لا تُفنِ عمرك في المراء مخاصمًا... إنَّ المراء يخلُّ بالأديانِ
واحذرْ مماراة الرجالِ فإنها... تدعو إلى البغضاء والشنآنِ
مثلما أكد الشاعر على ان المراء سبة ينبغي تركها وهجرها لما تسببه من خدش في الأديان والنفوس والأبدان، فلا غرو من أنك تدخل مع شخص في حوار مثمر، ذلك ما ندب إليه الشرع والعقل؛ لتلاقح الأفكار والخروج بمخرجات ربما تكون جديدة وغير مألوفة لدى الأطراف المتحاورة تماشيا مع المقولة العلوية الشهيرة (من شاور الناس شاركهم في عقولهم) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة للراوندي ج3 ص328. وكيف لا والمتحاورون كلهم يطلبون الحقيقة أنى وجدوها ومن أي فم انطلقت اقتنصوها، هذا الحوار الهادف سماه القرآن الكريم المجادلة بالتي هي أحسن: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل: 125. أما المراء اذا دخل حوارا ما أفسده وجعل أهله أذلة متشرذمين، ولكي لا نقع في خانة أولئك المتخاصمين فقد ندب الشرع المقدس ترك المراء والجدال غير المثمر الذي لا ينوي صاحبه الا ايقاع الطرف المقابل بشراك المسخرة والعداوة والتحقير.
ولا يزال الواحد منا يقف متأرجحا بين الحوار المندوح والممنوع، وعلينا معرفة الخيط الأبيض من الخيط الأسود لنميز بينهما للحؤول دون الوقوع في مطبات الفتن والاغواء والالهاء، وقبل ذلك لا بأس بأن نتعرف على معنى المراء لغةً: فهو الجدال، والتماري والمماراة: المجادلة على مذهب الشكِّ والريبة (لسان العرب لابن المنظور).
ومعنى المراء اصطلاحًا: هو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع، وقال الجرجاني في هذا الصدد: المراء هو طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير (التعريفات الاعتقادية لسعد آل عبد اللطيف، ص265) .
لهذا نجد إن أهل المراء والخصام أكثر عرضة لملامة الناس وتحقيرهم وسلب الثقة والكرامة عنهم في الأوساط الاجتماعية، لما يتصفون به من خصال ذميمة أقلها الكبر والختل والاستعلاء على الناس وتسفيه آرائهم والخوض في حيثياتهم، وهذا بطبيعة الحال له من الأثر البالغ في ضعضعة الدين والعقيدة لدى المتخاصمين الذين يضمر كل واحد منهم حيال الآخر الكثير من النصب والاحتيال والتدليس بهدف افحام الخصم بأساليب ملتوية ما أنزل الله بها من سلطان، علاوة على أن المراء يبذر بذور الفتنة والبغضاء في النفوس لخدشها والانتقاص منها ومحاولة الطرف المتضرر معنويا أن ينتقم في الجولات القادمة تعويضا لما أصابه من حيف وهدر كرامة ابان خوضه المجادلة مع بقية الأطراف.
وهكذا فان رسول الله صلى الله عليه وآله يحذرنا من الوقوع في شراك المراء ويبشرنا بالنجاة في حالة تركه وعدم الخوض في متاهاته القاصمة وإن كان أحد أطراف المراء على حق وصواب: (أنا زعيم بيت في أعلى الجنة وبيت وسط الجنة وبيت في رياض الجنة، لمن ترك المراء وإن كان محقا ، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلا ، ولمن حسن خلقه) الخصال للشيخ الصدوق ج1 ص144. تكلمنا عن أهل المراء وهم الشريحة الأولى التي ضمن الرسول الأكرم لهم الجنة والرضوان في حال عدم الوقوع في شراكها القاتل، أما الشريحة الثانية من الذين يحجزون مقعدا في الجنة بكفالة الرسول الأعظم مختصة لمن ترك الكذب وإن كان هازلا، فالكذب مذموم أصلا ولا يصلح في جد ولا هزل.
ولعل من الحكمة في النهي عن الكذب ولو في حالة المزاح ما ذكره بعض أهل العلم من أنه يجرّ إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين يؤذيهم الحديث عنهم، كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب وإشاعته فيختلط في المجتمع الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ، وقد جاء عن أمير المؤمنين (ع): (لا يجد الرجل طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده) الوافي للفيض الكاشاني ج5 ص927. وقد جاء التحذير من الكذب لإضحاك الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصية له لأبي ذر رضي الله عنه: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له ويل له ويل له) الوافي للفيض الكاشاني ج26 ص198.
وهكذا فان الاسلام يريد ان يحافظ على هيبة وكرامة الانسان من أن تخدش بمراء أو كذب أو غيبة أو نميمة وغيرها من الصفات الذميمة وما يتسبب منها من اذلال وانتهاك وتعسف وتحقير، ولا يمكن القضاء على هذه الآفات الفتاكة بالمجتمع إلا من خلال التقمص بالخلق الحسن، وهم طبقة الشريحة الثالثة الذين حجز لهم الرسول في الجنة غرفا في رياضها الرحبة يشربون من مناهلها العذبة ويرتعون في ربوعها الخضرة، ولا يمكن الترفع عن المراء والكذب وسائر الصفات السيئة الا بالخلق الرفيع الذي ما رقى به إنسان الا زانه وما تخلى عنه أحد إلا شانه، ذلك الخلق الحسن الذي تميّز به الانبياء والأولياء والصلحاء واستطاعوا بمكارم الأخلاق من نيل الدرجات الرفيعة والمقامات الحميدة، وكفى بهذه الخصال ارتقاء ومنزلة في الدنيا، وعلوا وكرامة في الآخرة، وحسن أولئك رفيقا.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN