تُعد الكيمياء الكمومية من أعقد فروع الكيمياء وأكثرها إثارة، فهي تمثل تقاطعًا فريدًا بين قوانين فيزيائية دقيقة وسلوك الجزيئات والذرات في العالم المجهري. ورغم أن هذا المجال يبدو في ظاهره بعيدًا عن التطبيقات البيولوجية، إلا أن له حضورًا مدهشًا في جسم الإنسان، لا سيما في وظيفة حيوية مثل الرؤية. ففي أعماق العين، حيث لا ترى أعيننا المجردة، تجري سلسلة من التفاعلات التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال مبادئ ميكانيكا الكم.
تبدأ عملية الرؤية حين يدخل الضوء إلى العين ويصل إلى الشبكية، وهي طبقة من الخلايا الحساسة للضوء تقع في مؤخرة العين. في هذه الشبكية توجد جزيئات خاصة قادرة على امتصاص الضوء وتحويله إلى إشارات عصبية تُرسل إلى الدماغ. من بين هذه الجزيئات، يعتبر الرودوبسين الأهم في الخلايا العصوية المسؤولة عن الرؤية في الضوء الخافت. يتكون الرودوبسين من بروتين يُدعى أوبسين يرتبط بجزيء صغير مشتق من فيتامين A يُعرف بالريتينال.
عندما يصطدم فوتون، وهو الجسيم الأساسي للضوء، بجزيء الريتينال، يبدأ تفاعل فريد من نوعه على المستوى الذري. يمتص الريتينال طاقة الفوتون فيحدث تحول بنيوي في لحظة زمنية فائقة القِصر، لا تتعدى بضع مئات من الفمتوثواني، وهي زمن يصعب تصوره في حياتنا اليومية. هذا التحول يُعرف باسم التغير التبايني، حيث يتغير شكل الريتينال من هيئة تُعرف بـ 11- سيس إلى هيئة تُعرف بالترانس-كلي. هذا التحول ليس ميكانيكيًا بالمعنى الكلاسيكي، بل يحدث نتيجة انتقال إلكتروني بين مستويات الطاقة داخل الجزيء، وهي ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا باستخدام معادلات ميكانيكا الكم.
هذا التغير البسيط في شكل الريتينال يؤدي إلى تغير كبير في شكل جزيء الرودوبسين بأكمله، مما يؤدي إلى تنشيط سلسلة من التفاعلات الكيميائية المتسلسلة التي تنتهي بإنتاج إشارة كهربائية تُنقل إلى الدماغ، حيث تُفسر على أنها صورة. هنا نلاحظ كيف أن حدثًا كموميًا مجهريًا يمكن أن يُضخّم ليُنتج تأثيرًا محسوسًا على مستوى الوعي البشري.
اللافت أن هذا التفاعل لا يتطلب طاقة حرارية كبيرة، بل يعتمد على التفاعل الدقيق بين الجزيئات والضوء، وهو ما يجعل العين قادرة على العمل حتى في ظروف الإضاءة المنخفضة. بعض الدراسات الحديثة تشير إلى أن العين البشرية قد تكون حساسة بدرجة كافية لتمييز فوتون مفرد، وهو ما يُعطي الرؤية أبعادًا كمومية أعمق مما كنا نظن. وهناك أيضًا اهتمام علمي متزايد حول إمكانية وجود ظواهر كمومية أخرى في العين، مثل النفق الكمومي أو حتى التشابك الكمومي، لكن هذه الاحتمالات لا تزال في إطار البحث والنظرية.
إن فهم عملية الرؤية من منظور كيمياء كمومية يكشف عن مدى تعقيد وبراعة التصميم الحيوي في الطبيعة، فالعين ليست مجرد عدسة عضوية بل هي كاشف كمومي بالغ الدقة. وبينما تتقدم الأبحاث في هذا المجال، يتضح أكثر فأكثر أن مبادئ ميكانيكا الكم ليست حكرًا على المختبرات الفيزيائية أو أجهزة الحوسبة المتقدمة، بل هي جزء من العمليات الحيوية اليومية التي تسمح لنا أن نرى العالم ونفهمه.







وائل الوائلي
منذ 4 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN