الكيمياء العضوية تلعب دورًا جوهريًا في عمليات الذاكرة والتعلم داخل الدماغ، وهي المسؤولة عن التفاعلات الجزيئية التي تحدث بين الخلايا العصبية أثناء استقبال المعلومات، معالجتها، وتخزينها. فعندما يتعلم الإنسان شيئًا جديدًا، لا تكون المسألة مجرد إدخال معلومات إلى الدماغ، بل تبدأ سلسلة معقدة من التفاعلات الكيميائية العضوية الدقيقة.
الذاكرة تتشكل عندما يتم تقوية الاتصالات بين الخلايا العصبية، وهي عملية تعرف بالتقوية طويلة الأمد. في هذه المرحلة، يزداد تدفق الأيونات، خصوصًا الكالسيوم، إلى الخلايا العصبية، مما يؤدي إلى تنشيط إنزيمات معينة تساهم في إنتاج بروتينات جديدة تعزز من قوة الاتصال بين الخلايا. هذه البروتينات لا تُصنع عشوائيًا، بل من خلال أوامر تُرسل من نواة الخلية على شكل الحمض النووي الريبي الرسول (mRNA)، وهو مركب عضوي ينقل التعليمات الوراثية اللازمة لبناء البروتينات.
النواقل العصبية، وهي مواد كيميائية عضوية أيضًا، تلعب دورًا رئيسيًا في هذه العمليات. الغلوتامات، على سبيل المثال، يُعد الناقل العصبي الأساسي المسؤول عن بدء عمليات التعلم. عندما يُطلق في الفجوة بين خليتين عصبيتين، يرتبط بمستقبلات خاصة تؤدي إلى سلسلة من التغيرات الكيميائية داخل الخلية المتلقية. أما الأسيتيل كولين، فهو يدعم التركيز والانتباه، وهما عاملان مهمان في ترسيخ المعلومات الجديدة في الذاكرة. من جهة أخرى، يلعب الدوبامين دورًا تحفيزيًا، إذ يعزز من رغبة الدماغ في تكرار النشاطات المرتبطة بالمكافأة، مما يجعل التعلم أكثر فعالية عندما يكون مصحوبًا بالمشاعر الإيجابية.
كذلك لا يمكن تجاهل أهمية الدهون والبروتينات في هذه العمليات أغشية الخلايا العصبية مكونة من دهون فوسفورية ، وهي مركبات عضوية تسمح بتبادل الإشارات والمعلومات. وبدون هذه الأغشية المرنة ، لا يمكن للخلية العصبية أن تتفاعل بشكل فعال مع بيئتها. البروتينات التي يتم تصنيعها خلال عمليات التعلم ضرورية لتقوية الشبكات العصبية ، وهي بدورها مركبات عضوية أساسها الكربون والنيتروجين.
الغذاء الذي يتناوله الإنسان له تأثير مباشر على هذه العمليات. المواد مثل أوميغا-3، والكولين، وفيتامين B-12، وهي مركبات عضوية نحصل عليها من الطعام، تدعم وظائف الذاكرة وتقلل من خطر الإصابة بأمراض مثل الزهايمر. وعند نقص هذه المواد، تتعطل التفاعلات الكيميائية الضرورية، مما يؤدي إلى ضعف في الذاكرة أو صعوبة في التعلم.
في النهاية، يمكن القول إن الذاكرة والتعلم ليسا مجرد عمليات عقلية غامضة، بل هما نتائج مباشرة لتفاعلات كيميائية عضوية معقدة ودقيقة تحدث داخل الدماغ باستمرار. فهمنا لهذه التفاعلات يمنحنا القدرة على تطوير طرق لتحسين الأداء الذهني، علاج الاضطرابات العصبية، وحتى تعزيز القدرة على التعلم بطرق علمية دقيقة. الكيمياء العضوية، إذًا، هي اللغة الخفية التي يكتب بها الدماغ ذاكرته.







وائل الوائلي
منذ 4 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN