لسخائها الوافر وعطائها الدائم وخيراتها العظام التي لا اضمحلال لها ولا بوار.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (خُلَّتان لا أحب أن يشاركني فيهما أحد: وضوئي؛ فإنه من صلاتي، وصدقتي فإنها من يدي إلى يد السائل، فإنها تقع في يد الرحمن) بحار الأنوار، المجلسي، ج77، ص 329. كيف تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل تعبير مجازي عن عناية الله بالصدقة وقبولها مباشرة، أي أن الله يتلقاها بعنايته قبل أن تصل إلى الفقير، فان الله تعالى يربيها ويُنمّي أجرها ويُضاعفها حتى تكون مثل الجبل، إشارة إلى عظم الأجر، فقد تعطي شيئا بسيطا، لكنه عند الله عظيم.
واعلم ان الصدقة على نوعين: صدقة العلانية وصدقة السرّ، وقد ذكر الله تعالى هذين النوعين بقوله: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ) البقرة: 271. عن الإمام الصادق (عليه السلام): (صدقة العلانية تدفع سبعين نوعاً من البلاء) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1601. وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ) بحار الأنوار، للمجلسي، ج71، ص 82.
صدقة العلانية تعني إعطاء الصدقة بشكل ظاهر أو معلن، وانها تُشجع الناس على البذل والاقتداء، وتُظهر شعيرة الإحسان، أما صدقة السرّ تعني إعطاء الصدقة خفية دون أن يعلم بها أحد، وانها تُحصّنك من الرياء، وتُحفظ للمحتاج كرامته، وثمة مقارنة بينهما ان العلانية معرضة للرياء ولكنها قد تكون قدوة للغير وهي أفضل اذا كانت بنية التشجيع، أما السر فإنها أكثر اخلاصا وتأثيرها خفي بين العبد وربه، وانها أفضل للفقراء ولهيبة ومكانة المتصدق، والخلاصة ان كلاهما أفضل بحسب الحال والظرف والمكان، العلنية تكون أفضل إذا قصد بها التشجيع والتربية على البذل، والسر أفضل في أغلب الحالات لأنها أبعد عن الرياء، وورد أنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) كان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره حتى يأتي باباً فيقرعه، ثم يناول من كان يخرج إليه، وكان يغطّي وجهه لئّلا يعرفه.
ومن خلال روايات أهل البيت عليهم السلام يمكن قطف الثمار التالية للصدقات:
1- تدفع البلاء: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الصدقة تمنع سبعين نوعاً من أنواع البلاء) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1595. انها تحفظ الإنسان من الابتلاءات، سواء في بدنه أو ماله أو عياله، وتكون وقاية خفيّة من المصائب، وتُطفئ الذنوب التي قد تكون سببا في البلاء.
2- تدفع القضاء: عن رسول الله (صلى الله عليه آله): (الصدقة... تدفع القضاء وقد أُبرم إبراماً) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1595. القضاء المبرم هو الحكم الإلهي الذي لا يتغيّر إلا بأمر استثنائي، مثل الدعاء أو الصدقة، فالصدقة هنا تُعدّ من العوامل القادرة على تغيير هذا القضاء، بل ورد أن البلاء قد ينزل، فتأتي الصدقة أو الدعاء فترفعه.
3- تزيد العمر: فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه آله): (تصدّقوا، وداووا مرضاكم بالصدقة؛ فإنّ الصدقة تدفع عن الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1595. زيادة العمر قد تكون حقيقية (أي يعيش أطول فعلاً) أو بركة في حياته وعمره (أي يُوفّق في وقته ويُبارك له في إنجازاته) فالصدقة تجلب لطف الله وتُزيل أسباب الهلاك أو البلاء التي تُنقص من العمر.
4- تدفع ميتة السوء: فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان سبعين ميتة سوء) بحار الأنوار، للمجلسي، ج93، ص 119. ما هي ميتة السوء أن يموت الإنسان فجأة بلا توبة، أو على معصية أو في حالة بعد عن الله، أو في حالة ذل أو مهانة أو رعب، فالصدقة ليست فقط عملاً خيرياً، بل وقاية روحية وجسدية، تحفظ الإنسان من البلاء وتؤمن له حسن الخاتمة.
5- تجلب الرزق: فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة) ميزان الحكمة، الريشهري،ج2، ص 1596. الصدقة تفتح أبواب الخير وتُزيل موانع الرزق مثل الذنوب، فالله تعالى يعوّض المتصدق بعوضٍ مادي ومعنوي: مال، بركة، صحة، توفيق، وكل درهم تُخرجه في سبيل الله يعود إليك مضاعفا، في الدنيا والآخرة.
6- تبرِّد القبر: فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّ الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور) ميزان الحكمة، الريشهري،ج2، ص 1594. تبرّد القبر: أي تخفف من وحشته وضيقته، وتجعل القبر روضة من رياض الجنة، فإنها ترافق الميت بعد موته كأثر من أعماله الجارية، فتُكرمه عند الحساب وتؤمّنه من الخوف.
7- تُظلُّ المتصدّق يوم القيامة: فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أرض القيامة نار ما خلا ظلِّ المؤمن، فإنَّ صدقته تظلّه) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1594. الصدقة لا تنفع في الدنيا فقط، بل تُثمر حتى بعد الموت: راحة في القبر، وظلّ يوم القيامة، وأمان من البلاء.
وبقي ان نعرف أولوية التصدق وعلى من يتصدَّق الإنسان في معرض الإجابة عن هكذا تساؤل نقول ان التصدق ينبغي ان يأخذ التدرج المجتمعي وفقا لمقولة "الاقرباء أولى بالمعروف" وهي تندرج وفقا للأوليات التالية:
1- الرحم، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا صدقة وذو رحم محتاج) بحار الأنوار، المجلسي، ج93، ص 147. التصدق على الرحم (الأقارب) له أجران: أجر الصدقة وأجر صلة الرحم، وفيها تقوية الروابط العائلية، ورفع الكلفة والحرج عن القريب المحتاج، وإدخال السرور على الأرحام مما يزيد من الرحمة الإلهية، إضافة الى ان الصدقة على الرحم تمنع القطيعة، وتُعزز البركة في المال والعمر، واعلم ان الصدقة على الأقارب أولى من غيرهم إذا كانوا محتاجين، فهي تجمع بين النفقة والإحسان وصلة الرحم.
2- المحتاج، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أفضل الصدقة إبراد الكبد الحرّي) ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1599. الصدقة على المحتاج من أفضل القربات، ولها أثر عظيم في الدنيا والآخرة، وان فيها تكفير الذنوب، ودفع البلاء والمرض، وإدخال السرور على قلب المؤمن، ورضا الله وتوفيقه في الرزق، فالصدقة على المحتاج عبادة عظيمة، تمسّ حاجته وترفع منزلتك عند الله، فاجعلها عادة دائمة.
3- المتعفِّف، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) البقرة: 273. الصدقة على المتعفف (الذي لا يسأل الناس رغم حاجته) لها أجر عظيم وفضل خاص، لأنها تصل لمن يستحي أن يُظهر فقره، فالمتعفف لا يسأل، لكن حاجته شديدة، فمن يكتشف حاله ويعطيه، ينال ثواب الصدقة وفضل إدخال السرور الخفي على قلبه، ويحتاج الأمر إلى ملاحظة دقيقة وتعاطف إنساني، فالصدقة على المتعفف أرقى أنواع العطاء، لأنها تكشف صدق النية وسمو القلب.