حسن الهاشمي
تحذير شديد من أعظم الذنوب الاجتماعية التي تُغضب الله وتُفكك المجتمع وتُسلب البركة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إن لي أهلا قد كنت أصلهم وهم يؤذوني، وقد أردت رفضهم، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذن يرفضكم الله جميعا، قال: وكيف أصنع قال: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، فإذا فعلت ذلك، كان الله عز وجل لك عليهم ظهيرا) بحار الانوار للمجلسي: ٧٤ / ١٠٠ / ٥٠. "تصِل من قطعك" هو مبدأ أخلاقي عظيم دعا إليه الإسلام، ويعني: أن تبادر ببرّ من أساء إليك من أقاربك، وتُحسن إلى من قاطعك، فالواصل الحقيقي ليس فقط من يرد الجميل بمثله، بل من يبادر بالصلة ولو جفاه أقاربه، لما لهذه الخصلة الحميدة من آثار جمة منها:
1ـ رضا الله عز وجل، فانه يتجلى بالتواصل لا بالقطيعة، بالمحبة لا بالجفاء.
2ـ إطفاء نار العداوة، لما للصلة من اخماد كل ما من شأنه اذكاء نار الفتنة بين الأهل والاقرباء.
3ـ تحقيق الأخوة الإيمانية الحقيقية، فإنها تتحقق بالتواصل والمبادرات، وتتوثّق بالتغاضي عن الهفوات، وتتعمّق بالمبادرة في عمل الخيرات.
4ـ بركة في العمر والرزق، وأي بركة أعظم من ردم مستنقعات الكره وبذر بذور المحبة والطهر.
أن تصل من قطعك يعني أن ترتقي بأخلاقك، وتجعل رضا الله فوق كل اعتبار، وتكون عنصر إصلاح في مجتمعك، لا تابعا لأحقاد الآخرين، وتضع قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصب عينيك: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم) الخصال للصدوق: ١ / ١٧٩ / ٢٤٣. واعلم ان آثار قطيعة الرحم هي:
1ـ سخط الله وحرمان الرحمة، كيف لا تكون كذلك وهي سبب الفرقة والكره والجريمة.
2ـ تعجيل العقوبة في الدنيا، وهي بلا شك من الآثار الوضعية للذنوب، وما أتعس القطيعة من ذنب وموبقة يتلقى فاعلها تداعياتها وهو صاغر مذموم.
3ـ نقص في الرزق والعمر، وهذه من سنن الله تعالى ولا تجد لسنة الله تبديلا.
4ـ تفكك الروابط الاجتماعية، وهو أمر طبيعي ان القطيعة تسبب التفكك الاجتماعي وتركز تداعيات الحقد والانتقام بين الأفراد.
5ـ ضياع القدوة الصالحة بين الأرحام، والحق يقال ان القدوة الصالحة تتجسد في رجل يحمل بين طياته مقومات المحبة والوئام وهي بعيدة كل البعد عن الكره والوقيعة والانتقام.
اذا خيروك بين صلة الرحم التي تطيل في العمر، وتبارك في الرزق، وتقرّب العبد من الله تعالى، وبين قطيعة الرحم التي تكون سببا في عدم دخولك الجنة فأيهما تنتخب لا شك ولا ريب إنك تنتخب الجنة على ما سواها، لأنك تدرك قبل غيرك ان لقاطع الرحم انذار يدل على شدة الخطر، ليس هذا وحسب، بل ان قطيعة الرحم معصية كبرى تُدمّر الفرد والمجتمع، وهذه الكبوات بالتأكيد لا توصلك الى مرادك.
والحقيقة التي لا مناص من ذكرها ان صلة الرحم واجبةٌ على المسلم، وقطيعته من الكبائر، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن قطيعة الرَّحم، فقال في محكم كتابه الكريم: )فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (محمد: 22، 23 .من الأمور التي لها آثار سلبية على حياة الفرد قطيعة الرحم فإنها وكما ورد في الآية الشريفة الآنفة الذكر فساد في الأرض وانتهاك لحدود الله وتمرد على الأحكام الشرعية، وما لها من آثار وخيمة تصيب المتصف بهذه الخصلة الذميمة التي لا يتمخض عنها سوى الحقد والعداوة والبغضاء بين الناس، ولا تجلب سوى الدمار والفساد والتفكك الأسري ومن خلاله التفكك المجتمعي.
واعلم ان قطيعة الرحم تصب في سقوط المجتمع وانحلاله وتشرذمه إلى جماعات متناحرة متباغضة متباعدة فيما بينها، ولكي لا يؤول أمر الأمة إلى هذا المستنقع الآسن، فإن الله تعالى شدد في عقوبة قاطع الرحم، فطرده أولا من رحمته الواسعة، وضرب على سمعه غشاوة لكي لا يستمع إلى الحق ثانيا، وأعمى بصره وبصيرته لكي لا يهتدي إلى الهدى ثالثا، ويا لها من عقوبة زاجرة لكل من تسوّل له نفسه بانتهاج هذا السلوك المعوج.
ومن الآيات المرتبطة بصلة الرحم ويفهم منها بالملازمة حرمة قطيعة الرَّحم قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشِركوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) النساء: 36. ومن مفهوم الملازمة فان العبادة لا تتم والشرك يتحقق ليس بقطيعة الأهل والأقرباء فحسب، بل تتحقق بقطيعة الجار والصديق وابن السبيل والعبيد والاماء، وهذا يعني ان الإسلام لا يهتم بالتماسك الأسري فحسب، بل يهتم بالتماسك المجتمعي وهو قمة في الترابط الاجتماعي والتواصل مع كافة الشرائح بنفس انساني يجلب المحبة ويردم كل من من شأنه انحطاط المجتمع وتفككه، وهو انذار شؤم بترك القطيعة على المستوى الاجتماعي، والتمسك بعروة الصلة التي توصلك بلا شك الى العبادة الحقة والسعادة الحقيقية.
أما قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأنفال: 75. فانه يكرس التآخي والتواصل فيما بين الأرحام بأبهى صورها، فالأرحام أولى ببعضهم في الميراث والتواصل والتكافل، بحسب حكم الله وتشريعه في القرآن، من غيرهم كالمؤاخاة أو التبني، فالآية نزلت لتبيّن أن القرابة الرحمية تُقدّم على الروابط الأخرى (كالمؤاخاة التي كانت في صدر الإسلام) حيث كانت الهجرة والمواخاة تُرتب عليها أحكام خاصة، ثم نسختها هذه الآية، فأثبتت أن الإرث والولاية الشرعية تكون لذوي الأرحام، لا لغيرهم، والأولوية تثبت في الميراث، فالأقرباء أحق من غيرهم في صلة الرحم، ويجب وصلهم وبرّهم والتعاطي معهم بكل ود واحترام وتقدير.
التكافل الحقيقي ينبغي ان ينطلق من الأقارب أن يدعم بعضهم بعضا ومن ثم الأقرب فالأقرب الى ان تتسع الدائرة فتشمل المجتمع برمته، والرسالة التربوية في ذلك ان الإسلام جعل الرابطة العائلية والرحمية مقدّمة، في الحقوق والواجبات، وهو بذلك يؤكد ان تعزيز صلة الرحم ليست مسألة عاطفية فقط، بل واجب شرعي موثّق في كتاب الله تعالى، فتعزيز الصلة العائلية هي التي تقوي وتعزز الصلة المجتمعية.
ولأهمية هذه الخصلة المباركة فان الله تعالى قد قرنها بتقواه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء: 1. وهو خطاب موجه لعامة الناس الذين يتساوون في الإنسانية من حيث أصل الخلقة حيث أن البشرية كلهم من آدم وآدم من تراب، ولكن المائز الذي يميز الطيب من الخبيث والفائز من الفاشل هو الإيمان بمبدأ التوحيد من عدمه، ذلك المبدأ الذي هو الأصل الأصيل في جميع الشرائع والأديان السماوية.
ولا يخفى على كل ذي لب ان أهمية صلة الرحم تأتي من أن الله تعالى قد قرنها باسمه المبارك، وهو دليل على عظم هذا المبدأ في التشريع الإسلامي، ومثلما يؤكد على تقوى الله ومخافته في السراء والضراء، وذلك بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات وترك الشبهات، وما لاسم الجلالة من عظمة وتقديس في نفوس المسلمين الذين يتحالفون به ويوثقون باسمه المبارك معاملاتهم وعقودهم ومواعيدهم، فإن لصلة الأرحام هذه القدسية والمهابة والرفعة، يقطف المرء ثمارها إذا ما مارسها وتبنّاها، أما إذا ما أحجم عنها وهجرها فإنه لا محالة يضرب بينه وبين أرحامه ومعارفه طوقا من العزلة الاجتماعية التي هي ليست صفة ممقوتة دينيا فحسب، بل إنها صفة مذمومة في كل المجتمعات الإنسانية المتحضرة.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN